صفحات الثقافة

المثقف العربي متفرجا.. المثقف العربي مخذولا


علي حسن الفواز

الحديث عن وظائف افتراضية للمثقف العربي بات هاجسا لقراءات عائمة يختلط فيها السسيولوجي مع السياسي واليومي، وربما يختلط فيها ايضا الايديولوجي مع الطائفي مع وظائفية الحاجب التي مارسها الكثير من مثقفينا طوال عقود..

هذا الحديث يستعير من فكرة الشاعر فاروق يوسف شفرتها الاساسية في(تجلية) بعض الادوار التي وجد المثقف نفسه في اتونها مع ما يحدث في يوميات الثورات العربية، التي لم يتحدد العديد من هوياتها بعد! رغم ما تحمله من مشروعية ودوافع اخلاقية ورغبات عمومية للحرية والخلاص بقطع النظر عن الاغطية او مطابخ الزوايا المجاورة.. قد يكون المهم في الامر هو فكرة الخلاص، والبحث عن وسائل براغماتية لفك الاشتباك ما بين المثقف القديم الذي شوهته الاستبدادات الكبرى وحتى الصغرى منها، والسلطة التي تعسكرت وتأدلجت وتعفنت حتى مست رائحتها الجغرافيا واللغة والهوية، وما عادت اي فرصة للخلاص منها الاّ بالثورة عليها، وبقطع النظر عمن يثور، لان خلق نموذج جمالي وطهراني، وفق قياسات جاهزة للثورة يعني ان الثورة لن تحدث ابدا.. واحسب ان كل الثورات الانسانية فيها الكثير من العفوية والعشوائية وحتى الاخطاء.

ما اود ان اقترح قراءته في هذا المنحى هو المثقف بوصفه ظاهرة غير مكرسة في الثورات العربية، واظنه الاكثر فرجة على تاريخ هذه الثورات، لكنه بالمقابل الاكثر احساسا بلذة ما يحدث، ولذة ما يمكن ان يحوشه من امتيازات، وما يمكن ان يجعله بالقرب من سحرية الثوار الجدد الذين سيحتاجون بالضرورة الى مطابخ لغوية والى شعارات والى اسواق والى تنظيرات والى حجج والى شتائم، وغيرها من البضاعة التي تدخل عادة في (صرّة) الثورات.

المثقف العربي يعيش لاول مرة ازمة الانفصام الحقيقي مع تاريخه ومع ذاته، وازمة البحث عن توصيف لمشروعه الثقافي البعيد عن برامج السلطات ومؤسساتها التابعة، والبحث عن وظيفة تتواءم وقيمته ووظيفته العضوية والنقدية، وربما الاعلان عن تطهيره من دور التابع الذي مارسه بارادته، او على قناعة معينة بان العالم من حوله لن يتغير، وان الحكام الاستبداديين يفرخون دائما اولادا يشبهونهم تماما، يرثون السحنات والوظائف والعقائد والميزانيات الوطنية والمعسكرات، مثلما يرثون المؤسسات الصوتية التي تدخل مؤسسة الثقافة في سياقها وتوصيفها، لذا يجب مساكنتهم وشرعنة طاعتهم.. هذا المثقف يجد نفسه لاول مرة امام عملية انزياح كامل للسلطات القديمة، وامام تهديد حقيقي لكل موروث السلطات المجاورة التي ظلت تعيش وهم البقاء تحت يافطات ولاة الامر او الحكم بأمر الله. لكن هذا الخروج الى هذه الحرية العارية والحافية لم يكن سهلا، او مقبولا بيسر وسط تاريخ طويل من المعاطف الثقيلة، لان ما تعشش في الراسب العميق كان كبيرا وضاغطا، وان الاب الفرويدي ظل مهيمنا بحيازته على كل الشهوات وكل نساء السلطة والبيت والفندق والمبغى.

لذا يبدو حديث المثقف مخبرا، او المثقف مخبرا، او المثقف موظفا، او حتى دكتاتورا حديثا مقبولا ومبررا، لكني اجد ان المثقف متفرجا هو الاكثر تعبيرا عما يجري، خاصة ان اغلب الحكومات القديمة وحتى الجديدة في دول الربيع او غيرها لم تطمئن بعد لوظيفة المثقف الجديدة، لان ما تكرس في السياق الوظيفي القديم يحدد نوعية هذا المثقف، بالتابع والمفسر والشارح وصانع الخطب العامة، وان اي خروج عن هذا يعني العصيان والسكن في المحابس او في المنافي..

فرجة المثقف قد تطول، وقد تدفع الكثيرين لتبادل المزيد من التهم والشتائم، والاتهام بالخيانة العظمى، الخيانة التي تعني المروق او التزندق الذي يدفع بصاحبه الى الضلالة، او الخروج عن الجماعة او الملة والامة، وهو ما يدفع الثقافة لان تكون جزءا من رهاب الفقه السياسي او الملتي! وان لا يبرر للمثقف اي مجال للقصدية التي قد يفلسفها اصحاب فقه المقاصد، حتى يبدو المثقف الوارث الكبير لموروث الخوف والطرد والتابعية اكثر تعرضا لمأزق الكشف عن وجوده الكامل امام الاخوانية القديمة، او امام الثوار الجدد الذين قد يشكون بنوايا هذا المثقف مهما كانت مرجعياته – دينية، يسارية، قومية، ليبرالية، طائفية- لذا لا اجد مبررا للبعض من تسويق الاتهامات الجاهزة بالخيانة، او حتى ممارسة الضد باعلان توصيفات مجردة للولاء دونما ترو، وكأن العقل الثقافي وافتراضاته في اقامة الحجج لا يمكنه الخروج عن هذه الثنائية المرعبة الى معاينات يمكن ان تضع المثقف والمؤسسة الثقافية في سياق اكثر حمائية واكثر مقبولية..

ما حدث في العراق وفي ليبيا وفي سورية وحتى في تونس واليمن والبحرين والسعودية ومصر وغيرها يكشف لنا عن اهوال، فالمثقفون العراقيون اتهموا دونما تمحيص بالعمالة للاحتلال الامريكي بنوع من العمومية المقيتة التي تكشف بالمقابل قصور النظرة لما جرى، رغم ان اغلب المثقفين العراقيين في الداخل والخارج كانوا رافضين لهذا الاحتلال ولكل ما تركه من خراب وتوحش على الحياة العراقية، لكن المثقف العراقي هو ذاته المثقف المطرود سابقا، الذي لا يملك اية اداة للمواجهة، اذ ظل يكرر لعبة المطرودية تحت ايقاع اخر من الفرجة وسط عطالة عربية مهيجة، فالكثير من المثقفين العرب بمن فيهم اصحاب التاريخ اليساري والليبرالي والقومي المجيد، كشفوا عن عقد طائفية سيئة لم يستطع العقل الواعي ان يحررها من كل رواسب الرداءة في العقل اللاوعي، فاية مفارقة تلك.. وطبعا هذه المواقف قد تحدث في بلد عربي، ويحاسب المثقف وفق قياسات نكوصية وغير ثقافية اولا، وغير موضوعية ثانيا، اي قياسات لا تقرأ حيثيات ما جرى وما يمكن ان يجري، وطبيعة علاقة المثقف بوصفه كائنا (مخذولا) وهامشيا ازاء رعب المركزيات الوطنية والقومية والدولية التي تحكم وتفرض شروطها على اللعبة تماما..

لذا اجد ان مراجعة هذه الادوار، وحتى الاحكام بوعي مسؤول وارادة فاعلة ومتعالية، يمكن ان يساعدنا جميعا على توضيح ما ينبغي توضيحه، والكشف عن الكثير من التباسات ما جرى، وفضح ما كان يعيشه المثقف من ازمات وعقد، وكذلك كشف ما صنعته المؤسسات السلطوية القديمة من مراكز للاخصاء والتدريب على الخوف والتبعية والاخضاع والتعلّم على حيازة شروط التفقه بتحريم الثقافات اليسارية والخلافية والمارقة عن ولاية الامر، وشرعنة تكفيرها وطرد مريديها والمروجين لها، والحبس باغلظ الاحكام على من يتداول بضاعتها وافكارها..

هذه المكاشفة قد تضعنا عند عتبة التعريف بما كان تحت (الاكمة) وما كان يمارسه فقهاء الثقافة العرابون، وما قد يمارسه اليوم عرابون جدد، يمكن ان يحددوا ايضا شروطا واعلانات للولاء والانتماء والصدق والكذب والخيانة والتكفير والتحريم وغيرها من السمات التي قد تصنع لها وظائف وموظفين وحتى مؤسسات..

عتمة المثقف

تحت ايقاع ما يحدث، وما قد يهدد بالحدوث يحلو لبعض المثقفين ان يوغلوا في ممارسة دور الغلو الثقافي في مواقفهم وفي طروحاتهم، وكأنهم يصرون على استعارة ادوات فقه الغلو ليبرروا مواقف معينة، او احكاما بعينها، او ليدافعوا عن واجهات معينة لم تصلها الثورات بعد. هذه الممارسة ما تتجاوز توصيف الثقافي الى توصيف اخر، اذ تعكس هشاشة ما يمكن ان نسميه (بعضوية المثقف) ازاء وقائع ومواقف ويوميات تحتاج كثيرا من الغرامشية! واحسب ان تاريخ تابعية هذا النمط من المثقفين هو من يعوّق التخلص من الالتباس، وفي ضرورة تحديد صورة اخرى للحكم على الظواهر التي ظل الثقافي فيها عنصرا شارحا ومبررا وانتقائيا وليس نقديا.. فكيف يبرر (الهؤلاء) سلوكه وموقفهم في التعاطي مع قضايا تفترض سعة في المواجهة وفي اعادة انتاج وتوصيف فاعلية القراءة والحكمة وبعد النظر، واحكام العقل، وليس للانخراط القهري في ما يمليه الغلو من شطط ومجازفة، ومن مواقف قد تدفع للتراجع بعد حين..

في اوساطنا الثقافية العربية، وفي اماكن معينة من هذه الاوساط باتت هذه المواقف، ولاسماء معينة مثارا دافعا للسخرية ولسوء الطوية في قراءة ما يتمظهر على سطوح الاشياء وفي بواطنها، والتي تفترض التوقف عند المختلف من النصوص والاحكام ومعاينة هذا المختلف برؤية اعمق وبمهنية مسؤولة، او حتى افتراض ان وعي الحداثة بوصفها تاريخا يطأنا ويقوم على الجدل الحي في حيثيات هذا المختلف والتعاطي، امور ومواقف ينبغي ان لا نتحسس من التجاذب في الحديث حولها احياء وتكريسا لاخلاقية هذا الجدل وقوته في الكشف والتنوير، وليس الى فرض المزيد من الاحكام القاطعة التي تستبطن ما تستبطن من مواقف غريبة، والتي تعيدنا ايضا الى ذات الجغرافيا القديمة التي تكرس العتمة عن احكام ولاية الامر في الفكر والمعرفة والموقف وفي النظر الى الحرية والهوية والجسد.

ولعل ما بات يتمظهر من جدل صاخب- في ظل معطى الثورات- حول علاقة السياسي بالثقافي او استنباط الحكم من السياسي بمرجعياته المتعددة والشائهة الى الثقافي او بالعكس، تحول الى نوع من الدائرة المغلقة التي تتضخم حول ذاتها، والذي لا يتيح لاية فرصة لاقامة الحجة او اثارة الاسئلة، لانها محكومة بحكم جاهز وموقف لا يتسع لغيره، والتي ستثير حول المثقف الكثير من الشكوك والتهم، ومنها تهمة المروق والخيانة والتكفير وغيرها.. وطبعا هذه الاحكام تتسع دائما باتجاه اخر لتمسّ الظواهر الخلافية مثلما تمسّ الشخوص، حتى بات الواقع الثقافي العربي امام ثنائيات مرعبة، ثنائيات تكفّر او تشرعن ما حولها. بقطع النظر ان كانت في هذا الطرف او ذاك اسماء مهمة لكنها تختلف في مواقفها..

تحت هذا التوصيف القاسي انفرط الجمع الثقافي الى فريقين، والى خندقين افتراضيين، احدهما عند ما يسميه بالحق والوطنية والقومية الخالصة، او الاخر عند الباطل بكل ما يعنيه من اسقاط وتهويم، رغم ان كلا الفريقين يعيشان الفرجة، وان السلطات التي مازالت تعيش قلق الثورة او تسنم سدتها لم تستدع احدا من وجوه الثقافة ليكون في الواجهة، وفي تبرير ما تحدث عنه ديغول حينما استوزر اندريه مالرو ذات حكومة.

مزية هذا الحكم (المستريح) تأخذ معها زوادة ثقافية عمومية، تعكس قلق احكامنا التي يسوقها الان الكثير من مثقفينا، مثلما تكشف في اعماقها عن خلو هذه الزوادة من القيمة وحتى من سيماء الثقافة ذاتها، اذ انها تعيد انتاج ظاهرة التموضع في الخندق والخندق المقابل، اللذين يصلحان للايقاع فيهما اي سياسي مؤدلج، او دوغمائي تسكنه التعمية من رأسه الى قدميه..

عتمة المثقف هي التسمية الاقرب الى توصيف هذا النموذج، الذي قد يمارس هذا الغلو والشطط وحتى التبعية من دون عقدة ضمير! اذ ستكون هذه العتمة تعبيرا عن نكوص ثقافي، وعن هشاشة في قراءة ما يجري حوله، وبالتالي فانه سيقودنا للحديث عن جسامة الازمة ما بين السياسي والثقافي، وهل ان الثقافي يملك بعد النظر والرؤية العميقة للكشف عن المستور السياسي؟ وهل لديه القدرة للتخلص من عقدة التابعية التي كثيرا ما اتهم بها، والتي حولت بعض المثقفين الى ابواق واصوات عالية؟

احسب ان الاستقواء بهذه العتمة، والتوهم بسذاجة الاحكام التي تطلق هنا وهناك سيكون لها بالغ الاثر على واقعنا الثقافي الذي فقد حصونه القديمة، وبات مفتوحا لصناعة اشكال اكثر غرابة لحصون اخرى يقودها رأس المال السياسي او رأس المال الخنادق او ربما تقود بعضها ازمة العتمة التي تسكن في رواسب البعض من المثقفين.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى