صبحي حديديصفحات سورية

اللهم نجّ الإنتفاضة من أصدقائها!


صبحي حديدي

يُنسب إلى الفيلسوف الفرنسي فولتير (والبعض يرجّح الماريشال الفرنسي كلود دو فيلار) هذا الدعاء الرهيب: “اللهم نجّني من أصدقائي، أمّا أعدائي فإنني كفيل بهم”؛ الذي يرفع الخشية من الأصدقاء، في هذا أو ذاك من أنماط الغدر أو الخيانة أو الإنقلاب على روح الصداقة، إلى مستوى أشدّ وطأة من ذاك الذي ينتظره المرء، عادة، من أعدائه. وفي الطور الراهن من مساراتها الظافرة، المضمخة أكثر فأكثر بدماء الشهداء الزكية وتضحيات السوريين الغالية، لعلّ الإنتفاضة السورية بحاجة إلى اتقاء شرّ أصدقائها، لأنها ببساطة تكفّلت وما تزال تتكفّل بأعدائها: النظام، بطغمته الضيقة وأجهزته وعسكره وشبّيحته، في الداخل؛ وحلفاء النظام، على اختلاف راياتهم “الممانِعة” و”المقاوِمة”، أو ما يذرفونه من دموع كاذبة على “قلب العروبة النابض”، في الخارج.

أوّل هؤلاء “الأصدقاء” هم سدنة ما يُسمّى بـ”المجتمع الدولي”، من أمثال الرئيس الأمريكي باراك أوباما، والرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، ورئيس الوزراء البريطاني دافيد كاميرون، والمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل… هؤلاء، ومَنْ شغلوا مناصبهم ذاتها طيلة 41 سنة سابقة، كانوا في طليعة مساندي نظام “الحركة التصحيحية” منذ انقلاب حافظ الأسد سنة 1970، بما في ذلك توريث بشار الأسد سنة 2000، وعلى امتداد محطات كثيرة ومنعطفات كبرى في تاريخ المنطقة المعاصر: من اتفاقية سعسع، 1974؛ إلى التدخل العسكري في لبنان، 1976؛ إلى الحرب ضدّ الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، وحصار المخيمات، والإجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982، ومجزرة تلّ الزعتر؛ وصولاً إلى الإنضواء تحت الراية العسكرية الأمريكية في تحالف “حفر الباطن”، والمشاركة في مؤتمر مدريد، والمفاوضات مع إسرائيل سرّاً أو علانية، في شبردزتاون وكامب دافيد وعمّان وأنقرة…

أسلاف سدنة “المجتمع الدولي” هؤلاء سكتوا عن عشرات المجازر التي ارتكبها النظام السوري، في حماة وتدمر وحلب وجسر الشغور ودير الزور واللاذقية وحمص، وسقط خلالها عشرات الآلاف من الأبرياء، خلال سنوات 1979 ـ 1982؛ بل تعاقدوا على تشجيعها ضمناً لأنّ التفكير الذرائعي كان يبرّرها على هذا النحو: معركة ضدّ الإسلاميين يخوضها نظام دكتاتوري إستبدادي فاسد، يقصف المدن ويسفك الدماء ويحرق الأرض، ولكنه “علماني” و”مستقرّ” و”مرن”؛ وأرضه تحتلها إسرائيل، ولكنّ خطوط الإحتلال صامتة خرساء آمنة؛ ويبسط نفوذه على كامل الأراضي اللبنانية، وهو خطّ إمداد “حزب الله” بالسلاح الإيراني، ولكنه في نهاية النهار يقوم بمهامّنا هناك، ويلبّي حاجات حلفائنا، على أحسن وجه، وبأفضل ممّا نستطيع نحن!

جليّ أنّ ضغط الرأي العام الشعبي في هذه البلدان ـ خاصة بعد افتضاح ممارسات النظام الوحشية ضدّ الحراك الشعبي الأعزل والسلمي، وانتقال النظام إلى الخيارات القصوى في محاولة قمع الإنتفاضة ـ هو الذي أخذ يجبر حكوماتها على اتخاذ هذا الموقف أو ذاك من النظام السوري، واعتماد عقوبات ذات تأثير محدود أو منعدم أو شكلاني محض. ضغط شعبي مماثل، في الشارع العربي، أجبر بعض الحكومات العربية على إعلان مواقف خجولة، طافحة بنفاق الحثّ على “حقن الدماء”، على نحو يضع الضحية والجلاّد في مصافّ متساوية؛ وهؤلاء هم النمط الثاني من “أصدقاء” الإنتفاضة السورية، أعداء الديمقراطية في بلدانهم، وكارهي الحرّية في كلّ زمان ومكان.

نمط ثالث، لا يستحقّ سوى إشارة عابرة، يمثّله أناس من أمثال الفرنسي برنار ـ هنري ليفي، الذي يدّعي معاداة النظام، ولكنه لا يقوم عملياً إلا بخدمة أغراض النظام؛ أو الأمريكي جوشوا لانديس، الذي يستحي من ادعاء صداقة النظام، ولكنه يكمل وظيفة ليفي. الأذى الذي يُلحقه هؤلاء “الأصدقاء” بالإنتفاضة لا يقتصر على مواقفهم وكتاباتهم، فهذه أمرها يهون، وكشفها لا يحتاج إلى كبير عناء؛ بل يمتدّ إلى تصنيع أذى أبعد أثراً حين يقع في حبائلهم أناس يحتسبون أنفسهم على المعارضة، أو يزعمون الإشفاق على سورية من أخطار الحرب الطائفية والتفكك وهيمنة الإسلام الأصولي المتشدد. والمصيبة أنّ هذه الفئات تمتشق الحسام دون إبطاء، ليس لقتال النظام كما ينتظر المرء ويقتضي المنطق، بل للإجهاز على مخالفيهم في الرأي، نيابة عن ناصبي الحبائل؛ وليس بصدد أية إشكالية تخصّ الإنتفاضة، بل دفاعاً عن… الحبائل، إياها!

نمط رابع ينتمي إلى البيت السوري، أيضاً، ويضمّ رجال دين دجّالين من كلّ الأديان والطوائف والمذاهب، ومافيات تجّار مصّاصي دماء، وقادة أحزاب سياسية متحالفة مع النظام، و”مستقلين” ليسوا في نهاية المطاف سوى شهود زور، ومستحاثات تصنّف ذاتها في “تيارات” قومية أو تقدّمية أو علمانية أو ليبرالية أو إسلامية… هؤلاء، كما أبواق النظام بالضبط، يعلنون إيمانهم بمشروعية “الإصلاح” من جهة، شريطة أن يكون المُصْلِح الوحيد المخوّل هو بشار الأسد، من جهة ثانية؛ ولا نعدم في صفوفهم أناساً كانوا، حتى عهد قريب، على مسافة متساوية من الشعب والنظام؛ أو سجيناً سياسياً سابقاً، كان ذات يوم ماركسياً ـ لينينياً وقائداً لحزب عريق مناضل، يعلن اليوم إيمانه بوجود “مندسين” و”عصابات مسلّحة”!

بهذا فإنّ خشية فولتير تصبح غير كافية للوقاية من أذى هذا النمط الأخير، فيتوجب أن يلهج المرء بدعاء آخر: اللهم نجّ الإنتفاضة من بعض زاعمي قيادتها، ومزيّفي تمثيلها، وغاصبي صوتها!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى