صفحات العالم

المتاهة السورية/ ماجد كيالي

 

يسود في الأوساط السياسية السورية، المحسوبة على الثورة، التخوف من خطرين، أولهما، المشاريع التي تروّج لها بعض الأوساط الدولية والإقليمية والتي تتحدث عن فرض نوع من الحلول التي تتضمن تقسيم البلد، وفق معايير إثنية وطائفية. وثانيهما، مشاريع الحلول التي تتضمن تعويم نظام بشار الأسد، ولو لمرحلة انتقالية، بدعوى الخوف من الفراغ، أو الافتقاد للبديل المناسب، أو باعتبار النظام القائم أقل خطورة من البديل المتمثل بـ»داعش» وأخواتها.

بيد أن السوريين، في غضون ذلك، يواجهون مخاطر أخرى، ربما تكون أكثر تأثيرا على واقعهم ومستقبلهم، يأتي في مقدمتها غياب أي عملية سياسية لإخراج بلدهم من حال الخراب العميم الذي يفتك به من كل حدب وصوب، وعلى كل الأصعدة، أي البشر والعمران والدولة والجغرافيا والموارد.

المعنى من ذلك، أن مشكلة سوريا لا تتمثل في وجود هذا المشروع أو ذاك، بغض النظر عن الموقف منه، وإنما هي تتمثل في الافتقاد المريب، والمشين، لأي عملية سياسية جدية، يمكن أن تؤسس لتوافق دولي وإقليمي وعربي، يؤدي إلى وقف تعميم القتل والخراب والتشريد الجاري منذ أكثر من ثلاثة أعوام.

على ذلك، ليس ثمة مشاريع جدية وحقيقية معدة لسوريا، ويبدو أن هذه لم يحن أوانها بعد، من وجهة نظر اللاعبين الكبار، ولاسيما بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، وهذا ما تؤكده الوقائع، وضمنها مداولات مؤتمر جنيف 2، الذي كان بمثابة تمرين دبلوماسي، أو بمثابة لقاء بروتوكولي لا أكثر، وكذلك تصريحات الرئيس الأميركي وأركان إدارته، بشأن السياسة المعتمدة في سوريا. كما تؤكده الخلفيات المتعلقة بقيام الائتلاف الدولي في مواجهة «داعش»، والتي لم تصل إلى حد استهداف النظام، رغم انه المسؤول عن كل ما يجري في سوريا، وضمنه نشوء وصعود داعش ذاتها.

أما الفكرة الأخرى المتعلقة بالتقسيم، فهي تذكر بالأفكار السياسية المتسرعة والنمطية والساذجة، التي سادت ابان الاحتلال الأميركي للعراق، والتي كانت تروج لفكرتين مفادهما، أن الولايات المتحدة الأميركية تريد استعمار العراق والبقاء به ونهب ثروته النفطية، وأنها فوق كل ذلك تنوي تقسيم العراق. ومع كل الانتقادات والإدانات للسياسة الأميركية في العراق، وضمنها غزوه، وفرض ترتيباتها السياسية فيه، إلا أنها جاءت عكس تلك الادعاءات، إذ أن الولايات المتحدة تركت العراق، وسلمته لـ»أصحابه» موحدا، بعد أن أخرجت جيشها منه وفق جدول زمني معين. أما ما حدث بعد ذلك، فتقع مسؤوليته على كاهل العراقيين أنفسهم، وبالضبط، على الطبقة السياسية المسيطرة، التي تبينت عن طبقة سياسية غارقة في الفساد وضيقة الأفق وطائفية، ولا تجسد المصالح الوطنية للعراقيين، بقدر ما بدت كممثل لمصالح إيران في العراق وعلى مستوى الإقليم.

القصد من ذلك هو القول إن عهد الاستعمار التقليدي انتهى منذ زمن، إلى غير رجعة، وأن أشكال التبعية اليوم، لاسيما في عصر العولمة، باتت أكثر تشعبا وتعقيدا، وهي ربما أعمق من العلاقات الاستعمارية المعروفة. هذا ينطبق، أيضاً، على فكرة التقسيم إذ لم يعد ثمة ما يفيد بأن فكرة «فرق تسد» ماتزال تعمل، لأن الدول الكبرى، وشركاتها، بات يهمها التعامل مع أجسام واسعة، ومع مصالح ممتدة، أي أن القانون العام اليوم يدفع باتجاه التوحيد، أو التكتل، وليس باتجاه التفرق.

يستنتج من ذلك أن مقولات وطرق عمل القرن الماضي لم تعد تعمل في هذا القرن، وفي هذه الظروف، وأن محاكمة الحاضر بناء على الماضي، لا تفيد، ولا تنم عن نضج سياسي، ناهيك عن ضررها.

وإلى المخاطر الناجمة عن غياب أي توافق سياسي دولي وإقليمي وعربي، في شأن سوريا، ثمة المخاطر الناجمة عن حال التمزق في مجتمع السوريين، إذ إن كل يوم إضافي، في هذا الخراب، يعني مزيداً من الأسوار بين مكونات مجتمعهم، ومزيداً من الفجوات بينهم. والمشكلة هنا أن المحسوبين على الثورة، أو من يتصدرها، مازالوا في حالة انكار لهذه الحقيقة المؤسسّية، ولعل ذلك يفسّر تدني اهتمامهم ببحث الجهود لتوليد رؤى سياسية تؤكد واقع التعددية والتنوع الاثني والديني في سوريا. ولا شك في أن صعود «داعش» و»النصرة»، وباقي الجماعات العسكرية التابعة لجماعات الإسلام السياسي التكفيري والمتطرف، أسهم في تعميق الانقسامات بين السوريين، فضلاً عن أنه أثار مخاوفهم.

يأتي ضمن المخاطر، أيضاً، ضعف قدرة السوريين على توليد ألية مناسبة لإنتاج طبقة سياسية، أو مرجعية سياسية، تتولى إدارة أي عملية سياسية انتقالية في البلد. والمشكلة اننا نتحدث عن ذلك بعد مرور أربعة أعوام، تقريبا، على الثورة السورية، في حين أن هذه مازالت تعاني الافتقاد لأطر شرعية، ومرجعيات قيادية، سواء كانت في المجال السياسي أو العسكري أو الإغاثي، وهذا أمر يتحمل مسؤوليته السوريون قبل أي أحد غيرهم.

الفكرة هنا أن نظام الأسد بات في حكم المنتهي، وأن المسألة تتعلق بالوقت، والظروف، وأن السوريين، في ضعف اجماعاتهم، وتفرّق رؤاهم السياسية، وافتقادهم للمؤسسات والأطر القيادية، يتحملون المسؤولية عن إطالة عمر النظام، وضمنه المسؤولية عن ارتفاع الأسوار في ما بينهم، وبالتالي البقاء في هذه المتاهة المدمرة.

المستقبل

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى