صفحات الرأي

المؤامرة ضدّ المثقّفين

محمد الحدّاد

ما إن وصــــل تيار الإســلام السياســــي إلـــى السلطة في كثـــــير من البلدان العربية حتّــــى أطلق الحرب الباردة ضد المثقّفين. ليـــــس مهمّاً من وجهة نظر الحكّام الجدد أن تثبت نـــزاهة هذا أو تورّط ذاك، فالقضية لا تتعلّق بالمسؤوليات الفردية، ولكن، كونك مثقفاً فأنت متهم، أنت تفكّر إذاً أنت موجود على قائمة المشبوهين، لأن قضية الإسلام السياسي هي مع الثقافة لا مع أفراد مثقفين.

طبعاً، الثقافة بمعنى الفنون الجميلة، مثل المسرح والسينما والموسيقى، مدانة سلفاً، وهذا أمر كان متوقّعاً. لكن ما أدركناه بعد ربيع الإسلام السياسي أن الثقافة بمعنى التفكير هي أيضاً مدانة. المثقفون متهمون بأنّهم كانوا عماد الديكتاتورية، هكذا بالمطلق! أما آلاف الوعاظ والشيوخ الذين كانوا يستغلون الدين في السياسة، أفليسوا جزءاً من ثقافة الديكتاتورية؟

بالنسبة إلى العقل السوي، تبدو الإجابة واضحة وبدهية. لكن، بالنسبة إلى الحكام الجدد، القضية مطروحة في شكل مختلف تماماً: الديكتاتوريات كانت علمانية وتحديثية، وكل من عارض الإسلام السياسي هو علماني وتحديثي، إذاً كل علماني وتحديثي هو جزء من الديكتاتورية! لنسلّم جدلاً بهذا المنطق الأخرق ولنتابع السؤال: ما هي المراجع الثقافية العظيمة التي يقترحها «الإخوان»؟ ماذا يقترحون بدل عبدالله العروي وهشام جعيط ومحمد أركون ومحمد عابد الجابري ورضوان السيد؟ ما هي الكتب التي سننصح بها الطلاب في المستقبل؟

جوابهم: كنّا في ساحات النضال، لذلك لم نجد الوقت لنقدّم مشروعنا الفكري. الجواب عن جوابهم: ساحات النضال لم تمنع بعضكم من بناء الإمبراطوريات المالية والمشاريع التجارية، ولم تمنعكم من تطوير المنظمات والجمعيات، ولم تمنعكم من إغراق السوق بكتب الوعظ والفقه. فلماذا كانت الثقافة القطاع الوحيد الضامر لديكم، وإذا ظهر مثقفون مقربون منكم، فهم دائماً يساريّون وقوميون قدامى ركبوا الموجة؟!

الثقافة لا تقوم في غياب الإبداع ولا تتلاءم مع عقلية السمع والطاعة ولزوم الجماعة، والثقافة تتطلب المعاصرة ولا تتطور خارج التفاعل مع منتجات الآخرين وأسئلة الفكر البشري. والثقافة ليست ترفاً. إنها طريقة الأفراد للتعبير عن وجودهم ووسيلة المجتمع لتطويع ماضيه واستشراف مستقبله. ومعركة الإسلاميين ضد الثقافة إحدى الحماقات التي سقطوا فيها من دون موجب، وكان بإمكانهم تفادي جبهة إضافية مفتوحة ضدهم. وهذه المعركة يخوضونها بوسائل بسيطة جدّاً ومقتبسة كلّها من تجربة الأنظمة البائدة في ترويض المثقفين:

أولاً – رعاية هيئات فخرية لا جدوى منها يحشر فيها جميع المثقفين من طالبي الوجاهة الذين يقبلون بعدم إحراج الحكام الجدد («بيت الحكمة» في تونس نموذجاً!).

ثانياً – تهيئة وعاظ السلطان قديماً كي يصبحوا وعاظ الثورة، ويوجهوا كل طاقاتهم الثورية المستحدثة ضدّ العلمانية والحداثة.

ثالثاً – دعم الدولة وهيئاتها لمجموعة من المبتدئين والمتدربين ليصبحوا، بفضل القرارات الإدارية السلطوية، مسؤولين كباراً في الثقافة يعتدّ بآرائهم ومعارفهم.

رابعاً – تطوير وسائل الكذب والادعاء والسفسطة والثلب والشتم وإبرازها على أنها قدرات ثقافية للأجيال الجديدة من المثقفين الثوريين الملتزمين.

خامساً – وهي القاعدة الذهبية في المجتمعات العربية التي لا تزحزحها التحولات ولا الثورات: وضع الشخص غير المناسب في المكان غير المناسب.

وإلى حـــدّ الآن، تظلّ هــــذه الحرب ضـــد المثقفين بــــاردة، لكنهـــا مهيــــأة لمـــزيد من «السخونة» في المستقبل، لأن هـــــذه الوسائل البدائية لو كانــــت ناجعة لنفعـــت الأنظــمـــة البائدة التي مـــارستها على مدى عشرات السنين. والمثقف الحقـــيقي لا يمكن أن يخرج من جهاز الدولة ومن رفوف الإدارة، أو يعيّن بمرسوم أو قرار سياسيين.

لذلك، لــن نستغـــرب أن تتحـــوّل الحرب الباردة إلى حـــرب أكثر سخونة عندما يدرك الحكام الجدد فشل سياستهم الثقافية الجديدة – القديمة، وهي آيلة إلى الفشل لا محالة!

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى