صفحات الرأي

المثقف العربي متهماً من جديد/ كرم الحلو

 

 

أظهر المآل البائس للانتفاضات العربية عمق الفصام والقطيعة بين خطاب المثقفين العرب ووعي الجماهير على نحو يعيد الى الأذهان أزمة العلاقة بين النخبة والمجتمع في العالم العربي. فالدور الهامشي أو الباهت الذي اضطلع به المثقفون في الحراك الاجتماعي العربي منذ اندلاع أولى الانتفاضات في تونس يحمل على إعادة التفكير في مفهوم المثقف وأدائه في معمعة الأحداث، من خلال رؤية نقدية للدور الذي أسند للثقافة في الفكر العربي المعاصر، وبخاصة منذ الثلث الأخير من القرن الماضي، مع عبدالله العروي ومحمد عابد الجابري ومحمد أركون وهاشم صالح وأدونيس وسواهم، الذين ذهبوا الى أن انجاز «ثورة ثقافية» تطيح الأنماط الفكرية الجامدة والفائتة، هو المقدمة التي لا بد منها لإنجاز المشروع التحديثي العربي، إذ إن «صلاح حالنا مرتبط بصلاح حال مثقفين» بتعبير العروي في «الايديولوجيا العربية المعاصرة» (1970).

كان المثقفون العرب أصيبوا بالارتباك إزاء إخفاقهم في أداء الدور الذي راهنوا على الالتزام به في المرحلة القومية والليبرالية، فأحسوا بالإحباط والهزيمة وأمعنوا في جلد الذات. لقد راهنوا على الوحدة القومية العربية وكانت النتيجة الارتكاس الى ما قبل الدولة القطرية، وتفتت المجتمعات الى عصبويتها ما قبل الوطنية. وراهنوا على العلمانية والعقلانية والمجتمعات المدنية وكانت الحصيلة انفجار الأصولية واستشراء الخرافة والأساطير وتفاقم التسلط والاستبداد وانتهاك حقوق الانسان. وراهنوا على الحداثة وكان المآل انبعاث روح القرون الوسطى من جديد وغلبة العقل الريفي، حتى في المجتمعات المدينية.

كان أدونيس انبرى إزاء هكذا مآلات الى اتهام الفكر العربي المعاصر بالجبن والجاهلية، وذهب ياسين الحافظ الى أن الهزيمة العربية ما هي إلا تعبير عن ايديولوجيا عربية مهزومة، فيما انحدر آخرون من جلد المثقف الى جلد المجتمع حتى لم يبقَ أمامهم سوى نعي الأمة العربية ورثائها ودعوة الانسان العربي الى اليأس والقنوط. المثقف القومي عاد بعد عمر مديد من الدعوة القومية والوحدوية الى الشك بمشروعية القومية العربية إزاء الهويات القطرية، والمثقف الاشتراكي أصبح يرى في مقولاته التاريخية في العدل الطبقي والمجتمع الاشتراكي عبئاً ايديولوجياً لا يدري كيف يتنصل منه. وبدا المثقف العلماني بعد أكثر من قرن ونصف القرن على انطلاقة التصور العلماني يراوح في موقف اعتذاري دفاعي يكرر صيغه القديمة في فصل الدين عن الدولة. كما انتهى المثقف الليبرالي الى توليفات تبريرية في الديموقراطية لا تتفق البتة مع جذرية القيم التي تميزها، والمركزية التي خصّت بها الانسان في الوجود السياسي والاجتماعي.

في هذا الإطار التاريخي المأزوم كتب عبدالإله بلقزيز «نهاية الداعية: الممكن والممتنع في أدوار المثقفين» وعلي حرب «أوهام النخبة أو نقد المثقف» وعلي أومليل «السلطة الثقافية والسلطة السياسية» ومحمد عابد الجابري «المثقفون في الحضارة العربية». رأى بلقزيز أن من يدقق النظر في انتاج المثقفين النظري يلحظ وجود بعض الظواهر التي يمكن عدها ضمن الأمراض والاضطرابات النفسية من نرجسية وسادية ومازوشية، ما طاول رأسمالهم المعرفي من طرف السلطان والجمهور على السواء. فلم يعد مطلوباً من المثقف قول الحقيقة، ولا أن يملك خلاص البشرية والشعب والأمة والطبقة، بل أن يكون مثقفاً وحسب يجتهد في تفسير العالم لتقديم معرفة أكثر رصانة وشمولاً. لقد آن للداعية – يقول بلقزيز – أن يصمت كي يفسح فرصة للمثقف الباحث، فلم تعد المرحلة تتحمل ثرثرته ومهاراته الكلامية «فالدعاة أدعياء بلا زيادة أو نقصان». ولم يقف نقد المثقف عند هذا الحد، مما حدا ببعض الدراسات الراهنة الى التشكيك بدور المثقفين وقصورهم في إخراج المجتمع من أزمته، وفشلهم في تكوين رؤية حضارية شاملة، وبعدهم عن معطيات الحياة المباشرة. وفيما ذهب بعض الكتاب الى أن المثقفين العرب كانوا قليلي الجدوى في مجريات الأحداث، لم يتردد بعضهم الآخر في اتهام المثقفين بإفساد الربيع العربي لانعدام جرأتهم، وفشلهم في ارساء سياقات فكرية تحقق الأمن الفكري والاجتماعي، وإحجامهم عن صوغ خطاب سياسي يتعامل مباشرة مع الواقع، وتركهم الساحة للأصولية.

هذه الاتهامات والانتقادات الجذرية التي أناطت أزمة العالم العربي بأزمة مثقفيه وعجزهم وفشلهم في الإجابة عن التحديات التي تواجهه، تتطلّب في رأينا رؤية نقدية للطرح الثقافي وتناقض أطروحاته وفرضياته مع واقع المجتمعات العربية ودور المثقفين العرب، رؤية تقوم على:

أ – المراجعة الجذرية لكل أطروحات النقد الثقافي ومقولاته السائدة التي زعمت دوراً ريادياً وقيادياً للمثقف، ومسؤوليته دون سواه عن التقدم والتغيير، اذ هو وفقاً لهذه الأطروحات، خط الدفاع الأمامي عن الديموقراطية وحقوق الانسان، وهو المعوّل عليه في اجتماع العرب والتئامهم أمة واحدة، وهو طليعة النضال من أجل العدالة الطبقية والمجتمع الاشتراكي. كما هو كذلك المبشر بالعلمانية ودولة المساواة الليبرالية. لكن فات هذا الطرح أن المجتمع لا يتقدم فقط بمثقفيه، بل من خلال حراك تاريخي شامل ينهض به المجتمع بكامل قواه الحية، حراك تشكل الثقافة وجهاً من وجوهه، بل نتيجة من نتائجه. من هذا المنظور يجب أن ننظر الى العامل الثقافي في نهضة الغرب، فهل قُدِّر للمثقف الغربي أداء دوره الأساسي والمميز في تغيير العالم، لولا النهضة الاقتصادية والعلمية الموازية وترافقها مع إلغاء الأمية، والطباعة، وانتشار المطبوعات الثقافية.

ب – هذه العوامل التي كانت أساس نهضة الغرب لا تزال غائبة أو باهتة في مجتمعاتنا التي تعاني من الأمية وشح المطبوعات الثقافية وضآلة انتشارها وقرائها، فكيف يكون للمثقف دور قيادي فيما هو محروم من وسائط تواصله مع جماهير مشغولة بتحصيل قوتها اليومي بعيداً من كل تلك القضايا التي تهمه وتؤرقه؟

ج – من الظلم والاجحاف اتهام المثقف الداعية بـ «الثرثرة الببغاوية، واعتبار الدعاة أدعياء بلا زيادة ولا نقصان» وفق عبدالإله بلقزيز. فهؤلاء حملوا لواء الحرية والتقدم والعدل الطبقي، ونادوا بالدولة الدستورية وبالمساواة المواطنية وبالوحدة القومية، ودفعوا ثمن ذلك، منذ القرن التاسع عشر الى الآن، اغتيالاً وتنكيلاً وتشريداً، وقد أضاؤوا أكثر من شمعة في ظلمة التخلف العربي على رغم رومانسية أفكارهم وأحلامهم. واذا كان «الداعية» العربي يتقدم على الباحث، فليس إلا لأن هذا مقصّر في أدائه، كما تؤكد الاحصاءات، والأجدى ان ينهض الباحث بمهماته كي يستريح الداعية وليس العكس.

* كاتب لبناني

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى