صفحات الثقافة

اللغة العربيّة ومدىَ تأثيرها في لغة سيرفانتيس: الاسبانية من أكثر اللغات الحيّة حضورا وانتشارا/ محمّد محمّد خطّابي

 

 

مدريد – « القدس العربي»: كان للغة العربيّة الجميلة، التي تنفرد عن سائر اللغات الحيّة الأخرى بخاصّية النّعت الذي ألحق بها عن جدارة واستحقاق وهو»لغة الضّاد»، تأثير بليغ في اللغة الإسبانية، التي تُنعتُ هي الأخرى بلغة سيرفانتيس للشّهرة الواسعة، والصّيت البعيد الذي حقّقهما صاحب « دون كيشوت» في مختلف أنحاء المعمورة منذ خمسة قرون خلت، حيث استقرّ فيها العديد من الكلمات العربية الأصل على امتداد العصور، وهي الآن تعيش جنباً إلى جنب مع هذه اللغة، وتُستعمل في مختلف مجالات الحياة، وحقول المعرفة المتعدّدة، ممّا يقدّم الدليل القاطع على مدى غنى وثراء هذه اللغة التى ما فتئت تتألق، وتنبض بالحياة في عصرنا الحاضر مِطواعة،ً سلسةً، عذبةً، متفتّحةً، ينبوع جَنان وحنان تأخذ وتعطى بسخاء وكرم لا ينضب معينهما.

لغة سيرفانتيس في أوجها

وتعيش اللغة الإسبانية بدورها في الوقت الحاضر تألقاّ وازدهاراً واسعين وانتشاراً واسعا في مختلف ربوع المعمور، ووعياً من الإسبان بما أدركته لغتهم من سموٍّ ورفعةٍ، و»أوج»، حيث يحلو لهم عند الحديث عن انتشار هذه اللغة والإشعاع الذي أصبحت تعرفه ثقافتهم استعمال هذه الكلمة العربية الأصل وهي (الأوج)، التي تُنطق عندهم ( Auge ) «أَوْخيِ» حيث تُقلب أو تُنطق الجيمُ خاءً، كما هو الشأن في العديد من الكلمات العربية الأخرى المبثوثة فى اللغة الإسبانية مثل: جبل طارق الذي يُنطق عندهم (خِبْرَلْطَارْ)، وكلمة جَبَليّ يُنطق (خبليِّ )، وهو «الخنزير البرّي الذي يعيش فى الجبل»، وكلمة الجامع التي تحوّلت عندهم إلى (أَلْخَامَا)، والجرّة التي غدت (خَارّا) وهو الدنّ أو إناء الفخار، وشريفة التي أصبحت «خريفة» ونهر أو مدينة «وادي الحَجارة»، التي تحوّلت إلى (غْوَادِيلاَخَارَا) …إلخ. إنهم يبذلون جهوداً مضنية، ويرصدون إمكانيات كبرى للتعّريف بلغتهم وثقافتها وإظهار كلّ ما من شأنه أن يبثّ الاعتزاز في ذويها، وأصحابها وأبنائها وأحفادها، ومن ثمّ تأتي تلك الندوات والملتقيات والمناظرات التي كانت تُعقد في هذا السّبيل في مختلف المناسبات في إسبانيا تحت الرئاسة الفعلية للعاهل الإسباني الأسبق خوان كارلوس الأوّل، واليوم مع نجله العاهل الإسباني الحالي فيليبي دي بوربون السادس، حيث يحرصان على حضور العديد من جلسات أكاديمية مجمع الخالدين للّغة الإسبانية، أو الأكاديمية الملكية للغة الإسبانية، خاصّة في حالة انضمام عضو جديد إليها، أو عند تكريم أحد الرّاحلين عنها، وتصرفُ الدولة الاسبانية أموالاً طائلة، ومبالغَ باهظة في سبيل نشر لغة سيرفانتيس وثقافتها والتّعريف بها وبتاريخها وآدابها وفنونها وتراثها وموسيقاها وبمختلف أشكال وضروب الإبداع فيها.

اللّغة هويّةٌ وجذور

وغير خافٍ أنّ التنسيق القائم بين مختلف البلدان الناطقة باللغة الإسبانية في مجال توحيد المصطلحات اللغوية، والكلمات والتعابير المتداولة والمستعملة في هذه البلدان يهدف إلى توحيد هذه المصطلحات، ومحاربة الدّخيل لجعل حدّ «للغزو اللغوي الأجنبي» العارم الذي أمست تعرفه اللغة الإسبانية – مثل بقية لغات العالم- من طرف اللغة الإنكليزية على وجه الخصوص، وقد أعدّ لهذه الغاية معجم إسباني فريد في بابه من لدن هذه البلدان وهو: «معجم الشكوك الموحّد في اللغة الاسبانية» بمعنى أنّ أيّ متحدّثٍ أو مستعمل أو مشتغل أو دارس للغة الإسبانية الذي قد يخامره شكّ أو تساوره ريبة، أو ينتابه أيّ تردّد حول أيّ إستشارة صغيرة كانت أم كبيرة لها صلة بهذه اللغة سوف يجد ضالته في هذا المعجم الكبير الذي تمّ إعداده بين طرف الأكاديمية الملكية للّغة الإسبانية وجميع أكاديميات اللغة الإسبانية الموجودة في مختلف بلدان أمريكا اللاّتينية التي يبلغ عددها 21 أكاديمية.

الإسبان واعون كلّ الوعي بأهمية لغتهم في عالم اليوم، والمكانة المرموقة التي أصبحت تتبوّأها في مختلف البلدان وهم يعلمون كذلك أنّ لغتهم من المنتظر أن تصبح من أكبر وأكثر اللغات الحيّة تأثيراً وحضوراً وانتشاراً في العالم أجمع في هذا القرن وما بعده. ففي الولايات المتحدة الأمريكية وحدها من المنتظر أن يصبح عدد الناطقين بها – حسب التوقّعات المستقبلية – ما ينيف على 100 مليون عام 2050. وتعرف اللغة الإسبانية فى الوقت الرّاهن تقدّماً مهمّاً في البلدان العربية، وأصبحت تحظى بإقبال كبير من طرف الطلاب والدّارسين والباحثين، وهي تُدرَّس اليوم في مختلف الجامعات العربية، وفي المغرب وحده على سبيل المثال يوجد ما يقارب ستة ملايين من الناطقين بهذه اللغة، كما أصبحت العناية بها تحظى باهتمام متزايد في مختلف البلدان المقابلة لشبه الجزيرة الإيبيرية والمحاذية لحوض البحر الأبيض المتوسّط جنوباً وفي طليعتها المغرب والجزائر وتونس نظراً لعوامل تاريخية، وحضارية وثقافية بين إسبانيا وهذه البلدان بحكم الجيرة . ويرى الملاحظون أنّ تقدّم اللغة الإسبانية وتألقها وانتشارها في عالم اليوم ليس وليد الصّفة ، بل يرجع لعدّة عوامل تاريخية وثقافية وحضارية، ذلك أنّ نصف قارة بأكملها تتحدث هذه اللغة (أمريكا الجنوبية). كما أنّ «الأوج» الذي تعرفه اللغة الإسبانية في العالم اليوم حقّق للثقافة الإسبانية انتشاراً واسعاً فى مختلف أنحاء المعمور، وحضوراً مهمّاً في العديد من المحافل العالمية في مجال النشر والتأليف، والمسرح والفنون التشكيلية والجميلة والموسيقى، والشعر والأدب وأخيراً في السينما.

وتتعاون إسبانيا في هذا القبيل مع شقيقاتها بلدان أمريكا اللاتينية الناطقة بهذه اللغة بهدف تقوية وتعزيز الهويّة الثقافية فيما بين هذه البلدان جميعها، باعتبارها من الأواصر القوية التي سوف تعمل على تحقيق تقارب أكبر، وتعاون أوثق في ما بينها، فى مختلف المجالات، وقد قامت هذه البلدان بالإضافة إلى مشروع معجم الشكوك اللغوية الموحّد بإصدار أوّل معجم لتوحيد النّحو والحرف الإسبانيين كذلك. والإسبان وإلى جانبهم سكان البلدان الناطقة باللغة الإسبانية على وعي تامّ بأنّ هذه الجهود لابدّ أن تؤتي أكلها، إذ لابدّ أن يعقبها ذيوع وانتشار أوسع للغتهم وثقافتهم وبالتالي تقدّم اقتصادي، وازدهار سياحي، خاصّة أنّ إسبانيا تعتبر من أكبر البلدان السياحية في العالم، إذ تعرف هذه الصناعة عندها تقدّماً هائلاً، وتطوّراً مذهلاً، وتلعب المآثر والمعالم الحضارية الإسلامية في الأندلس دوراً حاسماً ومحورياً في جذب السّياح من مختلف أنحاء العالم مثل قصر الحمراء في غرناطة (وهو المعلمة العربية الأولى في إسبانيا الأكثر مشاهدة من طرف السياح الأجانب الذين يتقاطرون عليها) بالإضافة إلى العديد من القصور والحصون والقلاع والمعالم التاريخية الأخرى في مختلف المدن الإسبانية كصومعة لاخيرالدا، وبرج الذهب في إشبيلية، والجامع الأعظم في قرطبة، وقصر الجعفرية بسراقسطة وسواها من المآثر الأخرى التي لا حصر لها في إسبانيا والبرتغال.

قال العالم الإسباني أنطونيو نيبريخا وهو أحد واضعي أوّل أشهر معجم في اللغة الإسبانية (بمثابة الخليل بن أحمد الفراهيدي ومعجمه كتاب «العين» وهو أوّل معجم في العربية)، قال في مقدّمة معجمه مخاطباً الملكة الكاثوليكية إيزابيلاّ (المعروفة بعدم تسامحها) : «اللغة القشتالية (الإسبانية نسبة إلى قشتالة) كانت باستمرار رفيقة الإمبراطورية الإسبانية»، وواضح أنّ نيبريخا يريد أن يقول بهذا المعنى» إنّ اللغة سلاح أو وسيلة أوّلية وأساسية لا يمكن أن يحلّ محلها شيء آخر لتأكيد الهويّة، وتأصيل الجذور، وتأكيد الحضور، ورفع صروح الحضارة لأيّ أمّة، وهي تعني كذلك مغزى الوجود الإسباني في أبعد الآفاق» (يقصد أمريكا اللاتينية والبلدان التي كانت خاضعة للتاج الإسباني في ذلك الإبّان).

العربية وتأثيرها فى الإسبانيّة

ولا يمكن أن يستساغ الحديث عن «أوج» اللغة الاسبانية، وتراثها وغناها وانتشارها من دون التطرّق إلى الأصول التي تنبثق، أو تستمدّ، أو تنبني عليها هذه اللغة، فعلى الرّغم من جِذرها وأصلها اللّاتينيين، فإنه معروف لدى جميع جمهرة الباحثين، وغير الباحثين مدى التأثير البليغ الذي أحدثته لغة الضّاد في هذه اللغة على امتداد القرون الثمانية التي كانت الغلبة فيها من دون منازع لها في شبه الجزيرة الإيبيرية منذ الفتح الإسلامي عام 711 إلى سقوط آخر معاقل الدولة الإسلامية في الأندلس وهي غرناطة 1492، بل لقد تأكّد بما لا يترك مجالاً للشكّ والرّيبة للباحثين، والمتخصّصين أنّ الوجود العربي والأمازيغي في الأندلس استمرّ حتى القرن السادس عشر عندما تمّ طرد وإبعاد آخر الموريسكيين الذين ظلوا متستّرين في المدن والقرى والضيع والمداشر والمدائن الأندلسية، وقد بلغ عددهم سبعة آلاف عام 1588، وعشرات الآلاف عام 1609وهكذا لا ينبغي إطلاق الكلام على عواهنه في هذا المضمار، بل يجب إعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقه، ووضع الأمور في نصابها إحقاقاً للحقّ، وصَوناً لمجرىَ التاريخ وحفاظاً للأمانة العلمية والتاريخية في هذا القبيل. ففي هذا السياق يؤكّد جميعُ الباحثين والمؤرّخين والمثقفين إسباناً كانوا أم غير إسبان هذا التأثير البليغ والعميق الذي أحدثته الحضارة الإسلامية في الأندلس، ليس في ميدان اللغة وحسب، بل في مختلف مناحي الحياة كما هو معروف بما لا يترك مجالاً للشكّ، وقد سلّم العديد من هؤلاء المثقفين الإسبان بالخصوص بهذه الحقيقة، بل ذهب بعضُهم أبعد من ذلك، حيث أكّد الرّوائي العالمي خوان غويتيسولو والكاتب الإسباني المعروف أنطونيوغالا، وقبلهما شيخ المستشرقين الإسبان إميليوغارسيا غوميس، وكذا الباحث الإسباني بيدرو مارتنيس مونتافيس وسواهم أنّه يستحيل فهمُ واستيعابُ تاريخ إسبانيا وثقافتها ولغتها على العموم فهماً واستيعاباً حقيقيين، من دون معرفة اللغة العربية وثقافتها.

والسؤال الذي يطرح نفسَه بإلحاح فى هذا السياق هو: كيف إذن لا توجد هناك أيّ دراسة معمّقة أو تحليل ضاف لهذه البدهية في مختلف المؤتمرات والندوات والتظاهرات الكبرى التي تنظّم بين الوقت والآخر حول الأخطار التي قد تحدّق، أو تداهم اللغة العربية، أو حول التأثير المتبادل بين هذه اللغة أو تلك؟

بل إنّ هذا الشطط قد يحدث حتى عند بعض الإسبان الذين يحظون بشهرة عالمية واسعة مثلما حدث مع الكاتب الإسباني الراحل كاميلو خوسي ثيلا الحائز جائزة نوبل في الآداب، فقد فاته وهو يحاضر في مؤتمر عالمي حول الرّوافد التي أثّرت في اللغة الاسبانية الإشارة صراحة وبكل وفاء إلى هذه الحقيقة البدهية، وإبراز فضل اللغة العربية على الإسبانية، وهو الذي يستعمل في حديثه اليومي وكتاباته المتواترة، ورواياته العديدة عشرات الكلمات العربية أو من أصل عربي، بل هو الذي وضع روايةً تحمل عنواناً عربياً واضحاً وهي روايته المعروفة « رحلة إلى القارية» والقاريّة من السّنام أعلاه وأسفله، أو القرية، إلاّ أنّ هذا الكاتب نفسه تراجع – على الرغم من ذلك – وأكّد خلال ندوة دولية أخرى لاحقة أنّ لغتنا العربية ستصبح في قريب الأعوام من أولى لغات العالم أهميةً وانتشاراً، حيث قال بالحرف الواحد: «نحن الإسبان، وسكان أمريكا اللاتينية الناطقين بالإسبانية نعرف جيّداً أننا أصحاب لغة سوف تصبح في المستقبل القريب من أعظم اللغات الحيّة في العالم، وأنتم تعرفون اللغات الثلاث الحيّة الباقية وهي الإنكليزية والعربية والصينية»

.القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى