سوسن جميل حسنصفحات الناس

اللّحمة الوطنية السورية في “مقاصف” الأزمة/ سوسن جميل حسن

 

تستمرّ الحياة وفق قوانين الطبيعة، مهما طغى الإنسان وتكبّر، ومهما اعتدى عليها وعلى مخلوقاتها، ومنها بنو جلدته. هي جبارة، أزلية، فحتى لو دُمّرت الأرض كلها، ستبقى بذرة الحياة كامنة في مكان ما، سوف تنتشر وتنمو وتبرعم وتزهر، وتعطي ثمارها، وستكون هناك فصول، وسيكون هناك ربيع، مهما طال انتظاره، ومهما تطاول الشتاء. هذا منطق الأشياء وقانون الطبيعة.

والحياة، في زمن الكوارث والنكبات والحروب مثل الحرب في سورية، تنحو نحو الشكل الأولي للكائنات الأقل مرتبة، مثلما تتبوّغ بعض البكتيريا أو الفطريات، ومثلما تدخل بعض الكائنات الأرقى في مرحلة سبات، للاحتفاظ فقط بطاقة الحياة، مدفوعة بغريزة البقاء. هكذا هي في المجتمعات البشرية، تدخل في سباتها الخاص، متنازلة عمّا هو إنتاج إبداعي، وسموّ أخلاقي وثقافي.

ولأن الحياة بشكلها الغريزي هي الأقدر على الاستمرار، فإن سلوك الناس يتغير وينحدر باتجاه الغريزية، حفاظاً على الحياة. لا يعود للمنظومة القيمية مجال في وعي الناس، ولا يعودون مهتمين بالمثل العليا، وما تشرّبوه من وصايا، خلال تربيتهم كضمانات للهوية الإنسانية. أمام القتل والخطف والتشريد والجوع واليتم والترمّل وفقدان الأمان وفقدان الأسرة وفقدان ما يعطي الحياة قيمتها، لا أحد يستطيع أن يلوم غيره، لما ينحدر إليه في سلوكه وطريقة عيشه.

كثيرة هي القرائن التي نشاهدها، ونشهد عليها اليوم علامات فارقة لحربٍ، هي الأشرس والأكثر خسّة في واقعنا الراهن، الحرب السورية، فالتهتك المجتمعي والقيمي والأخلاقي يزداد ضراوة مع طول أمد الحرب، وهذا ما نراه في مجالات كثيرة، لم يعد الناس يهتمون بالمثاليات، ولا بالسمو الأخلاقي، أو الثقافي، صار الهم الأكبر هو ضمان الحياة بأي طريقة كانت، وبأي فاتورة مدفوعة. هذه الفواتير تسدد المرأة النصيب الأكبر منها، فهي المدفوعة إلى أتون المعارك، بالأصالة أو بالنيابة، تعرض وتسام وتباع وتشترى في أسواق النخاسة المتنوعة.

ليست المرأة السورية في مخيمات اللجوء وحدها من تدفع الثمن، من كرامتها وكبريائها فقط، بل النساء في الداخل السوري، أيضاً، فمن المظاهر التي شاعت وتكاثرت النوادي الليلية، تلك التي لها مسميات عدة، ففي حمص التي لم تهدأ فيها العمليات الحربية منذ أربع سنوات، ودُمّر معظم أحيائها، وشُرّد أكثر سكانها، وتعطلت الحياة الاقتصادية فيها، إلّا من تجارة الحروب والأزمات، وبيع المسروقات المنهوبة من بيوت المهجّرين، هروباً من آلة القتل، هذه النوادي

“الحياة، في زمن الكوارث والنكبات والحروب مثل الحرب في سورية، تنحو نحو الشكل الأولي للكائنات الأقل مرتبة، مثلما تتبوّغ بعض البكتيريا أو الفطريات”

تدعى “مقاصف”، أغلبها كان صالات أفراح، عندما كان الشعب قادراً على إقامة الفرح، أو كافتيريات ومطاعم، تحولت إلى نوادٍ ليلية تسمى “مقاصف”، تقوم على أساس تجارة المتعة، منتجاً ربحياً في زمن الحرب والفقر والجوع. إناث من مختلف الانتماءات في المجتمع السوري دفعتهن الحرب، بعدما دفعن فواتيرها الباهظة، إلى سوق المتعة هذه، بعدما أغلقت باقي الأسواق في وجوههن. لكل واحدة حكاية، فهذه التي صحت لترى أنها فقدت أسرتها وبيتها، وتلك التي لم يعد لديها من يقدم لها لقمة الخبز، وأخرى خطفت الحرب زوجها، ورمتها أمام أفواه فاغرة، وبطون عضها الجوع، ولا من معيل، وأخرى حصلت على الشهادة الجامعية، فرمتها في زاوية مهملة، طالما لن تفيدها في توفير فرصة عمل. قصص وحكايات لا تنتهي، تدخل الحرب وآثارها القاتلة في ثناياها.

تستيقظ الحياة في هذه المقاصف، عندما تنام المدينة، ولا يبقى ساهراً فيها غير حراس الحرب، حملة البنادق وأدوات القتل يسهرون، ليحرسوا مشروع الدمار القادم مع شروق الشمس، عندها فقط تنام حياة المقاصف. لكل امرأة سعر، ولكل واحدة منهن رجل تُسجّل على قيوده، فيما لو حدث وأن تعرض نادي المتعة لمداهمة من حراس “الأخلاق” إثر وشاية كيدية في غالبيتها، فيكون هذا الزوج الوهمي حاضراً لدفع التهمة، وحفظ الشرف في سوق بلا شرف، ظهر كالفطر على دماء الأبرياء.

في هذه النوادي الليلية، يأتي الرجال المصابون بلوثة الحرب، أيضاً، ولكل واحد حكاية، رجال مطعونون بصميمهم، منهم من استبدت به شهوة الملكية، فكسب أموالاً لا تحرقها نيران الحرب، ولا نيران السلام، وجاء يفرّغ أزمة وجودية، تعيد إليه توازنه في زمن القلاقل التي هزّت أركان وجوده، المرتكز على رجولةٍ، رسختها القيم والأعراف والثقافة الذكورية، بمباركة دينية وسند شرعي وقانوني. رجال سوريون، من مختلف الانتماءات أيضاً، ومختلف المستويات العلمية والوظيفية. هنا، في هذه الأمكنة، لا مكان للثأرية والضغينة والفتن. هنا، يدخل الشاري عارياً من حمولته الموروثة، ومن إرثه القيمي، ومن هويته المركبة، ليتعرى في الداخل، حتى من ثيابه، لقاء متعة تغربه عن نفسه، وتدفعه، في النهاية، إلى انسلاخ آدمي آخر، تتكفل الحياة في الخارج، تحت وقع العنف والقتل، بتجديد جلده المغشوش، وملء جيوبه بمال مسموم ليعود، مرة أخرى وأخرى، إلى كهف المتع المرذولة.

وهناك ضحايا آخرون رفعتهم الحرب، أيضاً، بعدما اضطروا للتحرر من ثقل مثلهم العليا، وطموحاتهم وأحلامهم بالسمو الثقافي والإبداعي، هم شباب ضيعتهم الحرب وغرّبتهم عن دنياهم وآفاق مستقبلهم، منهم من هو فارّ من العسكرية، ومنهم من هو هارب من حمل السلاح في أماكن المقاتلين، ومنهم من يوزع يومه بين جامعته وخدمته في نادٍ ليلي، ليواجه حياة تصرخ لتلبية متطلباتها.

هذه صورة عن واقعٍ ينزلق إلى عتمة الحضيض، واقع تشغله حياة غير طامحة بسمو معرفي أو إبداعي، حياة لا تريد أكثر من البقاء على قيد نفسها، حتى لو كانت ضحاياها فتيات وشباباً في عمر الصبا والإزهار، الحرب اللعينة هدمت أسقف الوطن كلها، خرّبت منارات الإبداع، بددت طاقات الشباب، لكنها جمعت الأفراد المتناحرين خارج النوادي الليلية، في لحمة وطنية نادرة، بريئة من التمايز والتباين والفوقية والثأرية والعنف وكره الآخر. هنا، في المقاصف، لا سقف يعلو فوق سقف النيات الحسنة في طلب المتع الرخيصة.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى