رستم محمودصفحات الناس

المجانين والثورة في سوريا/ رستم محمود

يحتل الاشتياق للمجانين المحليين هامشاً واسعاً من الذاكرة المستحضرة راهناً بكل آلامها عند المهجرين واللاجئين في التغريبة السورية الراهنة . فقد بقي المجانين جزءاً حاضراً وحيوياً من يوميات حياة السوريين اليومية على الدوام، وكان مستوى ظهورهم في الشارع السوري، يفوق ظهورهم العلني في البيئات الاجتماعية للكثير من الدول المحيطة بسوريا . فلهامش الحياة الزراعية واسعة الانتشار، ولتوافر طبائع الحياة التقليدية في اغلب المناطق السورية، ولنمط من الاقتصاد القادر على توفير الحد الأدنى من المعيشة للقاعدة الشعبية الأوسع، فأن ظهورا سلسا للمجانين في حياة السوريين العامة بقي ظاهرة مجتمعية حيوية. فالمجتمع السوري لم تصبه ما أصاب الكثير المجتمعات بعميلة التحديث والتنمية الاجتماعية وتغير النمط الاقتصادي؛ حيث تحولت حياة المجانين معها إلى أحد شكلين غير حيويين، فأما باتوا أشباه أسرى في المؤسسة العائلية الأضيق، أو مسندين لمستشفيات علاج الأمراض العقلية والنفسية، تلك التي يبقى حيزها الاحتجازي يفوق نظيرها العلاجي بما لا يقارن .

في كل المدن والبلدات السورية كان ثمة مجانين مشهورين، بنكاتهم ونزعاتهم وسلوكياتهم وظرافاتهم، كانوا جزءاً من يوميات الأحياء والأسواق وفي كل أماكن تجمع العامة كان العوام يلبون متطلبات المجانين، وقد كان المجانين السوريين نادرا ما يتعرضون للتعنيف، بسبب أن شبكة حمائية عائلية وعرفية صلبة كانت تظلل ظهورهم في الحياة العامة .

هزت الثورة من استقرار حياة المجانين السوريين، بسبب ما أحدثته من صدمات ضربت التقادم الهادئ في المسيرة المجتمعية السورية . فالإناس أنفسهم الذين كانوا يمدون هؤلاء المجانين بحاجتهم البسيطة من الطعام والألبسة وأماكن المعيشة، باتوا هم أنفسهم بأشد الحاجة والعوز لتلك التي كانت تفيض عنهم ببساطة في الأزمنة التي سبقت الثورة . فإذا كان السوريون يلجأون إلى مدخراتهم لتيسير ظروف حياتهم الجديدة بزمن الحرب، وإذا كانوا يعيدون ترتيب الكثير من سلم أولويات مصاريفهم، لتناسب الأحوال الجديدة التي يمرون بها، فإن مجانين البلاد لا يملكون أية قدرة لفعل أي من ذلك ليتكيفوا مع الشيئين لتناسب الظروف الجديدة . منذ بدء دورة العنف المفتوح واستمرار حالات الحصار المتعددة، دفع مجانين البلاد أثماناً باهظة لتلك التحولات، ومات الكثير منهم جوعا وبرداً وتشردا في البراري .

الأمر الآخر الذي أثر بعمق على حياتهم، هو خراب دورة الحياة اليومية العادية وهدوؤها . فالنمط التقليدي لحياة المجانين في المدن والبلدات السورية، كان يبدأ مع الفجر، فكانوا يسعون بالقرب من المساجد للاحتكاك والتواصل مع الناس، ثم يهيمون للمرور على الأفران الشعبية والمطاعم، حيث إعطاء الخبز الساخن للمجنون، من قبل أصحاب الأفران أو من قبل الذي يشترونه، كان تقليدا عميقا في حياة السوريين، كما أن أصحاب المطاعم كانوا يمنحونهم ما بقي من الأطعمة من الليلة الفائتة، بعد ترتيبها بشكل ما . عند الظهيرة، كان المجانين ينتشرون في أسواق المدن والبلدات، والمجانين الأصغر سنا، كانوا يجلسون في الظلال القريبة من المدارس والحدائق والملاعب، ليخالطوا أطفال أحيائهم، ويشاركونهم الألعاب في أحيان كثيرة، حتى لو كان دوره أن يجلب الكرة حينما تندفع بعيدا في لعبة الأطفال، فالمشاركة بأي شيء، كان يدخل فرحة بالغة إلى قلوبهم .

في الاسواق، كانت المقاهي أفضل أماكن المجانين، وكان لكل مجنون مقهاه المعين، ولا يسعى مجنون إلى الاستحواذ على مقهى كان مخصصا لأحد نظرائه، وفي الأحيان التي كانت المقاهي تستقبل أكثر من مجنون في الآن عينه، كانت أحاديثهم وسلوكياتهم المتبادلة، أحد أهم أشكال التسلية التي تسر كل الحاضرين. عدا المقاهي، فإن المجانين كانوا يدخلون جميع أماكن العمل، فدورة العمل الاقتصادي كانت هادئة غالبا، ولا يعكرها خفة حضور هؤلاء المجانين.

ليلاً كان المجانين هم الضيوف الدائمين في الأعراس والولائم والشوارع الخلاء .

كل تلك الدورة الطبيعية لحياتهم تهدمت مع بدء الثورة، الأفران لم تعد تنتج ما يكفي من الخبز، العامة باتوا يدفعون دمهم للحصول على قدر يسير منه، ولم يعد في المطاعم ما يفيض من الأطعمة . قلما بات الأطفال يخرجون للعب في الفضاء المفتوح . المقاهي والأعراس وجميع أشكال التجمع الكثيف، باتت أكثر حذرا وأقل انتظاما بما لا يقارن بما كانت عليه في الأزمنة التي سبقت الثورة، أما اللجوء للأماكن الليلية الدافئة، فبات أكثر خطرا ومجازفة، فالليل السوري فقد طمأنينته. ضمن هذا السياق، فقد المجانين كل المعاني التي كانت تظلل حياتهم .ولو هجر مجانين البلاد مع ذويهم والمحيطين بهم، فليس لهم أن يعيدوا ترتيب حياتهم السلاسة نفسها بعدما صارت الحياة بالغة الصعوبة حتى على غير المجانين . فمعرفة الأصحاب والأصدقاء والمقربين، وكذلك الأماكن والدروب وآلية التفاعل، يتحصل على المجنون معرفتها وإدراكها بشكل معقول لمرة واحدة في حياته، إذ بصعوبة ومنذ الطفولة والنشأة الأولى، وبأشكال بالغة التعقيد من الوعي الباطن، يتمكن واحدهم من إدراك هذه الشبكة الحياتية المبسطة؛ وثمة شبه استحالة على مقدرته أن يعيد ترتيب تلك الروابط الحياتية المبسطة . فمجرد الانتقال الاختياري، يكون بمثابة الموت الحياتي للمجنون، فكيف بحالات النزوح والتشرد والضياع، كالتي طالت الشعب السوري بقسوة.

كانت الثورة السورية منذ بدايتها سعيا حميدا لإعادة الاعتبار للقاعدة الأوسع من المجتمع السوري، ليكسب مزيدا من الحقوق والحضور في حياته، ولينعم بمزيد من الطمأنينة والرخاء . لقد دفعت الشرائح المجتمعية “الأضعف” أثماناً باهظة جراء عنف النظام المحض، وفتحه لمعركة مستعرة مع عموم المجتمع السوري. الأطفال والنساء والشيوخ والمجانين كانوا في مقدمة تلك الشرائح.

منذ فترة قصيرة شاهدت صورة لزكي، أجمل مجانين مدينة القامشلي وأكثرهم حضورا وشهرة في عموم المدينة، لقد غزا الشيب شعره وأضعف الجوع وجنتيه، أما الخشية فقد أغرقت عينيه في مقلتيه .

لقد أتعبت الأحوال زكي، الذي كنا نظنه لا يعرف غير البسمات، وأتعبتنا.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى