صفحات مميزةعلا شيب الدين

اللغة الثائرة و”التعرية”

    علا شيب الدين

1

حين يزمجر الشعب مريداً إسقاط النظام لا يفضح الخطأ فحسب، بل ينزع عنه سمة “الطبيعيّ” أيضاً، السّمة التي طالما برّر النظام من خلالها الخطأ الكارثيّ. يخبرنا رولان بارت بأنّ ثمة “تعمية” حاصلة، وهي نوع من الخداع يمارسه البعض في خطبهم السلطوية التآمرية، كأن يُقال: “طبيعييّ” أن تحصل أخطاء، والغرض اللاأخلاقي هنا، هو إعطاء الظواهر التاريخية أو الثقافية مظهر الظواهر الطبيعية، والردّ الوحيد على التعمَية، هو فضحها. و”الفضح” أو “التعرية” ربما تكون الدور الأهم الذي مارسته اللغة في الثورة السورية، فقد عرّت “الطبيعية” التي أسبغها النظام السوري على “أخطائه” في محاولة منه لتبريرها، واحتواء غضب الشارع وامتصاصه، والتفلّت تالياً من المسؤولية، والتهرّب من الملاحقة والمحاسبة، على اعتبار أن ما حصل هو مجرّد “أخطاء طبيعية”، وهذا ما رمى إليه بشار الأسد حين صرّح في 18 أيار 2011 بكلام قدّمه على أنه إقرار بأن “قوات الأمن ارتكبت بعض الأخطاء في تعاملها مع المحتجّين، وأن ذلك مردّه إلى ضعف التدريب”. لكن الشعب الثائر قالها صراحة: “إلّي بيقتل شعبو خاين”، وكانت اللغة في هذا الشعار، وسيلة من وسائل التنوير الاجتماعي والسياسي؛ كونها بيّنت أنه لا يجوز منطقياً، وواقعياً، وأخلاقياً وإنسانياً أن يكون “الخطأ” توصيفاً للجرائم التي ارتُكِبَت في حق الشعب الثائر، والتي ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية! وقد بَدَت اللغة المتجلّية في عبارةٍ تخوِّن من يقتل شعبه، كأنها تطال كل أنواع القتل وأزمنته. فقتل السلطة السورية لشعبها ليس حديث العهد، ولم يبدأ مع اندلاع الثورة الشعبية في أواسط آذار 2011، بل هو قديم قِدَمَ تبوِّئها مقاليد الحكم المطلق في سوريا، إذ كان هناك قتلٌ يوميّ طال العقل، والنفس، والأخلاق، والقيم، والجمال، وكل ما يمكن أن يمنح الحياة الإنسانية الفردية والاجتماعية معنى. هكذا، فإن لغة شعار “إلّي بيقتل شعبو خاين” مارَسَتْ أدواراً عدّة في آنٍ واحد، فهي أخذت على عاتقها أولاً: القيام بدور تذكيريّ يعود بالأذهان إلى الماضي القمعي للسلطة، وخصوصاً أن الذاكرة لا تزال نشطة في ما يخصّ الجرائم التي ارتكبتها السلطة نفسها في حق السوريين في محافظة حماة مثلاً، في زمن الأسد الأب في بدايات الثمانينات من القرن المنصرم. وثانياً: لعبت دوراً احترازياً يأخذ في الاعتبار مستقبل البلاد، ويتخذ من الماضي درساً للتعلّم منه. فما كان في السابق يتم تصنيفه على أنه “خطأ طبيعيّ”، لن يكون كذلك في المستقبل. وكل تجاوز للقانون في سوريا الثورة والحرية سوف تتم محاسبته ومعاقبته، ولن يكون مجرّد “خطأ طبيعي”.

2

لقد شكّل لغةَ الثورة عناءٌ مزمنٌ من الكذب والضعة المتستّرة وراء كبرياء من عاثوا بالبلاد فساداً ولصوصية، وازدراء المواطن والفزع منه إن كان فاضلاً ومتنوّراً، مع الاستهزاء الدائم من الفضيلة ومعتنقيها. وشكّلها شعورٌ عارم بالسخط على أن يكون “أكابر” الدولة فاقدي الأمانة، وذوو الصلاح أصاغرها، ومنبوذيها ومهمَّشيها. وشكَّلها إحساس بالنقمة تعاظمَ طوال عقود، حيال خيانة النظام ممثَّلاً بالعائلة الحاكمة/ المالكة. النظام ورئيسه الذي نسَبَ إلى نفسه دور البطل المقاوِم الممانِع، وخَدَعَ شعبه، وحاكَ المؤامرات، وتخلّى عن الوعود، وباع الأرض والعرض. إن ذلك الواقع هو الذي ساهم في تشكيل لغة من مثل: “إبن الحرام باع الجولان”، وفي هذا الشعار مارست اللغة دور التعرية بجدارة، بعدما بيَّنت أن نضال الشعب السوري الثائر قد أنتج أنماط اللغة الأكثر صفاء، حتى بدا كأنه حَدَث لفظيّ صرف يجتثُّ التجربة الوجودية من جذورها! من المعلوم أن “ابن الحرام”، هو ابن علاقة جنسيّة غير شرعية، ما يعني أن الشعب الثائر لا يعتبر رئيساً باع الأرض ابناً شرعياً للبلاد، على اعتبار أن ابن البلد لا يبيع الأرض. عدا ذلك، فإن لغة الشعار التي أشارت إلى الرئيس كـ”ابن حرام” تنطوي على رسائل مفادها: إن رئاسة الابن الذي لم يأتِ إلى السلطة بانتخابات شعبية “شرعية”، إنما ورث حكم البلاد عن أبيه، هي رئاسة “غير شرعية”، ومثلها رئاسة الأب الذي وصل إلى السلطة بانقلاب عسكري. على هذا، فإن قَتْل الشعب، وبيع الأرض، ليسا “خطأين طبيعيين”، بل هما “جريمة” و”خيانة” بكل ما تنطوي عليه المفردتان من معانِ!

3

إن الكلمة الثائرة باعتبارها حرية قد لا تدوم سوى لحظة، لكن هذه اللحظة من أكثر لحظات التاريخ جلاء، وخصوصاً أنها قد تحرّض على التفكّر في بعض المفاهيم، وتعيد بعضها إلى نصابه، وتساهم في نحت بعضها الآخر. مفهوم “الخطأ” هو أحد المفاهيم الذي أعادته اللغة الثائرة إلى نصابه، وخصوصاً أنه ينطوي على إيجابيات تتّصل بكونه مؤسِّساً للصح ويسبقه زمنياً، وهذا ما عناه فيلسوف الخطأ، الفرنسي غاستون باشلار (1884-1962) حين اعتبر أن “ماضي العلم هو دائماً عبارة عن أخطاء العلم”. كلّنا على دراية بالمحتوى القمعي الدائم لكلمة نظام System، فكيف لنظام من مثل النظام السوري أن يسمح بخطأ من شأنه التحريض على التفكّر، والتأسيس للعلم والصح بالمعنى الذي ذهب إليه باشلار؟! إذ النظام السوري أشاع الخوف من كل إشكاليَّة، وعلى الأخص إن كانت إشكالية ثورية من شأنها الانهيار النهائي للأوهام. في هذا المعنى، كان النظام على الدوام يسمح بارتكاب الجريمة بمختلف أنواعها، ولا يسمح بالخطأ! وما وَصْفه لجرائمه وجرائم أجهزته بأنها “خطأ”، إلا مراوغة لغوية قذرة. لعل ذاك المرسوم الذي منح حصانة لعناصر الأمن والاستخبارات من كل محاسبة أو ملاحقة قانونية، دليل دامغ على تشجيع النظام على الجريمة، وتجريمه للخطأ المثير للإشكاليّات المهمّة التي قد تنقل الناس من مران الفكر الذي يعرف، إلى مران الإرادة التي تفعل. عبر اللغة التي كانت ملحمة ثورية عرّت النظام السوري، ومفاهيمه، وحذلقاته اللفظية، يكون الشعب السوري الثائر قد أكّد إذاً: أن مَن يبيع الأرض ويدمّر البلاد، ويقتل شعبه، هو “خاين” و”إبن حرام” لا مخطئ، وتنبغي محاكمته كمجرم حرب ومرتكب جرائم ضد الإنسانية.

كاتبة سورية

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى