صفحات الرأي

الليبرالية ومشكلة الأفكار السياسية الكبرى في بلادنا/ ماجد كيالي

 

 

لم تتمثل الثقافة العربية الأفكار السياسية الكبرى بطريقة سليمة أو تدرجية، أو وفقا لدلالاتها وقيمها الثقافية والأخلاقية، إذ تم ذلك في معظم الأحوال، عبر الاحتكاك مع الغرب، أولا، ومع الصدمة الاستعمارية ثانيا، وبطريقة فوقية وأيديولوجية ووظيفية وعصبوية ثالثا، أي ليس في معمعة الحراكات الاجتماعية الداخلية، الثقافية والسياسية، في الجامعات والمنتديات والصحف والسينما ودور النشر والثقافة والأحزاب والصراعات على السلطة والمكانة والموارد.

وعلى العموم فإن تمثل هذه الأفكار جاء متفاوتا، إذ تم تمثل فكرة القومية مثلاً، أكثر من غيرها (مع أنها فكرة غربية)، بسبب وجود خلفيات تاريخية وثقافية لها، وبواقع استنادها إلى زعامة كبيرة بحجم الرئيس جمال عبدالناصر، بما له وما عليه، ولنا أن نتخيل مآلات هذه الفكرة لولا هذه الزعامة؛ بدليل عدم نشوء أحزاب قومية، إذا استثنينا حزب البعث (الذي نشأ في سوريا والعراق أساسا وعلى حامل الجيش)، إضافة إلى حركة “القوميين العرب” التي انتهت في فترة مبكرة واقتصر أغلب وجودها على بلاد الشام.

وبالنسبة لفكرة الشيوعية فقد لاقت نجاحا محدودا، في مراحل معينة، على خلفيات سياسية فقط، وليس لاعتبارات أيديولوجية أو ثقافية، أي بحكم قوة الاتحاد السوفييتي، وشبكة العلاقات التي كانت ربطته بالأنظمة (كما بالأحزاب الشيوعية) في البلدان العربية، وبواقع المناخ الجماهيري المعادي للامبريالية الأميركية المتحالفة مع إسرائيل؛ وربما بحكم توق الناس في هذه البلدان للعدالة الاجتماعية (المتضمنة في فكرة الاشتراكية) أيضا.

أما فكرة الديمقراطية فقد لاقت قبولا أكبر بالقياس لغيرها، في الثقافة السياسية السائدة في المجتمعات العربية، باعتبارها تغذّي الحاجة عند أطراف وتيارات متضاربة، للتغيير السياسي، وتمهد لوضع حدّ لنظام الحكم المطلق، وللتخلص من ويلات الفساد والاستبداد، في آن. وكان أن بات ثمة نوع من إجماع على الديمقراطية لدى مختلف التيارات الفكرية والسياسية العربية (يسارية وإسلامية وقومية ووطنية وليبرالية وعلمانية)، باستثناء بسيط، فقط، يتمثل بالأنظمة المتسيدة التي ناهضتها العداء؛ مع الأخذ في الاعتبار أن كل تيار اشتهى الديمقراطية كوسيلة، وبالمعنى المحدود لها.

في مقابل ذلك فإن فكرتي العلمانية والليبرالية ظلتا في مكانة محاصرة أو هامشية، أو في مكانة استبعادية وعدائية في الثقافة السياسية السائدة. الأولى (أي العلمانية) بسبب عداء التيارات الدينية لها على طول الخط، إلى درجة التكفير. وأيضاً بسبب عدم هضمها من قبل التيارات الأخرى (القومية والوطنية والليبرالية)، التي أبدت أيضا نوعا من الانتهازية في تعاطيها مع فكرة العلمانية (وهذا ينطبق على النظم السياسية السائدة)؛ وذلك بدعوى مراعاة الميول الدينية في المجتمعات العربية، وبهدف توظيف المشاعر الدينية في الأغراض السياسية.

أما الثانية (أي الليبرالية) فقد نبع العداء لها من عدم تبنّي معظم التيارات السائدة قضايا الحرية والتحرر، أي حرية الرأي والفكر والمرأة والأفراد والجماعات، ومن ضعف الثقافة الحقوقية، وأيضا بسبب ارتكازها إلى فكرة الفرد المواطن، والمساواة أمام القانون، وفصل السلطات، والدولة الدستورية، في واقع يؤبد السيطرة الأحادية والشمولية (الأب في الأسرة وزعيم العشيرة في عشيرته ورجل الدين في مسائل الدين وزعيم الحزب في حزبه ورئيس الدولة في دولته).

على أيّ حال فإن الدعوة إلى العلمانية لم تلق ما كابدته الليبرالية من إشكاليات أو ادعاءات، مع أنها في حقيقتها دعوة للحرية والتحرر، للأفراد والمجتمعات، من مختلف أنواع الهيمنة الفكرية أو السياسية، المجتمعية أو الدولتية. هكذا وصمت الليبرالية بشبهة التبعية السياسية، وليس فقط الفكرية للغرب المتحالف مع إسرائيل، أي أنها وصلت إلى درجة التخوين، مع إن قوامها التحرر من أيّ تبعية، ربما لارتباط هذه الفكرة بالفئات المدينية التي صعدت في بلادنا في مرحلة الاستعمار، وأسست للاستقلال، في بلاد عانت من الاستعمار.

ومشكلة الليبرالية عندنا، أيضا، إنها ارتبطت بالليبرالية الاقتصادية، أكثر من ارتباطها بالدولة الدستورية وبالحريات السياسية وبحقوق المواطنين، ما وضعها على الضد من العدالة الاجتماعية، في مجتمعات ترزح تحت نير الفقر والحرمان. بيد أن المفارقة اللافتة في هذا السياق، أن الفكرة الليبرالية راجت في البلدان العربية في المجال الاقتصادي، وفي مجال علاقة البلدان العربية مع الدول الغربية، أي فقط في المجالات التي نبذت من أجلها، في حين أنها ما زالت محاصرة، وموضع شبهة في المجالين السياسي والثقافي، حيث الحاجة لها ملحة.

ويستنتج من ذلك أن العداء لهذه الفكرة إنما هو عداء مصطنع ومزيّف، وهو عداء يستهدف فقط المضامين السياسية والحقوقية لفكرة الليبرالية، التي قوامها احترام حرية الفرد وحقوق الإنسان وقبول الرأي الآخر والتسامح مع المختلف والمساواة أمام القانون، والمواطنة في المجتمع وإزاء الدولة، وإعلاء شأن الدستور. وعلى ما يبدو فإن هذه المضامين، في منظور غالبية النظم القائمة والتيارات الفكرية والسياسية السائدة، أضحت من المحظورات والبدع الدخيلة على عقيدتنا ومجتمعاتنا وتقاليدنا، أو ما يسميه البعض “خصوصياتنا”. وربما أن هذا ينبع من اعتقاد البعض أن هذه القيم، المتعلقة بالحرية والمواطنة والدولة الدستورية، تشكل تهديدا لـ“هويتنا”، ولحال الاستقرار والسلم والازدهار التي نرتع فيها في بلداننا في ظل الأنظمة السائدة.

العرب

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى