صفحات الرأي

اللحظة الكونيّة للثورات العربيّة

 

حازم صاغية

واجهت الديموقراطيّة، كفكرة وكممارسة معاً، تحديين كبيرين على امتداد القرن العشرين: الفاشيّة ومشتقّاتها من جهة، واللينينيّة ومشتقّاتها من جهة أخرى. فالإيديولوجيّتان هاتان، وعلى رغم الكثير ممّا يفصل بينهما، التقتا على رفض الديموقراطيّة الليبراليّة والتشهير بها، وعلى التبشير بنظام توتاليتاريّ يكون بديلاً عنها، ثمّ اعتماده وتطبيقه.

ومع انتهاء الحرب العالميّة الأولى، بدا كأنّ التحديين المذكورين في صعود وتقدّم. ففي 1917، وصل الشيوعيّون البلاشفة إلى السلطة في روسيا القيصريّة بزعامة فلاديمير إليتش لينين. وفي 1922 صار بنيتو موسوليني رئيساً لحكومة إيطاليا التي حوّلها إلى ديكتاتوريّة مطلقة في 1926. وما هي إلاّ سبع سنوات حتّى أحكم الحزب النازيّ وأدولف هتلر قبضتهما على ألمانيا.

لكنّ نهاية الحرب العالميّة الثانية قضت على أحد هذين التحديين، إذ أُلحقت هزيمة كاسحة بالفاشيّات الألمانيّة والإيطاليّة واليابانيّة، فيما انتعش التحدّي الشيوعيّ للديموقراطيّة واتّسع نطاقه: هكذا امتدّ النظام الستالينيّ، منقولاً على ظهور دبّابات الجيش الأحمر، إلى سائر بلدان أوروبا الوسطى والشرقيّة، بينما انتصرت عام 1949 الثورة الشيوعيّة التي قادها ماو تسي تونغ في الصين. بيد أنّ الديموقراطيّة أيضاً حقّقت انتصارات كبرى كان أهمّها اثنين: ذاك أنّ اليابان التي احتلّها الأميركيّون بنتيجة الحرب العالميّة تبنّت دستور ماك آرثر الذي أفضى إلى دمقرطتها وكسر بُناها العسكريّة والامبراطوريّة المتهرّئة. كما أنّ الهند التي نالت استقلالها عن بريطانيا في 1947، تبنّت النظام الديموقراطيّ ومؤسّساته التمثيليّة، من دون أن تحول دون ذلك حربها الأهليّة التي نشأت عنها دولة باكستان. وأهمّ من ذلك ربّما أنّ الأنظمة الديموقراطيّة في أوروبا الغربيّة استقرّت وتوطّدت بفضل مشروع مارشال الأميركيّ من ناحية، كما بفعل إصلاحات بنيويّة كبّرت دور أجهزة الدولة في توزيع الثروة من ناحية ثانية. هكذا انكمشت المخاوف السابقة من سقوط بعض تلك الدول، خصوصاً فرنسا وإيطاليا، في أيدي القوى المتطرّفة.

في هذه الغضون، ومع عمليّات نزع الاستعمار في آسيا وأفريقيا، على مدى الخمسينات والستينات، نشأت أنظمة جديدة قريبة إلى النموذج السوفياتيّ وقد طُعّم بالنموذج الفاشيّ، أكثر كثيراً ممّا نشأت أنظمة قريبة إلى النموذج الديموقراطيّ والليبراليّ الغربيّ. كذلك عرفت دول أميركا اللاتينيّة أنظمة زعاميّة وبونابرتيّة ربّما كان أهمّها وأعمقها أثراً نظام خوان بيرون في الأرجنتين.

كلّ هذا تغيّر مع انتهاء الحرب الباردة ما بين 1989 و1991: فالمعسكر السوفياتيّ انهار تماماً من داخله، وبانهياره، وبسقوط جدار برلين الشهير، زال التحدّي الآخر الذي يقف في مواجهة الديموقراطيّة فكرةً وممارسةً. ولئن احتفظت الصين الشيوعيّة بنظام الحزب الواحد وباللفظيّة الستالينيّة – الماويّة، إلاّ أنّها أرفقت ذلك باعتماد نظام اقتصاديّ رأسماليّ، إن لم يكن متطرّفاً في رأسماليّته. في الوقت نفسه، توسّع النظام الديموقراطيّ إلى بلدان أخرى في أميركا اللاتينيّة وآسيا، كما سقط نظام التمييز العنصريّ في جنوب أفريقيا.

في هذه اللحظة سُكّ تعبير “الاستثناء العربيّ”، الذي قُصد منه التعبير عن عدم تأثّر العالم العربيّ بالموجة الثوريّة الديموقراطيّة الجديدة. ولم يخل الأمر من ظهور أصوات تحاول أن تصبغ هذا “الاستثناء” بصبغة جوهرانيّة، موحيةً أنّ العرب “جوهريّاً” لا يثورون ولا يطلبون التغيير، ناهيك عن طلب الديموقراطيّة.

والواقع أنّ ما عُرف بثورات “الربيع العربيّ” إنّما جاء، في هذا السياق، كما لو أنّه ردّ على مثل هذا التصنيف. ذاك أنّ العرب ثاروا في غير بلد وأسقطوا أكثر من نظام من أنظمتهم باسم الإرادة الشعبيّة (“الشعب يريد إسقاط النظام…”). مع هذا، لا يزال من المبكر القول إنّهم انتموا إلى اللحظة الكونيّة الجديدة الموسومة بصعود الديموقراطيّة.

فهذا الصعود، أصلاً، ليس خطّاً أحاديّاً عديم التعرّج والالتواء، والتاريخ السابق شاهد غنيّ على ذلك. يكفي، مثلاً، أن ننظر إلى روسيا اليوم لنلحظ مدى ودوام التأرجح بين الديموقراطيّة والاستبداد. وهذا فضلاً عن أنّ الثورات العربيّة التي نجحت، وتنجح، في إحراز الحرّيّة، سوف تواجه امتحان الديموقراطيّة الأصعب باستعدادات وقدرات أقلّ. يكفي التذكير بالإضعاف المتوالي الذي تعرّضت له الطبقات الوسطى العربيّة، وبوهن التقاليد السياسيّة وضعف ممثّليها، فضلاً عن أنّ مسألة الإصلاح الدينيّ إنّما تعرّضت في العقود الماضية لنكسات متتالية أرجعتها إلى ما قبل زمن الشيخ محمّد عبده. وإذا صحّت هذه المخاوف في الدول الأكثر تجانساً سكّانيّاً، كمصر وتونس، فإنّ صحّتها تتزايد في البلدان الأقلّ تجانساً، كسوريّا واليمن وليبيا.

وقصارى القول إنّ ثورات “الربيع العربيّ” التي أكسبتنا معركة الحرّيّة، وضعتنا، للمرّة الأولى، أمام تحدّي الديموقراطيّة الكونيّ. وهذا مكسب بذاته، وإن كان رهاناً قد نكسبه وقد لا.

http://www.24.ae/Article.aspx?ArticleId=8564&SectionId=33

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى