صفحات الثقافةياسين الحاج صالح

المثقفون والثورة في سورية


ياسين الحاج صالح

فوق المتوقع كانت مشاركة مثقفين في الثورة السورية. لقد سُجِن مثقفون أثناء الثورة، وأسهم مثقفون في أوجه متنوعة من أنشطتها، وبرز مثقفون في قيادة التشكيلات المعارضة التي ظهرت بعد الثورة. وتعطي أسماء نجاتي طيارة ورزان زيتونة وفدوى سليمان وبرهان غليون فكرة أولية عن دور المثقفين السوريين في الثورة.

1

عدا اتساعها كميا، تعرض مشاركة المثقفين في الثورة السورية ملمحين لافتين. أولها، الانخراط النسوي المهم، بما في ذلك في العمل الميداني. لقد اعتقلت ناشطات مثقفات، واضطرت أخريات للتواري، وغيرهن إلى مغادرة البلد. غير رزان وفدوى، تُذكَر أسماء ريم الغزي (معتقلة اليوم) ورفاه ناشد وهنادي زحلوطة ورزان غزاوي وغيفارا نمر (اعتقلن لبعض الوقت) وروزا ياسين وخولة دنيا وحنان اللحام وغيرهن، فضلا عن ناشطات يعشن اليوم خارج البلد مثل ريما فليحان ومي سكاف ورشا عمران وسهير الأتاسي وسمر يزبك، وقد خرجن تجنبا لمخاطر تتهددهن. فضلا أيضا عن عشرات من الفتيات الشابات اللاتي يعملن على تنظيم بعض أنشطة الثورة، بما فيها التنسيق الميداني، ومنهن من بدأن للتو عملهن الصحفي أو الفني. وهذا كله لا يقول شيئا عن مشاركة عموم النساء السوريات في الثورة (من الأسماء المعروفة دانا جوابرة ومروة الغميان وملك شنواني… وثلاثتهن اعتقلن وقتا)، ولا عن مبادرتهن في غير منطقة إلى تنظيم أنفسهن والاستقلال بعملهن. وهو ما لم يجر تناوله بصورة منظمة بعد.

وبينما يشكل حضور نساء مثقفات بحد ذاته حدثا غير مسبوق، فإن في تحدّر نسبة مهمة منهن من أقليات دينية ومذهبية، ما يقول أشياء مهمة عن الثورة السورية: ليست ثورة رجال أو ثورة ذكورية (يحتمل، تاليا، أنها نزاعة لأن تكون عنيفة، إيديولوجية، مُنشدّة إلى السلطة أساسا)، وليست ثورة مسلمين سنيين (متمركزة حول العقيدة أو تحركها دوافع دينية، أو حتى حرمانات فئوية خاصة بهم)، ولا هي ثورة الأكثرية العربية (المشاركة الكردية بارزة ومعروفة، ومشاركة آشوريين لافتة). إنها ثورة إنسانية ووطنية عامة، لا يشعر أحد فيها بأنه غريب.

والشيء المهم في مشاركة المثقفات، والمشاركة النسوية في الثورة عموما، أنهن بادرن إليها منذ بداية الثورة، ودون أن يكنّ تحت قيادة أحد (غير قليل منهن “قائدات” في ميادينهن)، ودون أطر محددة لعملهن، ودون تسويغ دورهن بإيديولوجية نسوية، أو بأية إيديولوجية على أية حال.

في المحصلة، يمكن القول باطمئنان كامل إن مشاركة النساء، والمثقفات منهن، في الثورة أكبر من مشاركتهن في نظام يصف الثورة بأنها سلفية، وإنه إن تكن مشاركة نساء (ورجال) من أقليات ليست أكبر عددا ممن قد يفضلن ويفضلون النظام، فإن مشاركاتهم أوسع من كافية لإبطال أسطورة الثورة السلفية. الواقع أن هذه الأسطورة تقول الكثير عن النظام وعمّا يريده، وليس أي شيء عن الثورة.

2

الملمح الثاني لمشاركة المثقفين في الثورة السورية يتمثل في أن مثقفي الكلمة، أو الكتاب، ليسوا الأبرز حضورا اليوم، خلافا لكل ما اتسم به دور المثقفين في الحياة العامة في مراحل سابقة من تاريخ البلد. وأن مجال نشاط كثيرين منهم اليوم يحيل إلى السمعي البصري: أشرطة مصورة، أغاني، عروض فنية، فضلا عما تتيحه شبكة الانترنت مواقع التواصل الاجتماعي من مزج بين الكلمة والنغمة والشريط المصور. أنشطة الثورة الاحتجاجية بالذات عرضت نفسها كمشهد احتفالي يبث، وهي لا تفترض الكاميرا والكمبيوتر وحدها، بل كذلك التلحين والتدريب والتنظيم والإخراج. وإلى هذا كله رسوم كاريكاتيرية (علي فرزات، طبعا) ولوحات وبوسترات.

بالمقابل، يظهر عدد غير قليل من مثقفي الكلمة مواقف حيال الثورة تتراوح بين التحفظ والارتباك والتأييد الفاتر، والكلام المزدوج، هذا حين لا يكونون معادين لها صراحة. قد يعود هذا إلى أن مثقفي الكلمة، وهم عموما أكبر سنا من مثقفي الصورة والصوت والخط، استبطنوا إحباطات متكررة في حياتهم، فلم تعد لهم قلوب. وكذلك تعود كثيرون منهم على العقلنة التبريرية، والعيش في عالم من كلمات كتيمة لا تكاد تسمح بتسرب شيء من الواقع، وتغليب استقرارهم الفكري والنفسي الخاص على المساهمة المتعبة في صنع أوضاع عامة أكثر عدالة. مثقفو الصورة والنغمة واللون، بالمقابل، أقرب إلى الحياة المتغيرة، وأقل انغماسا في العقلنة الزائفة بحكم سنهم الأصغر عموما من جهة، ونوعية أدوات عملهم الأكثر قربا من الحساسية والمخيلة وشريحة أوسع من الواقع والإنسان العادي من جهة ثانية.

3

وعلى نحو ما كانت الثورة مناسبة لظهور معارضة جديدة متميزة عن المعارضة التقليدية بكونها أفتى، ولا حزبية، وأقرب للحياة وميادينها، وأقل تمركزا حول الإيديولوجية والسلطة، فإنها أيضا التجربة المكونة لمثقفين جدد، يتميزون عن المثقفين التقليديين (ومنهم كاتب هذه السطور) بالعمر الأصغر وبالأدوات الأكثر طليعية، كما سبق القول.

الواقع أن معظم المثقفين التقليديين كانوا مرتبطين في طور من أطوار حياتهم بالمعارضة الحزبية وإيديولوجياتها، وبعضهم لا يزالون كذلك بصورة ما، فيما تبدو العلاقة بين المثقفين الجدد والمعارضة الجديدة علاقة وثيقة بدورها، بما يسوّغ الكلام على “كتلة تاريخية” جديدة، مكونة من “مجتمع العمل” (السكان الذين يعيشون من عملهم)، ومن طيف من الناشطين والمناضلين السياسيين الشبان الذين يشكلون المعارضة الجديدة، ومن المثقفين الجدد، الشبان بدورهم.

4

لكن إذا كان الميل العام هو كذلك دون شك.، فليس من الصواب في شيء رسم حد فاصل نهائي بين جيلين من المثقفين. هناك حد فاصل واحد كبير هو بين من هم مع الثورة ومن هم مع النظام. وبين الأولين معارضون ومثقفون تقليديون، كهول وأهل كلام، وبين جماعة النظام شبان.

والواقع أن أهم ما قد يؤخذ على المثقفين التقليدين ليس أنهم لم يساهموا في الثورة، فقد ساهم بعضهم؛ المأخذ المهم هم أنهم ساهموا في الثورة غالبا كسياسيين، وأقل بكثير كمثقفين.

هذه سمة مميزة جدا للكتلة التاريخية التقليدية، إن صح التعبير: المثقفون عينهم على السياسة، حتى من يفضلون منهم أن يُعرّفوا كـ”مفكرين”، ومن آل الأمر بهم إلى عداء صريح للمعارضة التقليدية. في أعمال هؤلاء الفكرية، هناك الكثير جدا من السياسة والحسابات السياسية المباشرة، غير المصرح بها.

الموقع شبه الشاغر من جهة المثقفين التقليديين هو المشاركة في الثورة من موقع الثقافة، أي العمل على تغطيتها معرفيا وجماليا وأخلاقيا، بما في ذلك نقدها على أرض قيمها العامة.

بالمقابل، لا يبدو أن المثقف الجديد يجد أي عسر في الانخراط في الثورة، دون أن يرى في ذلك نشاطا سياسيا، أو ينضبط بعقيدة محددة، أو ينخرط في حزب. الواقع أن العديد من رموز الثورة الشبان، ومن شهدائها، هم أقرب إلى فنانين في نمط حياتهم، حين لا يكونون كذلك في مهنهم، وما دفعهم للانخراط في الثورة اعتبارات أخلاقية تتصل بالعدالة والحرية والإنسانية، أكثر مما هي أية اعتبارات سياسية مباشرة. وهم يثورون دون إيديولوجية ثورة، وينسجنون دون إيديولوجية سجن بطولية، وفي موقفهم العام غير قليل من السخرية والشجاعة والتواضع.

5

وتصلح هذه الكلمات لفدوى سليمان بيانا لتعريف المثقف السوري الجديد: “قالت لي إحدى الصديقات إنني أصبحت شئت أم أبيت رمزا للثائرة العلوية الفنانة… وإنني يجب أن أنتبه إلى تصرفاتي أمام الناس لأبقى ذلك الرمز الذي لا تشوبه شائبة.. أقول لتلك الصديقة ولغيرها إنني لست صنماً.. وإن الشعب السوري على حد معرفتي يسقط الأصنام في بلده.. وأنا لست منافقة لأتحول إلى صنم لا حياة فيه.. أنا فدوى التي تحيا بكل ما في الحياة من حياة.. ولديها كالحياة سلبياتها وإيجابياتها.. لدي حبيب كباقي الناس.. وأصوم وأصلي ولكن على طريقتي.. وقد أشرب كأس نبيذ الذي صنعه جدي.. وسأشرب نخب النصر من نبيذه.. وأحترم من لا يشرب وأحترم وأجل من يصلي.. وأقدس من يصوم وهو ليس صنما بل إنسان يصل ويتواصل.. وإن كنتم حولتموني إلى رمز لتسلبوا حريتي.. فليسقط الرمز ولتحيا الحرية ..حريتي…..وأنا لست علوية ولست فنانة.. أنا الثائرة صحيح منذ مولدي على كل القيم البالية في مجتمعي .. الثائرة لأجل الحرية ولأجل أن يكون الناس أحراراً فيما يعتقدونه ويؤمنون به ويحبونه طالما أنه يريحهم حتى لو عبدوا الشجرة.. فليسقط العلويون وليبقى الإنسان فيهم، وليسقطوا السنة والدروز والإسماعيلية والإسلام واليهودية والمسيحية، وليبق الإنسان فيهم.. عاش الإنسان حراً كريماً أينما كان، ومهما كان إنتماؤه ودينه عاش الإنسان أينما كان مهما كان انتماؤه ودينه.. عاش عاش عاش..” (من صفحتها على فيسبوك https://www.facebook.com/fadwa.soliman1?ref=ts).

مدهش حقا: لست صنما! أنا فدوى! كالحياة! لي حبيب! فليسقط الرمز وتحيا الحرية! أنا الثائرة! يسقط العلويون والسنة والدروز… ويحيا الإنسان! وتضع رفضها لأن تكون صنما في سياق إسقاط السوريين للأصنام!

فدوى سليمان ممثلة معروفة، في ثلاثينات عمرها. اشتهرت بظهورها في بعض أحياء حمص الثائرة (هي من ريف طرطوس، وكانت تعيش في دمشق) إلى جانب عبد الباسط الساروت (20 عاما، كان حارس فريق نادي الكرامة الحمصي للشباب، وينسب إليه أنه يعتبر نفسه حارس كرامة الشعب السوري).

فدوى ليس ممثلة للثورة (وإن تكن “ممثلة” في الثورة). لكن مختلفين كثيرين عنها يشبهونها في الحساسية والحرية الداخلية.

وأمثال فدوى المتوارية، وعامر مطر وشادي أبو فخر المعتقلان، وغياث مطر الشهيد، هم وجوه سورية الجديدة ورموزها. هؤلاء ليسوا مثل بعضهم، لكن أكثر ما يميزهم أنهم يفكرون من رؤوسهم ويشعرون من قلوبهم ويحكمون من ضمائرهم.

6

على أن ما يشغل البال منذ الآن هو الموقع المحتمل للفكر الحر والثقافة النقدية، والإنسانيات، والفلسفة، في ثقافتنا في سورية الجديدة. هذا الموقع متواضع أصلا، وهو معرض في مقبلات الأيام للتحدي من جهتين. الجهة الإسلامية المحافظة التي تصدر عن نموذج فكري وقيمي متحفظ عن أسس الفكر الحر، ونزاع إلى الرقابة على الثقافة وإلى التحكم بالتعليم؛ ثم من جهة ثقافة الصورة، أو الثقافة المرقمة، والفنون التي تشكل نقطة قوة للثورة اليوم، والتي تعتمد كثيرا على التكنولوجيا.

الديمقراطية وثيقة الارتباط بالفكر الحر ومفهوم الحقيقة الموضوعية والمثقف الناقد. فماذا سيكون حالها في إطار اجتماعي سياسي، تحوز التيارات الإسلامية حضورا واسعا في حياته العامة، ويجتذب العالم الرقمي جيل الشباب؟ لا نعلم. من المحتمل أن تكون قاعدة الثقافة أوسع، لكن مع قليل من الثقافة الرفيعة. لكن أليس مثل ذلك قيل بخصوص الديمقراطيات الأوربية في القرن التاسع عشر؟ قاله أمثال طوكفيل ونيتشه؟

على أن كل شيء مرهون بما ينجو من سورية من نظام التدمير الشامل، القائم. وبينما من المرجح أن ننعم بقدر أكبر من الحرية في كل حال، فإن كل شيء آخر سيكون أكثر صعوبة. الحرية بحد ذاتها تجعل الأشياء كلها أصعب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى