صفحات الرأي

اللحظة الفارقة في الصراع والتقدم/ إبراهيم غرايبة

 

يعرض دارون اسيموغلو وجيمس روبنسن في كتابهما «لماذا تفشل الدول؟» قصة النهضة البريطانية في أواخر القرن السابع عشر، وكيف استطاعت بريطانيا أن تتحول إلى امبراطورية مزدهرة عظيمة لا تغيب الشمس عنها.

كانت بريطانيا قبل القرن السابع عشر يحكمها نظام اقتصادي سياسي يعود بالفائدة والامتيازات على فئة قليلة من المواطنين، وكانت النخبة تحتكر كل شيء، وكان الملك يملك ثروة واسعة من وراء منح الامتيازات! وكان البرلمان لا ينعقد إلا بدعوة من الملك، ولكن الاستبداد والاحتكار هذين أديا الى الثورة (1688) التي تسمى في الأدبيات البريطانية «المجيدة» بقيادة البرلمان، وعزل الملك جيمس الثاني ونصّبت ابنته ماري ملكة، وأعلنت وثيقة الحقوق عام 1689 والتي تنص على أن سلطة الملك مستمدة من الشعب عبر برلمانه المنتخب، وضمان حرية الرأي، وتقييد الضرائب.

قبل النهضة البريطانية كانت إسبانيا قد نهضت من اتحاد ممالك اراغون وقشتالة، ووصل كولومبوس الى القارة الأميركية مدعياً خضوعها للملكة ايزابيلا وفرديناد اللذين موّلا رحلته، وتطورت مملكة إسبانيا عبر سلسلة من علاقات المصاهرة بين أبناء الملوك الأوروبيين وبناتهم، وساعد اكتشاف المعادن الثمينة في القارات الجديدة على تقوية مملكة إسبانيا وثرائها، ثم لجأ ملوك إسبانيا لأجل سد العجز المتواصل إلى مصادرة أموال العرب واليهود وطردهم من إسبانيا.

يعتبر النموذج الإسباني مثالاً واضحاً عن كيفية إلحاق الاستبداد الضرر بالمؤسسات الاقتصادية وكيف يؤدي تغييب الحماية للحقوق والملكيات إلى الانهيار الاقتصادي، وفي المقابل يمكن النظر إلى النجاح الاقتصادي البريطاني بعد الثورة المجيدة 1688 فالثورة التي كانت ضد الاحتكار والامتيازات اطلقت الفرص للمشاركة الاقتصادية، ونشأت سوق واسعة للتجارة عبر الاطلسي، وتشكلت طبقة جديدة من التجار والمغامرين.

وفي الوقت الذي أدى الاستبداد الى الفوضى والتمرد في إسبانيا ثم الاحتلال الفرنسي في عهد نابليون، أدت الحريات في بريطانيا إلى قيام دولة مركزية فاعلة، وتحول النظام الملكي الإسباني إلى بيع الامتيازات والحصانات فيما كانت الدولة البريطانية ترعى التجارة والتصنيع، وانخفض سكان الحضر (المدن) في إسبانيا من 20 في المئة إلى 10 في المئة، وكانت المدن الانكليزية تنمو وتجتذب التجار والمستثمرين من خارجها ومن إسبانيا بخاصة.

وفي روسيا والنمسا والمجر أضيف إلى الاهمال منع التقنية الجديدة مثل سكة الحديد، ما أعطى الفرصة لألمانيا أن تحتل مساحات واسعة من أوروبا الوسطى، وسقطت امبراطوريات هابسبورغ وبوربون، فلم تعد أنظمة القنانة قادرة على الصمود في موجة الصناعة! أحد ملوك هابسبورغ قال: «لست في حاجة إلى علماء! وعندما انطلقت موجة قوانين العمل والحقوق العامة والرعاية الاجتماعية قال أحد القادة السياسيين: كيف سنحكم الجماهير عندما يتعلمون ويتمتعون بحقوقهم ويصبحون قوة سياسية؟ ورفض فرانسيس الأول (1708 – 1765) امبراطور النمسا تطوير الصناعة لأنها ستحسن حياة الفقراء وتجعلهم من أنصار المعارضة، وتهدد مكانة النخب التقليدية، فهو كان يريد مجتمعاً زراعياً تقليدياً تقوده أقلية من النخب، وعارض الاباطرة بناء مصانع أو شق سكة حديد، لأنها تشجع الثورة، وتقوض النظام الاقطاعي القائم.

لم تكن النمسا والمجر وحدهما في مواجهة الصناعة والخوف منها، فامبراطورية القياصرة في روسيا بذلت وسعها في ذلك لأجل المحافظة على الاقتصاد والمجتمعات الزراعية القائمة على نظام «الأقنان» العبودي، حيث كان نصف السكان يعملون في أراضي النبلاء ويخضعون للظلم والعبودية، بل يراهَن عليهم في موائد القمار! أو يبدلون بكلاب الصيد، وينزع منهم اطفالهم قسراً، ويتعرضون للعقوبات والجلد والاستغلال الجنسي، وكانوا ينتحرون بالجملة.

رأى نيكولاي قيصر روسيا في منتصف القرن التاسع عشر في التصنيع ثورة أقسم على مواجهتها ما دام قادراً على التنفس! وفي خطابه إلى الشركات الصناعية في معرض موسكو الصناعي قال: يجب الانتباه إلى ان الصناعة يمكن ان تتحول من نعمة الى شرّ، فالعمال يتحولون إلى خطر على أنفسهم وعلى أسيادهم!

وفي عام 1848 تعرضت أوروبا لسلسلة من الثورات، ورداً على ذلك اصدر قيصر روسيا تعليمات وأوامر تمنع تجمع العمال، وتضع قيوداً صارمة على المصانع، ولا تسمح ببناء مصانع جديدة إلا في ظل قيود وشروط صعبة وبخاصة بعد انتشار صناعة النسيج والصباغة والتعدين، وحظر غزل القطن بصراحة، وفسر منع سكة الحديد بأنه لا ضرورة لها، وأنها تشجع السفر غير الضروري!

يبدو واضحاً اليوم أن التقدم القائم تشكل حول الثورة الصناعية وما تبعها من سلسلة تطورات هائلة في الموارد وصولاً إلى اقتصاد المعرفة وتقنياتها. لكن لماذا لم تستفد من التقنية أمم ودول كثيرة كما استفادت دول أخرى؟ الإجابة أيضاً تكاد تكون بديهية ومجمعاً عليها في عدم التفاعل الصحيح بين المرحلة والموارد، أو الفشل في الإجابة عن السؤال البديهي والتلقائي: كيف تستجيب الدول والمجتمعات للمرحلة؟ كيف تلتقط اللحظة أو الفرصة السانحة؟ ففي الوقت الذي التقطت دول عدة تقنيات الطباعة في انتشار التعليم وتطوير المهن والحرف والاختراعات، تعاملت معها دول ومجتمعات أخرى برفض وعدائية، وما زلنا نقرأ حتى اليوم من يحمّل مشروع محمد علي التحديثي في مصر كل الشرور والآثام وينتقد رفاعة الطهطاوي في أن مشروعه للترجمة والطباعة كان سبب التخلف والهزائم!

والواقع أن معظم دول العالم ونخبه المهيمنة اقتبست التقنية والأنظمة الحديثة للدول المتقدمة، ولكن يمكن ملاحظة أن الفاشلة منها ظلت تدير التحديث والتقنيات على النحو الذي يعود بالفائدة على أقلية من الناس، أي التقنية التي تنتج التخلف والتحديث المنشئ للفقر والجهل والمرض، أو لنقل عبقرية الفشل. هذا ما يمكن ملاحظته في كثير من الدول الفاشلة.

* كاتب أردني

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى