أحمد عمرصفحات الناس

الماء السوري المقدس/ أحمد عمر

 

 

في العلبة التي اسمها “سوريا الأسد”،  وهي قطعة جغرافية  أولدها الأسد زوجته، فحملت اسمه، إذا ما دعيت يوماً إلى جلى ومكرمة، وشرب فنجان قهوة مع أحد الجنرالات المقاومين، ففي سوريا الأسد، ضباط المخابرات يحبون شرب القهوة مع المبدعين، لتطلعهم باعتبارك كاتباً، على فكرة جديدة في رقصة فالس مع  العدو الصهيوني “الحبيب”، في الوقت والمكان المناسبين، تحت  ظلال الزيزفون، أو بين “الدوالي”، فإنّ  الحراس؛ زبانية الحاجز الحديدي أو الأسمنتي العالي، المقتطع بسكين السلطان، من لحم  الطريق العام، سيستقبلونك بالأحضان، ويوسعونك، قبلاً ولثماً وتبجيلاً، ويفرشون لك السجاد الأحمر، فأنت كاتب، وويلٌ لأمةً تهين مبدعيها، كما  توعد جبران جبران الأمم. الفلاح الساخط الذي وجد نفسه في  أعلى منصب سوري بالنصب والخداع والمكر، والتدبير والاستئصال والقتل والغيلة،  صنع لسورية أقفالاً، ورماها في البحر، ثم جعل شعباً نصفه أنبياء، والنصف الثاني زعماء، حسب قول منسوب لشكري القوتلي؛ صغاراً، رعايا، لا يُرون بالعين المجردة، ويحتاجون إلى مكبرة أو مجهر. ويقفون مذلين في طابور التموين، أو يناجون أنفسهم همساً، خوفاً من الحيطان الكتيمة، والتي لها آذان تترصد الهمسات. وكان “الرجل المدد” الذي أرسله الله لسوريا، لينقذها من التلف و البدد، كما يزعم شعار يلطخ  الحيطان،  إبان أزمة الكهرباء الخانقة في أوائل التسعينات، قد خُيّر بين الماء والكهرباء، اللتين شحّتا، لأن الرئيس مشغول بالحرب مع العدو الصهيوني، والماء تستجر بالكهرباء، فقرر باعتباره رئيس بلدية سوريا، قراراً:  أنّ الماء أهم من النور في الشدة والأزمة، فلا حياة بدون ماء ، فخصص بقرار شفاهي الكهرباء القليلة لاستجرار المياه..

لذلك أول ما يستقبلك به الجنرال المضيف بعد المشي على  السجاد الأحمر  المطرز بالخوف، هو هذه التهمة:  كيف تخون المياه التي شربتها من أرض سوريا؟  خيانة؟ أنت مواطن عادي ، وليس في يدك سلاح، بل ليس لك صوت تنتخب به، وعصير الفواكه عزيز، فمن أين جاءت الخيانة أتكون مياه سورية مياه الشباب وأكسير الحياة؟  ثم يتبين أنّ الخيانة هي الكتابة .. القراءة ممنوعة إلا ما تسمح به السلطة، والكتابة أولى بالمنع.

المعروف أن الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار، يعني المياه ليست مثل الحليب، وإلا لكنّا نحن وإسرائيل، التي تشرب مياه الجولان أخوة بالرضاعة. في الأيام التي كان فيها الماء والكلأ والنار مشاعاً، وملكاً لرب الناس، وما هو ملك لله ملك للناس جميعاً، صفراً كانوا، أم حمراً، أو سوداً، كان الخبز والملح أحد الروابط الوطنية والدموية بين الكائنات، ولا تزال هذه  الرابطة  قائمة في أفغانستان التي يسخر منها التقدميون، وباتت طورا بورا رمزاً للتخلف، لأن أمريكا قررت ذلك، ودكّتها بثلاثمائة وخمسين طناً من اليورانيوم المنضب، مع أن طورا بورا مثال في التضحية مثل مرج الزهور، وبابا عمرو، ودوما .. فالخبز والملح طعامان مركبان، دخل فيهما الجهد والعرق البشري، وهما مقدمتان للتحول إلى دماء تسري في عروق الإنسان. العرق يسري من جبين العامل الطابخ إلى الآكل الطاعم، فيصير أخيه، فما بال الماء؟

هل تحولت مياه سوريا إلى زمزم مقدسة؟ أم أنّ المحقق يهدد بالحرمان من الماء والقتل صبراً، أم أنه يجعل نفسه مالكاً لمياه سوريا، التي اخترعها الأسد، فوحد قطرين من الهيدروجين مع قطر أكسجين  فتشكل جزئ الماء؟ والخيانة هي أنك كتبت مقالاً، والمقال ليس في السياسة المحرمة،  وإنما في شأن ثقافي، ولكنها ممنوعة، لأن الكتابة امتياز، وهذا الامتياز ممنوع،  فهو شرف وكسب، وكلاهما رفعة، ويجب أن يكون مقصوراً على مختارين ومنتخبين.  قلت مدافعاً عن نفسي، متدرعاً بقول الرئيس: لا رقابة على الفكر سوى رقابة الضمير.

فكأنه ينتظر هذه الجملة التي سمعها كثيراً من أمثالي أبناء القلم فتدرب على جوابها المحكم: بس أنت ما عندك ضمير!

قبل ثلاثين سنة نصح الطبيب صديقاً،  تجنباً لعملية جراحية لإزالة الحصى من المثانة، بالعيش مدة شهر في  بلدة  نبع دريكيش ذات المياه  المعدنية، ولم تكن وقتها قد ظهرت بدعة المياه المعبأة في القوارير البلاستيكية، التي تأخرت في بلادنا عقوداً، بسبب انشغالها بالحرب رقصاً وطرباً، فرحب بالفكرة، وإن كانت دونها مشكلة، وهي إسمه، فإسمه عمر، وهو اسم ترتعد له فرائص الشيطان وسلالته حتى الآن، فاتفق مع أخيه أن يستأجر بيتاً، وذهب لاحقاً مع عائلته، واستعار لنفسه اسماً جديداً ينادى به هو علي ! بعد ثلاثين سنة قرأنا في الصحف أن مياه المدينة تلوثت في عصر الرجل المدد  بمياه الصرف الصحي، وهذا طبيعي، فالسمكة تفسد من المياه قبل رأسها، فيما بعد  شاهد أبناء سوريا، التي فيها أعذب مياه في العالم، هي بقين ودريكيش قناني مياه عادية ومستوردة من صحارى الخليج العربي تباع للسياحة!

يتهمون الشعب السوري بخيانة الماء، بينما يشربون دمه حلالاً زلالاً، في علب ماركة مسجلة، أو  عذباً فراتاً، مع الأنخاب!

من المفارقات أنّ الشعب السوري يموت إما حرقا بالبراميل أو غرقاً في  بحار الشرعية التي لا تنتهي.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى