سمير العيطةصفحات سورية

الليرة السوريّة وقوت المواطنين/ سمير العيطة

 

 

لم تُسقِط العقوبات الاقتصاديّة سلطة استبداديّة في أيّ يوم. ولم يؤدِّ انهيار عملة وطنيّة إلى تغيير نظام حكم. الاثنان يقودان إلى إضعاف الحالة المعيشيّة للسكّان البسطاء، الذين يرزحون أصلاً تحت وطأة استفراد الاستبداد بالريوع الاقتصادية، فما بالنا بالحرب والنزوح والهجرة، وما يلي من تدمير آليّات الإنتاج الأساسيّة للاقتصاد وأخذ غالبية السكّان إلى جحيم الفقر والعوز. العقوبات الاقتصاديّة وانهيار العملة كما الحرب تؤدّي كلّها إلى الشيء ذاته، أي تقليص مجمل الثروة الوطنيّة بالإضافة إلى إعادة توزيع ما يبقى منها بيد قلّة، تمثّل بالتحديد الاستبداد وأجهزته وأمراء الحرب.

ليس غريباً أن تستخدم دولٌ آليّات كالعقوبات الاقتصادية أو المضاربة على العملة كوسائل لفرض الهيمنة على المدى البعيد، حتّى لو كانت الحجّة هي معاقبة الاستبداد والإسراع بنشر الديموقراطيّة. بل لا يتمّ رفع العقوبات الاقتصاديّة إلاّ بعد سنوات في حال سقوط الاستبداد، وفي إطار تفاوضٍ مع السلطة البديلة على مصالح اقتصاديّة يجب تأمينها. والأمر نفسه بالنسبة للعقوبات الفرديّة، فقلّما يتمّ استرداد الأموال المحتجزة للقائمين على الاستبداد، وهي أصلاً لا يتمّ التصريح بشفافيّة عن مبالغ ما احتجز منها وعن ماهيّتها. وتعمل هذه العقوبات الفرديّة كوسيلة ابتزاز على رجال الأعمال.

الغريب هو انخراط أبناء بلدٍ عانوا ويعانون أصلاً من الاستبداد في دعوات لفرض عقوبات شاملة على بلدهم، ولانهيار عملتهم. بل أيضاً مطالبتهم الحثيثة لفرض تلك العقوبات ونداءاتهم لاستبدال العملة الوطنيّة في بعض المناطق بعملات أخرى. هذا دون السؤال عن أبسط الأشياء: ما الذي تمّ حجزه من الأموال الفرديّة للمستبدّين وأين؟ كي يؤمل يوماً (ربّما) باسترجاعه؟ فماذا عن السؤال الأكثر صعوبة، أي ذاك الخاص بالمستفيد الحقيقي؟

العملة السوريّة لها تاريخها، الذي يشكّل جزءاً أساسيّاً من صنع الاستقلال السوريّ. تاريخٌ تتمثّل بعض محطّاته الرئيسيّة برفض ارتباطها بالفرنك الفرنسيّ بعيد الجلاء بدايةً، ومساهمة سوريا بالتالي في بريتون وودز لإنشاء البنك وصندوق النقد الدوليين، مروراً بتأميم حقّ الإصدار في 1950 ثمّ إنشاء أوّل مصرف مركزي في بلدٍ عربيّ العام 1953 حتّى رفض توحيد العملة إبّان الوحدة مع مصر.

وللعملة السوريّة ارتباطٌ وثيق بأسباب الانتفاضة الشعبيّة: أنّ البلاد لم تكن ذات مديونيّة خارجيّة كبيرة في سنوات الألفين، وكانت الموجودات الحكومية من العملة الصعبة مهمة بكلّ المعايير، على عكس معظم الدول العربيّة حتّى النفطيّة منها، وكان الادخار السوريّ للأفراد ملحوظاً. وهذا كلّه يضع مسؤوليّة كبيرة على السلطة القائمة بعدم استخدام الإمكانيّات الكبيرة المتاحة لإطلاق سوريا نحو اقتصاد لا يقوم على الريع من أجل الاستبداد ويحسّن بشكل ملحوظ معيشة المواطنين مقلِّصاً الفروقات بين المناطق.

أتى الصراع ثم الحرب على معظم الموجودات الأجنبيّة، وراكم ديناً خارجيّاً أضحى عبئاً كبيراً مع تقلّص الاقتصاد، والأهمّ أنّ الكثير من السوريين قد استنفدوا مدّخراتهم وحليّ نسائهم وبناتهم الذهبيّة كي يستمرّوا في الحياة أو كي ينزحوا أو يهاجروا. وغدا استقرار العملة يعتمد في أغلبه على التحويلات الخارجيّة.

الإحصائيّات بالطبع غائبة. إلاّ أنّه يُمكن توقّع أن تحويلات المغتربين قد تقلّصت بفعل العقوبات المالية والإجراءات بحقّ جميع السوريين، برغم أنّها كانت في السابق تشكّل شبكة ضمان اجتماعيّة تساهم في درء الفقر عن الكثيرين. فما بالنا اليوم؟ يبقى أنّ المورد الأهمّ هو المعونات الخارجيّة الإغاثيّة والأموال التي تنفق على المقاتلين من جميع الأطراف.

هكذا يشكّل تدهوّر سعر صرف الليرة السوريّة علامةً على تقلّص هذا المورد الأهمّ، وخاصّة على تمويل الصراع. وتدلّ على ذلك أيضاً الصراعات الداخليّة ضمن كلّ طرف من أطراف الصراع للهيمنة على الموارد الداخليّة. وإلاّ فليس هناك معنى حقيقيّ لقرار مجلس الأمن حول «وقف الأعمال العدائيّة».

وبرغم الإيجابيّة والأمل الذي يُمكن أن تعنيه هذه العلامة، حول إمكانيّة نهاية الصراع قريباً، إلاّ أنّها تضع الثقل مرّة أخرى على كاهل أغلب المواطنين الذين باتوا في حال فقرٍ وعوز. بل يُمكن أن يزداد هذا الثقل في المستقبل.

إذا كان الهدف هو الإبقاء على سوريا موحّدة بعد السلام والتغيير، لا معنى اليوم للعمل على استبدال الليرة السوريّة بعملة أخرى في هذه المنطقة أو تلك. ولا معنى للحملات ضدّ رفع العقوبات المالية الشاملة عن السوريين. بل ما له معنى هو بذل مزيد من الجهود كي تصل تحويلات المغتربين والمعونات الإغاثيّة إلى مَن يحتاجها دون اقتطاع من قبل أمراء الحرب والسياسة. وما له معنى وأكثر جدوى هو بذل المزيد من الجهد لتشجيع النشاط الإنتاجيّ داخل سوريا وفي جميع المناطق، زراعة وحرفاً ومصنوعات صغيرة، بانتظار أيّامٍ أفضل. وما له معنى هو أن يحفّز «المجتمع الدوليّ» ودول الجوار عودة اللاجئين، وخاصّة الكفاءات بينهم، كي يُنتجوا ضمن البلد حيث يُمكن ذلك.

ليس الحفاظ على عملة وطنيّة هدفاً «لنظام» تجب محاربته، وإنّما وسيلة لقوت المواطنين لا معنى لوطن دونهم. المواطنون لهم الحقّ في محاسبة السلطة على سياساتها الاقتصاديّة والاجتماعيّة منذ سنة 2000، ومحاسبة «المعارضة» على موقفها من قوتهم منذ 2011.

السفير

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى