صفحات الرأي

“المثقف الشبيح”.. كيف وضعت الثورات مصداقية المثقف على المحك؟/ شريف مراد

 

 

خلال السنوات الأخيرة؛ أثناء الربيع العربي وتداعياته، والأسئلة التي فجرتها التجربة التاريخية الفريدة التي مرت بها المجتمعات العربية، لم يحدث أن كان المثقف العربي محل نقد وهجوم(1) كما حدث فى تلك الفترة، ولم يحدث أن تعرضت مقولة المثقف والثقافة وقضاياها وآلياتها لاختبار وامتحان المصداقية المرير، كما تتعرض الآن!

فمنذ بداية مشروع التحرر العربي القومي من الاستعمار في منتصف القرن الماضي، برزت وتبلورت مهمة جديدة للمثقف العربي، وهي النضال مع الجماهير العربية، الجماهير التي وجدت نفسها مُقصاة، ومَحرومة من أي نصيب لها من مكاسب نضالها الطويل ضد الاستعمار الأجنبي؛ ذلك النضال الذي كان من أبرز نتائجه الاستقلال.

وفي سياق تاريخي أوسع (2) ارتبط مشروع المثقف دومًا بالنضال من أجل التنوير والحقيقة، ومقارعة السلطات المهيمنة المتسلطة على رقاب الناس وقدراتهم، إلا أنه بالتأمل في سياقها العربي كانت الشرارة الأولى التي أشعلت فتيل الربيع العربي -والتي تعد أكبر احتجاج جماهيري ضد الاستبداد السياسي في تاريخ المنطقة- غير مَصنوعة أو مُوجهة من قبل مجموعات من المُثقفين؛ “حيث غاب الجدل والتنظير الثوري الذي يسبق الثورات عادًة؛ بل إن الغالبية منهم -بعد قيام الثورات- ظلت حائرة ومرتبكة أمام التداعيات الواسعة والمتلاحقة لموجات الربيع العربي” كما يوضح الباحث محمد المُحسن (3).

حيث ظهر بشكل واضح أن المثقفين العرب لم يكونوا جاهزين لهذه اللحظة التاريخية، التي طال انتظارها عقوداً. وأوقعت هذه التداعيات المثقف العربي في أزمة هي الأعنف في تاريخه(4)، وخلقت تناقضات ما زالت تظهر تباعًا في الساحة الثقافية، وتعرض نجوم الثقافة العربية جراء ذلك للمساءَلة والنقد عن دورهم؛ بل وعن جدوى مشروعهم الثقافي، في ظل التطورات الأخيرة، وتم توجيه أصابع الاتهام لهم بأنهم لا يفعلون شيئاً سوى التنظير المجرد، البعيد عن هموم الجماهير وتطلعاتها، الجماهير التي لم تعد تقبل أي دور لهم أقل من المشاركة فى النضال من أجل الحرية والتغيير.

المثقف.. من هو وما دوره؟!

لفظ المثقف ليس سوى صيغة لغوية حديثة فى سياقنا العربي لا أقل ولا أكثر، فضلاً عن أنّ تداول المفهوم نفسه في الخطاب العربي حسب الجابري لا يتجاوز نصف قرن

بيكساباي

يُعتبر مفهوم المثقف أحد المفاهيم الإشكالية متعددة المعاني فى المجال العربي، بسبب النشأة الغربية للمصطلح، ففى التراث العربى لا نعثر على مفهوم المثقف أو ما يُماثله دلاليًا، فهو لم يتم استخدامه بمعناه المتداول الآن إلا بعد تواصل الغرب والشرق فى العصر الحديث، على الرغم من أن الدور الاجتماعي للمثقفين كان موجودًا من قبل في المجتمعات الإسلامية؛ مُمثلا فى طبقة العلماء والفقهاء والقضاة وحتى الفلاسفة المسلمين؛ من حيث حفاظ العديد منهم على مسافة بينهم وبين السُلطة السياسية وبين الجماهير، وتقديم أنفسهم كطليعة اجتماعية من أجل نشر الوعي والمعرفة؛ حيث يشير المفكر العربي محمد عابد الجابري(5)  إلى أنّ “لفظ المثقف ليس سوى صيغة لغوية حديثة فى سياقنا العربي لا أقل ولا أكثر، فضلاً عن أنّ تداول المفهوم نفسه في الخطاب العربي حسب الجابري لا يتجاوز نصف قرن”.

ورغم حداثة هذا المفهوم إلا أنه أصبح محور اهتمام كبير فى التاريخ العربي منذ عصر الاستعمار ودخول المجتمعات العربية فى الحداثة؛ حيث أصبحت الثقافة والأفكار العمومية -مع تشكل الدولة الحديثة- تملك دورا واضحا فى علاقتها بالسُلطة وهيمنة الدولة الحديثة(6)، ليصبح المثقف بدوره يلعب دورا محوريا -سواء في علاقته بالسُلطة أو بالجماهير- في النقاش حول التغيير، أو في الدفاع عن المجتمع(7).

بيد أنه عند البحث عن أشكال وأنواع المثقفين على المستوى العالمي عموما والمستوى العربي خصوصا، عادة ما نجد أغلب الدراسات والأبحاث والكُتب المهتمة تفرق بين نوعين من المثقفين؛ هما المُثقف العُضوي، والمثقف العام.

المثقف العضوي وهو مفهوم المفكر والمناضل الماركسي أنطونيو غرامشي، ليس مجرد المثقف صاحب المشروع الثقافي والأخلاقي وحسب؛ بل هو بتعريف غرامشي “مثقف الكتلة التاريخية المُهمشة، مُثقف عضوي؛ أي كعضو فاعل فيها، وكساع لإزاحة القوى التاريخية القديمة والمهيمنة عن طريق كسر هيمنتها و فضح تزييفها لوعي المُهمّشين، وأخيرًا هو المُلتحم مع الجماهير فى نضالها الاجتماعي والسياسي “(8)؛ حيث يرى غرامشي أن المثقف العضوي، كعضو فى جسم سياسي واجتماعي  يُمكنه أن يُشكل  هيمنة بديلة عن الهيمنة الرأسمالية وهيمنة السُلطة(9).

أما المثقف العام(10)، فهو المثقف المُنطلق من الفهم العام لقضايا المجتمع، ويقدم رؤيته بدون بُعد أيديولوجي أو عضوي لحزب أو مجموعة معيّنة، بمقدار ما تكون مُنطلقاته نابعة من الشأن العام أو المصلحة العامة؛ ولذا نجده داعمًا أحيانًا وناقدًا أحيانًا.

وتظهر كذلك بعض الأشكال الأخرى للمثقف كما يوضح الدكتور عزمي بشارة، مثل المثقف الإصلاحي الذي “يوجه نقده للسُلطة من خلال العمل على تحسين النظام الاجتماعي السياسي القائم، ويعمل على تحقيق انحيازاته الثقافية أو حتى الأخلاقية من داخل النظام”(11)، وكذا المثقف المحافظ وهو لفظ استخدم للإشارة -كما يوضح بشارة- “إلى المثقفين المدافعين عن أشكال السُلطة القائمة ضد محاولات التغيير الإصلاحية أو الجذرية؛ معللين ذلك بغياب البديل أو باحتمالية الفوضى والانهيار”(12).

تجدر الإشارة -هنا- إلى أنه مع تحديث المجتمعات العربية -رغم كل التحفظات هنا- وتفكيك كل البُنى الاجتماعية والنفسية التقليدية وظهور مؤسسات المُجمتع المدني والجامعات والمؤسسات الثقافية والفنية الحديثة مفهوميًا واجتماعيًا(13)، أصبح ما ينطبق على المثقف الغربي ينطبق على المثقف العربي.

أزمة المثقف العربي

في بداية حركات التحرر القومي في مطلع الخمسينيات كان المثقفون العرب في طليعة المواجهة مع الاستعمار كمثقفين عموميين أو مثقفين عضويين (14) كجزء من حركات التحرر ذاتها، ولعبت الثقافة العربية دورًا هاما فى تحقيق وعي الجماهير العربية بذاتها، وفي تحريكها ضد الاستعمار الأجنبي.

بعد ذلك، شهدت وضعية المثقف العربي داخل المجتمع  تحولات عديدة منذ أواخر السبعينيات وبعد انتهاء مرحلة استقلال معظم الدول العربية، مرورا بمراحل الصراعات والحروب الأهلية، وصولا إلى مرحلة الربيع العربي التي شهدتها العديد من الدول الشرقية والمغربية في بداية قرننا الحالي؛ الحادي والعشرين(15). كان المثقف خلال كل ذلك يعيش نفس أزمات الأنظمة السياسية التي تلاحقت على الفضاء العربي، ويعيش أيضا نفس طفرات التغيير والتقدم التي تشهدها المجتمعات العربية.

يسرد الباحث علي محمد فخرو ثلاث أطوار مر بها المثقف العربي قبل الربيع العربي(16)، المرحلة الأولى وهي المرحلة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى وأثناء المحاولات التحررية من الاستعمار الأجنبي؛ حيث لعب دور المُبشِر بكل ما تأتي به السياسات والتطبيقات الليبرالية والأنظمة الدستورية المشابهة -إلى حد كبير- للممارسات الليبرالية الغربية؛ حيث كانت تلك الحقبة تعبر عن فترة انبهار المثقف العربي بسيّده المستعمِر القديم(17)، فكان دوره هو المُوجه والمجدد الثقافي والوسيط الثقافي بين الاستعمار والمجتمعات العربية، وكان دورا -فى الأغلب- مقدرا من قبل العامة  حتى مع ظهور بعض الزعامات السياسية التي رفضت الاستعمار؛ إلا أن الأنظمة الحديثة التي أتى بها الاستعمار كانت محط إعجاب الغالبية الكاسحة من النخب العربية.

في الحقبة الثانية عند صعود نجم الدولة العربية القومية الشعبوية بشعاراتها الثورية واليسارية، انغمس المثقف بكليّته في النضال السياسي، وحاول أن يلعب دور المثقف العضوي الغرامشي  الملتزم بقضايا أمته ووطنه؛ إلا أن المفارقة هنا أن عضوية المُثقف كانت داخل السُلطة وداخل الجهاز الأيديولوجي للدولة(18) وليس الجماهير المناضلة المتعطشة للحرية والعدالة.

في الحقبة الثالثة؛ وهي تلك التي أعقبت تراجع الدولة القومية الشعبوية، والتي حلت محلها الدولة الوطنية التابعة للخارج سياسيًا واقتصاديًا، والمُتبنية لليبرالية الاقتصاد الرأسمالي المتحرر من أي التزامات اجتماعية تجاه الطبقات الوُسطى والدنيا؛ حيث ضعف المجتمع بأسره نتيجة ارتفاع تكلفة الحياة اليومية والاقتصادية وتزايد النزعة الاستهلاكية، وهي النزعة التي شجعتها وعززتها الأنظمة؛ مما أدى إلى انصراف أغلب قطاعات المجتمع عن الثقافة والأيديولوجيا (19) تحت ضغط الهموم الخاصة واليومية.

انعكس ذلك الضعف المجتمعي -بالسلب- على دور المثقف العربي النقدي بصفة عامة؛ سواء كان إصلاحيا أو ثوريا (20) بعد انهيار المجتمع الذي ارتبط به وحاول الاحتماء به من السُلطة، بالإضافة إلى ترهل الدولة واتساع حجم الفساد داخلها فرأت في المثقفين مصدر إزعاج ونقد لتوجهاتها الاقتصادية ومصالح نخبها الحاكمة.

المثقف الشبيح.. كيف وصلنا إلى هنا؟

بحسب الباحث المغربي مصطفى آيت (21) فإن “حالة اللا-سياسة والضعف المجتمعي الكبير الذي أصاب المجتمعات العربية منذ منتصف الثمانينيات مع استقرار الأنظمة العسكرية والطائفية والقبلية، وسُلطة اتفاقية أوسلو فى أوائل التسعينيات، أصاب وضعية المُثقف العربي بالضعف” حيث فقد ثقته تدريجيًا بالجماهير، وتغيرت علاقته معها، وتقلصت حاضنته الشعبية أمام السُلطات الاستبدادية.

فمع الوقت بدأت السُلطة في استلاب المثقفين الذين وجدوا أنفسهم في العراء أمام سُلطة تنفيذية متوغلة بلا أي معايير أخلاقية وقانونية من خارجها؛ لتتنامى بذلك ظاهرة المثقف المُحافظ، أو بتعبير أدق مثقف السُلطة (22) على حساب المثقف العام أو المثقف العضوي.

ويوضح مصطفى أن “مثقفي السُلطة هم المُثقفون الذين يناضلون من أجل بقاء السلطة الحاكمة ونُمِّوها وهيمنتها وبقائها؛ مستعملين وسائل الدفاع المشروعة وغير المشروعة أخلاقيا وقيميًا”(23) ، من أجل إنجاح تَمركُز السُلطة والنظام الحاكم، حتى ولو حدثت إبادة جماعية من أجل هذا الهدف.

بدوره يفسر الدكتور عزمي بشارة تلك الظاهرة “بأن المثقف العربي اليوم لم يعد بإمكانه أن يكون إصلاحيا؛ لأن الدولة التي سيرتبط بها ويدافع عنها لا تملك مشروعا إصلاحيا؛ وبالتالي لا يستطيع الدفاع عن شيء، ومن هنا ينتهي المثقف الإصلاحي إلى شبيح”(24).

وتعتبر الثورة السورية، أكثر من كشفت عن هذا النوع من المثقفين، فمن تمت تسميتهم بالـ “المُثقفين الشبيحة” في دفاعهم عن جرائم النظام السوري، لم يكن موقفهم  مجرد التماهي مع سُلطة بلا أي مشروع إصلاحي، أو سُلطة فقدت شرعيتها السياسية والأخلاقية وتواجه ثورة شعبية فحسب؛ ولكن تماهي هؤلاء أتى مع  سياسات طائفية وأنظمة لم يعد لديها وسيلة للسيطرة إلا وسيلة القمع والتدمير واسع النطاق، وممارسة أغلب أشكال القتل والتعذيب في وجه الأبرياء من أبناء الشعب السوري، “هؤلاء المثقفون -كما يوضح مصطفي آيت(25)- هم مُقاتلون تحت الطلب؛ وليسوا مجرد مثقفين في خدمة السُلطة”.

ولا يختلف الأمر كثيرا عند الحديث عن هؤلاء المقاتلين بالرأي، والحديث عن المثقفين الصامتين، الموظفين في المؤسسات البحثية والأكاديمية، والخائفين من ثم على ضياع وظائفهم بمجرد إبداء آراء أو مواقف ضد النظام. فتخاذل المثقف عن أداء دوره التاريخي، خيانة لأمانة التفكير الإنساني العقلاني النقدي التي أُوكلت له وتواطؤ عملي مع السُلطة (26)، باعتبار المثقف هو الصف الأول الممانع للاستبداد والتلاعب بالوعى والحقيقة من أجل حماية السُلطة، والناطق باسم حرية الشعوب، والمُمثل لصوت العقل النقدي داخل المجتمعات.

ميدان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى