صفحات الناس

“المجاهد” التونسي في سورية متعلم وغير فقير… ابن النظام السابق وابن انهياره/ حازم الأمين

 

 

-1-

ما زالت تونس ترسل «مجاهدين» إلى سورية، وإن على نحو أكثر خفراً من قبل، فالوعود التي أطلقتها الحكومة التونسية لجهة السعي إلى الحد من هذه الظاهرة، أثمرت تحولاً في شكل عملها، وأبطأت اندفاعتها، لكنها لم توقفها، وشهدت ضواحي المدن التونسية في الأشهر القليلة الفائتة، ومع تدفق «داعش» على مدن المشرق، حركة التحاق واسعة بهذه الجماعة.

وبما أنه لا عائدين بعد من «الجهاد»، إلا في ما ندر، فإن السنوات المتلاحقة منذ بدء الثورة السورية، راحت تراكم «المجاهدين»، بحيث صار يمكن اليوم أن نتحدث عن نحو 5 آلاف تونسي «يُجاهدون» في سورية وفي العراق، السواد الأعظم منهم يقاتل في صفوف «داعش»، لكن أيضاً في صفوف «جبهة النصرة» و»أحرار الشام». ويبدو أن عدد القتلى من بينهم قد يصل إلى نحو ألفين.

هذه الأرقام تتحدث عنها جمعيات مدنية تونسية، وتعترف السلطات بأرقام قريبة منها، لكن الأهم من هذه التقديرات، هو أنك في تونس من النادر أن تصادف شخص لا يعرف عن قريب أو جار أو زميل أو صديق «هاجر» إلى سورية. وبفعل مرور الوقت أيضاً اتضح الكثير من تفاصيل هذه الظاهرة، وصار الكلام عنها أكثر تماسكاً. وكثرة العارفين بأشخاص ذهبوا لـ «الجهاد» في سورية وفي العراق وفي ليبيا تُشعرك أن الرقم أكثر من خمسة آلاف، لا سيما إذا اقترن ذلك مع حقيقة أنه من النادر أيضاً أن تكون منطقة أو مدينة أو ضاحية مستثناة من توجه شبان منها إلى «مشرق الجهاد».

قد تصادف أستاذاً في كلية الفنون فيقول لك إن شقيق تلميذته قتل في سورية، وصحافياً يتحدث عن ابن عم ناطور المبنى الذي يقيم فيه، وسيدة أعمال هاجر ابنا خادمة منزلها. الجميع هنا في تونس له قصة مع «الجهاد» في سورية، حتى «أعوان الأمن» وهو الاسم الذي يُطلق على العاملين في الأجهزة الأمنية، للكثيرين منهم أشقاء وأقارب توجهوا للقتال في سورية في صفوف الجماعات التكفيرية.

والفعل التراكمي للظاهرة سمح برصد مؤشرات جديدة حولها، لم يسبق أن شهدتها ظاهرة «الخروج للجهاد» في مراحلها السابقة، سواء في تونس أم في غيرها من بلاد «المجاهدين» الواسعة. المجاهدون الجدد ليسوا فقراء، أي من فئات متوسطة ومتوسطة دنيا، وهم أبناء نظام تعليم حديث وفاسد، وهم غادروا في أثناء انقلاب كبير أصاب هذا النظام، وهو الثورة ودولة ما بعد الثورة. ودولة ما بعد الثورة التي جرى الخروج في ظلها إنما مثّل هذا الخروج الكبير منها ما يشبه طرداً ضمنياً لفئات بقيت علاقتها بالثورة وما بعدها غير متبلورة.

نحو 60 في المئة منهم غادروا لـ «الجهاد» قبل تخرجهم من الجامعة بقليل، ولم يكونوا من المتعثرين دراسياً، لا بل إن بعضهم من المتفوقين. معظمهم من المتدينين حديثاً، وكثيرون منهم سبق تدينهم حياة صاخبة تخللها شرب خمر ومخدرات، وهم إذ أصبحوا متدينين قبل أشهر قليلة من مغادرتهم تونس لـ «الجهاد»، راحوا يكثفون من تمسكهم بطقوس التدين ويُسرعون من انتقالهم فيها من طور إلى طور إلى أن كان «الجهاد» ذروتها. حصل ذلك في أشهر قليلة، بما يوحي بأن انهياراً كاملاً لعالم كانوا يعيشون فيه قبل تدينهم قد تم في هذه الفترة القصيرة.

فراغ في القيم

ليسوا فقراء معدمين على نحو ما رحنا نعتقد عندما بدأت الظاهرة بالتشكل. معظمهم من أبناء المناطق الساحلية في تونس، وهي المناطق المزدهرة اقتصادياً، والمناطق التي كان نظام بن علي يعتبرها ركيزة حكمه، وقبله نظام بورقيبة، في حين أن المناطق الداخلية التي تعتبر اليوم القاعدة التي ترتكز عليها حركة النهضة الإسلامية كانت أقل مساهمة في الظاهرة. وهذا مؤشر أيضاً إلى أن ظاهرة «الجهاد في سورية» تغذت من انهيار كامل لمنظومة اقتصادية واجتماعية وتعليمية، ومن فراغ قيمي خلفه فناء النظام السابق، من دون أن يعني هذا على الإطلاق علاقة مباشرة بين «الجهاد» وبين قيم النظام السابق، إنما علاقة بين «الجهاد» وبين انهيار النظام. فـ «المجاهدون» خرجوا بالدرجة الأولى من معاقل هذا النظام.

هم أبناء النظام التعليمي الذي ورثــــه نظام بن علي عن نظام بورقيبة، وهـــم أيضاً أبناء موظفين حكوميين صغار أو موظفي شركات خاصة كانـــت ناشطة حول وظائف أرساها هذا النظام. لم يكونوا مؤمنين به، إنما كانوا يعيشون في ظله من دون أضـــرار كبيرة. وهم ليسوا تقليدياً أبناء عائلات نهضوية (نسبة إلى حركة النهضة)، بعضهم ينتمون إلى عائلات تجمعية (حزب بن علي)، وبعضهم من عائلات لم يسبق أن نشطت سياسياً. وهذا لا يعني على الإطلاق أن «النهضة» بريئة من ظاهرة توجههم إلى «الجهاد»، لا بل إن ثمة مؤشرات كثيرة إلى تورط الحركة الإسلامية التونسية في تسهيل خروجهم لا سيما خلال وجودها في السلطة بين العامين 2011 و2014.

هذه الانطباعات السريعة، هي حصيلة قراءة بيانات شخصية لـ 150 «مجاهداً» تونسياً توجهوا إلى سورية والعراق قامت بتجميعها «جمعية إنقاذ التونسيين العالقين في الخارج»، والجمعية تضم عدداً من أهالي «المجاهدين» في سورية. ويقول أمين السوسي، وهو ضابط متقاعد في الجيش التونسي غادر ابنه محمد إلى سورية وقتل هناك: «كان ابني متفوقاً في الجامعة، وغادر إلى سورية قبل تخرجه بنحو شهر، وكان شاباً كتوماً من قبل تدينه وانغماسه، وكانت علاقته بأمه قوية ومتينة». وفي كلام محمد عن نجله ثلاثة مؤشرات تتردد كثيراً في كلام أفراد عائلات «المجاهدين» في سورية عن أبنائهم. تفوق دراسي لم يُتوج بتخرج من الجامعة، وعلاقة متينة مع الأم توحي بأن هناك شبه قطيعة مع الأب، أو كأنها رد على انعدامها مع الأب، أما العنصر الثالث وهو في حالة محمد السوسي الكتمان والانطواء، فيتفاوت تبعاً للحالات بين ما هو عليه محمد وبين آخرين جاءوا إلى الجهاد من حياة صاخبة وراديكالية في خروجها عن قيم العائلة والحي، ناهيك عن آخرين منفصلين تماماً عن شعائر العائلات ومنغمسين في تفوقهم الدراسي التقني غالباً.

حياة باذخة

العم حسن، وهو اسم مستعار لرجل تونسي طلب عدم ذكر اسمه لأن ابنه في السجن، قال إن ابنه توجه إلى سورية في آذار (مارس) من العام 2013 وبقي هناك نحو شهرين اتصل في نهايتهما بوالده وطلب منه شراء تذكرة عودة عبر مطار هتاي التركي، وعاد حيث تم توقيفه في المطار وسجن مدة 40 يوماً وأفرج عنه. لكن الشاب عاد وتحمس ما أن بدأت «داعش» تحقّق تقدماً في العراق وفي سورية، فعاود المحاولة، إلا أن السلطات التونسية أوقفته على الحدود الليبية مع ثلاثة من أصدقائه كانوا متوجهين إلى ليبيا ومنها إلى تركيا ثم سورية.

يروي العم حسن عن ابنه عبد الرحمن عندما عاد من سورية أنه غادرها بعد أن تبددت قناعته بـ «الجهاد». روى لأبيه حكايات عن أمراء في جبهة النصرة انتقلوا إلى «داعش» تشير إلى حياة باذخة يعيشها هؤلاء، في وقت كان أصدقاء ابنه السلفيين قد جمعوا ثمن بطاقات السفر من بعضهم وتوجهوا إلى سورية. عاد الشاب غير مقتنع بـ «الجهاد» ثم عاد وبنى قناعته مجدداً في تونس. هو ككثيرين غيره ممن كانوا على وشك التخرج من الجامعة حيث كان يدرس علوم الكومبيوتر في الجامعة التونسية في العاصمة، وكان متفوقاً في دراسته. ويقول الوالد إن مسجداً وكومبيوتراً كانا وراء تجنيد ابنه في المرتين اللتين جنّد بهما.

يُميز والد رشيد، الشاب التونسي الذي غادر منذ نحو سنتين إلى سورية وفقدت العائلة الاتصال به، بين السلفيين المسالمين الذين كانوا موجودين في تونس منذ أيام بن علي وبين السلفية التي قدمت مع «النهضة» على ما يقول. يشير إلى جارهم في منطقة دوار هيشر ويقول إنه مسالم ولا يملك كومبيوتر. وهذه إشارة إلى قناعة الأهل بأن الكومبيوتر هو ما عبث بعقول أبنائهم. ومعادلة مسجد – كومبيوتر – نهضة هي ما يبدو ثابتاً في قناعات الأهل على رغم أن أبناءهم لم يكونوا يوماً أعضاء في حركة النهضة.

الهجرة الجديدة

في الأشهر الستة الأخيرة عادت ظاهرة المغادرة إلى سورية تنشط. من دوار هيشر غادرت دفعات جديدة، وقبل أيام وصلت أخبار عن مقتل بعضهم. نضال سالمي هو أحد هؤلاء القتلى، وصل الخبر إلى أهله في دوار هيشر عبر اتصال من سورية. عمره 24 سنة، ولم يكن قد مضى على وصوله إلى سورية سوى أشهر قليلة، وهو ابن خال والدة رشيد.

لا تبدو الإجراءات التي اتخذتها الحكومة التونسية فعالة لجهة الحد من الظاهرة، بمقدار ما كانت مساعي لعرقلتها. فإذن الأهل لسفر الشباب إلى تركيا، وهو الشرط الذي وضعته الحكومة لمنع التوجه إلى سورية، تم الالتفاف عليه عبر التوجه إلى ليبيا أولاً ومن بعدها إلى تركيا، وعندما تم التضييق على المغادرين إلى ليبيا اعتمدت المغرب التي لا يحتاج التونسي للتوجه إليها إلى تأشيرة، ومن هناك إلى تركيا.

حاولوا وفشلوا

والحال أن الإجراءات غير الصارمة التي تتّخذها الحكومة التونسية تجعل من التساؤلات التي يطرحها أهل الشبان المغادرين جديرة بالتوقف عندها. فالعدد الكبير للمغادرين ما كان يمكن أن يتراكم فيما لو كانت الإجراءات جديّة، ووزير الداخلية لطفي بن جدو الذي احتفظ بمنصبه منذ حكومة النهضة السابقة أثار في أكثر من مناسبة ضجيجاً ملتبساً حول الوظيفة التي تؤديها وزارته في هذا الملف. ففي الوقت الذي قال فيه إنه تمّ منع نحو أكثر من تسعة آلاف شاب تونسي من التوجه إلى سورية، تكشف الأشهر الأخيرة فقط أنها شهدت خروج أكثر من 600 «مجاهد». علماً أن الوزير نفسه هو من فجّر قنبلة «نكاح الجهاد» عندما صرّح في السنة الفائتة أن أكثر من 100 شابة تونسية عدنَ من سورية بعد أن مارسن «جهاد النكاح»، لتكشف لاحقاً وزيرة شؤون المرأة في الحكومة نفسها لـ «الحياة» أن هذا الكلام لا أثر له من الصحة وأن وزارتها لم تتمكن من الوصول إلى واحدة من هؤلاء اللواتي زعم الوزير أنهن عدنَ. علماً أن ذلك فُسر كمحاولة لإلقاء المزيد من الشكوك حول الظاهرة، وتفخيخها بعناصر غير واقعية تجعل من أي محاولة لتفسيرها أمراً غير منطقي وغير قابل للتصديق.

ليست الأحياء ولا الجامعات ولا المساجد وحدها من يتولى نقل الشبان التونسيين من مستويات وأنماط عيشهم السابقة على تدينهم وتسلّفهم إلى نمط جديد من التديّن، إنمــا الكومبـــيوتر أيضاً. هذا ما لا يكفّ الأهل عن ترديده أمام من يسألهم. هم متوحّدون مع أجهزتهم، يسهرون في الليل وينامون في النهار، على ما قالت والدة رشيد. وهم كفّوا عن مشاركة والداتهم الحكايات حول حياتهم من مدة ليست طويلة. أشهر قليلة فقط ويصبحون «مجاهدين» غرباء في عائلاتهم. ويقول أحمد الذي تمكــّن من الدخول على كومبيوتر شقيقــــه بعد مغادرة الأخير إلى سورية أن طبـــخة «الجهاد» تنضج في عقل الشاب عندما يبدأ بالاعتراف لشيخه بذنــــوبه السابقة، وهي ذنوب تدور في الغالــب حول مواعدة فتاة أو شرب الخمر أو ارتياد حانة. وعندها يبدأ الشيخ بتضخيم الذنوب وجعلها معصـــيات كبرى، عندها يُصبح على الشاب أن يعمل المزيد ليكفّر عنها، وذروة التكفير عن الذنوب هو «الجهاد في سورية». هذا ما اكتشفه أحمد على كومبيوتر شقيقه رشيد.

لا تحتمل الجامعات هذه العلاقة الثنائية بين شيخ ومريد، والمساجد مفتوحة للمراقبة الأمنية، لا سيما بعد الضغوط الدوليّة التي تعرضتْ لها تونس بعد أن حلّت أولى في الدول المصدّرة للمجاهدين. العلاقة الثنائية المباشرة بين الشيخ والشبان هي ما يجدي أكثر على صعيد التجنيد. علماً أن الشيخ تونسي وقد توصّل أحمد إلى معرفته، واكتشف أن له ابناً من عمر شقيقه رشيد لم يرسله إلى «الجهاد».

-2-

«المجاهدون» التونسيون في سورية: خفة الهجرة في ظل التأشيرة التركية وتحت أعين «النهضة»

عندما ذهب الضابط المتقاعد في الجيش التونسي أمين السوسي الذي كان «هاجر» ابنه محمد لـ «الجهاد» في سورية، إلى مكتب زعيم حركة «النهضة» الإسلامية راشد الغنوشي برفقة عائلة أخرى غادر ابنها أيضاً، قال له الغنوشي: «أن يموت ابنك في سورية أفضل من أن يموت هنا. سيكون شهيداً وسيشفع لكم يوم القيامة. قتال بشار الأسد أفضل من البقاء هنا».

يؤكد السوسي أن ما قاله الغنوشي للعائلتين اللتين قصدتاه للمساعدة في استعادة ابنيهما، يفتح مجدداً قضية مسؤولية حركة «النهضة» الإسلامية عن تضخم هذه الظاهرة في ظل نفوذها وفي ظل حكومتيها في تونس. فعلى رغم أن «النهضة» لم تشارك في هذه الظاهرة، وبقيت قواعدها بمنأى عن «الهجرة للجهاد»، إلا أن حلقة «إخوانية» متكاملة اشتغلت الظاهرة في ظلها. جرى ذلك بين تونس وليبيا وتركيا. وأذرع «الإخوان المسلمين» في هذه الدول الثلاث طويلة ونافذة.

وإذا كانت تركيا الحلقة الوسطى بين إرسال «المجاهدين» من تونس واستقبالهم في سورية، فإن واسطة العقد هذه وزعت المهام على نحو يجعل المهمة شديدة الوضوح والانكشاف في مستوياتها التونسية والتركية والسورية.

أمين السوسي يعرف كل قصة نجله. يقول إن الشيخ التونسي الذي جنده عبر الإنترنت اسمه بلال الشواش، وهو عاد ولحق به إلى سورية وما زال موجوداً هناك يتصل بالعائلات التونسية التي يقتل أبناء منها في سورية.

وقال أمين إن ابنه محمد الذي قُتل في اللاذقية بسورية كان قبل يومين من توجهه إلى سورية قام بمحاولة أولى للمغادرة إلى تركيا، لكن سلطات المطار منعته من السفر. كان ذلك في شهر شباط (فبراير) 2013. وكانت السلطات في حينه قد حظرت السفر إلى تركيا للشباب دون الخامسة والعشرين من دون إذن أهلهم. عاد محمد إلى المسجد الذي كان يتردد إليه، وهو مسجد رأس الطابية في العاصمة التونسية، وفي المسجد أجريت اتصالات عاد بعدها وكرر محاولة السفر إلى تركيا، ونجح هذه المرة في المغادرة.

وصـــل محمد إلى اسطنبول حيث كـــان في استقباله هناك من تولى نقله إلى أنطاكيا التي أقام فيها أياماً انتقل بعدها إلى إدلب ومنها إلى اللاذقـــية. ووالد محمد ابن المؤسسة العـــسكرية التونسية، وكذلك والدته وهي ضابط في الجيش التونسي، تمكـــنا من الوصول إلى معلومات مثـــيرة حول ابنهم. فهو تولى هناك مهام إداريـــة ودعوية في البداية، كونه حائزاً على شهادة ماجستير في العلوم المالية، أما الجانب الدعوي مـــن نشاطه، فهو ما حصل القدرة عليـــه من مسجد الحي في تونس. لكــــن الوالد يُشكك بكفاءته على هذا الصــــعيد، ذاك أن أشهراً قليلة فصلت بين التزام ابنه «السلفية الجهادية» وبين توجهه إلى سورية.

عولج في تركيا ودفن في سورية

ويجزم أمين السوسي بأن ابنه أصيب خلال اشتباك في منطقة اللاذقية في ظهره، ونقل إلى العلاج في تركيا لكنه فارق الحياة هناك فأعيدت جثته إلى سورية ودفن فيها، وتمكن الرجل من معرفة المكان الذي دفن فيه ابنه، وهو ينتظر الفرصة لزيارته إذا له سمحت الظروف.

تسوق عائلات «المهاجرين» الكثير من الأدلة على دور للسلطات في ظل حكومتي «النهضة»، وفي ظل نفوذها المستمر اليوم في وزارة الداخلية، وعلى تسهيلها مهمة خروج أبنائها. وهي، أي «النهضة»، إذ تفعل ذلك، تنجز وفق الأهالي مهام كثيرة، أولاها أن الشبان ليسوا أبناء الحركة الإسلامية التونسية، فهم من بيئة مختلفة ومن وعي إسلاموي مستجد سيكون التخلص منهم بمثابة التخلص من منافس لطالما أقلق «النهضة» وزايد عليها من يمينها. وثانيتها أنها تلبي بتسهيلها خروجهم إلى سورية عبر تركيا مهمة «إخوانية» إقليمية، وهذه المهمة تتضح على نحو جلي في حلقتها التركية، ذاك أن العبور السهل إلى سورية عبر تركيا ما كان ليحصل لولا غض نظر موازٍ مارسته السلطات هناك.

يقول محمد إقبال، رئيس جمعية التونسيين العالقين في الخارج، وهي الجمعية التي توثق حالات من توجهوا إلى سورية للقتال وينشط فيها أفراد من عائلات شبان غادروا إلى سورية، أنه طالب وزارة الخارجية التونسية بأن تستحصل على أسماء الشباب التونسيين الذين وصلوا إلى تركيا ولم يخرجوا بعد ستة أشهر من دخولهم، وذلك بهدف حصر أعداد «المجاهدين» وتحديد حجم الظاهرة، خصوصاً أن السلطات التركية تعتبر أن دخول التونسي إلى تركيا من دون تأشيرة يبقى قانونياً حتى تتجاوز إقامته فيها الستة أشهر. ويؤكد إقبال أن السلطات التركية رفضت هذا الطلب كونه سيكشف عن أرقام ربما فاقت التوقعات حول هذه الظاهرة. ووفق إقبال أيضاً، فإن طرق التونسيين المفضية إلى سورية ثلاثة، وثلاثتها تنعقد عند محطة واحدة في النهاية، وهي تركيا. من تونس مباشرة إلى اسطنبول، ومن تونس إلى ليبيا عبر طرق غير شرعية حيث يستقبل من يعبرها في درنة ويخضع لتدريب عسكري فيها، ومن هناك جواً إلى اسطنبول. والطريق الثالث، وهو مستجد، إلى المغرب ومنها إلى اسطنبول. ويشير إلى أن عصابات مهربين «غير أيديولوجية» تتولى مهمة النقل براً إلى ليبيا بعد أن ضيقت السلطات التونسية على العابرين عبر المعابر الرسمية.

يجزم ناشطون تونسيون بأن الحلقة التركية هي الحلقة المركزية في مسلسل «الجهاد» المأسوي هذا. في مدينة القيروان تجمع قبل أيام عدد كبير من العائلات التي «هاجر» أبناؤها أخيراً إلى سورية، في ما يشبه تظاهرة توجهت بعدها إلى عيادة طبيب أسنان قالت إنه هو من تولى تجنيد أبنائها، وكشفت أن تحويلات مالية عبر مصارف تركية كانت تصل إلى هذا الطبيب يتم عبرها تمويل أكلاف الرحلات. وإذا كان صعباً التحقق من قضية التحويلات المالية هذه، إلا أن إصرار العائلات على صحتها يكشف مدى تحول تركيا إلى عقدة «العلاقات الجهادية» في وعيها، وتعتبر حركة «النهضة» الشقيق الأصغر في عائلة تجنيد أبنائها.

مبالغ مالية

ويتحدث الأهالي عن رجال أعمال غير تونسيين ودول تمول «الهجرة»، وأن وسطاء «جهاديين» من تونس يتولون مهمة التجنيد ويتقاضون خمسة آلاف دولار على «المجاهد» الواحد، لا يتقاضى منها هو شيء. ويشيرون إلى أسماء كثيرة بعضها اليوم في السجن وبعضها متوار وبعضها ما زال طليقاً، وهؤلاء تغيرت أوضاعهم الاقتصادية على نحو جلي منذ باشروا بإرسال «المجاهدين» إلى سورية وإلى العراق.

وإذا كان من السهل اليوم تعقب سير المجاهدين في ضواحي المدن التونسية ولقاء أهلهم، فإن الوصول إلى هؤلاء الوسطاء يبدو مهمة غير سهلة في ظل المراقبة الأمنية والحصار الاجتماعي الذي يحف بسكن هؤلاء وفي حركة تنقلهم ونشاطهم.

ليسوا فقراء وليسوا راسخين في إيمانهم، هذا ما قالته بثينة سيدي عن ثلاثة جامعيين أجرت عنهم بحثاً نفسانياً، والثلاثة كانوا حاولوا السفر إلى سورية لكن السلطات أوقفتهم قبل حوالى 20 شهراً. وهي تقول إنها في زيارتها الأخيرة لأحدهم لاحظت أنه أقلع عن لبس الثوب السلفي، وقصر من طول لحيته وصار يصافح النساء. ويعيدنا هذا الأمر إلى أن البيئة التقليدية التي نمت فيها حركة «النهضة»، وهي البيئة «الراسخة في إيمانها» ليست هي نفسها التي أنتجت الجهاديين الجدد، وأن «النهضة» في استثمارها بهؤلاء إنما كانت تستعمل رصيداً اجتماعياً وسياسياً لا يمت لها تقليدياً بقرابة أو بصلة. ففي ترتيب المناطق التونسية التي أرسلت «مجاهدين إلى سورية تأتي المناطق الساحلية بالدرجة الأولى، ثم في الدرجة الثانية مناطق الحدود الجنوبية مع ليبيا وفي الترتيب الثالث المناطق القبلية، هذا في حين تنعكس المستويات في الترتيب لجهة نفوذ حركة النهضة.

الظاهرة لم تستثنِ في تفشيها أحداً من الشرائح الاجتماعية في تونس. يشير محمد إقبال إلى أنه توجه إلى ناد ثقافي ورياضي في منطقة المنزه في العاصمة، وهي منطقة شرائح اجتماعية متوسطة عليا، ليتفاجأ هناك أن ابن صاحب النادي نفذ أخيراً عملية انتحارية في العراق، وأن والده عاجز عن فهم ما أقدم عليه ابنه، ويتهم «النهضة» بتسهيلها مهمة انتقاله إلى هناك. علماً أن الشاب كان يعمل مضيفاً على خطوط الطيران التونسية.

يشير إقبال إلى أن انتقال التونسيين من اسطنبول إلى أنطاكيا يتم بإشراف «مافيات سورية» تتقاضى أجوراً لقاء أتعابها من ممولي «الجهاد»، وتتمتع بعلاقات مع الأمن التركي تمكنها من العمل بحرية. فشقيق إقبال وصل إلى اسطنبول ملتحياً على نحو ما يُطلق السلفيون لحاهم، ولم تلحظه عيون الأمن، وكان برفقة سبعة ملتحين وامرأة منقبة، وكانت وجهتهم أنطاكيا بعد اسطنبول، وعلى رغم ذلك لم يشعروا بأن ثمة ما يعيق رحلتهم. وينقل عن شقيقه أن الرحلة تُوجت بعد الوصول إلى إدلب في سورية بأن جرى استقبال للمجموعة «المجاهدة» ذُبح خلالها خروف (علوش كما يسميه التونسيون)، وأكل «المجاهدون» لحمه، أما شحمه، فكان كـ «هداب الدمقس المفتلي» على ما يصف امرؤ القيس شحم بعيره.

«المجاهد» المقعد

ويبدو أن «جبهة النصرة» و«داعش»، أو فرعيهما التونسيين العاملين في سورية صارا يملكان وجداناً «وطنياً» مستجيباً لبعض الهموم في بلدهم، فهم أعادوا شقيق محمد إقبال من سورية بعد أسابيع من وصوله إلى سورية لأن الشاب الذي لم يكن قد بلغ الثالثة والعشرين حين وصل إلى «أرض الجهاد» مقعداً، وهو عبر الحدود التركية – السورية على كرسي نقال، ويقول شقيقه إنه قرر الذهاب للمشاركة في «الجهاد» بما يستطيع، لكن مغادرة صاحب إعاقة جسدية إلى «الجهاد» أثار ضجة في تونس وشعرت «النصرة» بأنها بفعلتها، أي استقدام «مجاهد» على كرسي نقال سيزعزع سمعتها فأعادته على كرسيه إلى تونس من طريق تركيا أيضاً. وفي رحلتي الذهاب والأياب لم يحتج شقيق محمد لأن يحلق لحيته الطويلة والسلفية بهدف التمويه، فهو غادر منزله سلفي الهيئة واللحية واللباس، وعاد إليه سلفياً جهادياً غير مُنتقصِ الشكل والقيافة.

كانت عودته سهلة كما كانت مغادرته أيضاً، على ما يقول شقيقه. الطريق نفسه من مطار أنطاكيا إلى مطار اسطنبول ومنها إلى مطار قرطاج في العاصمة التونسية، و «المجاهدون» يفضلون أن يسافروا عبر الخطوط التركية، ذاك أن بطاقات السفر يُدفع ثمنها من تحويلات مالية عبر مصارف تركية، والطيران التركي أكثر إلفة وتخففاً من اعتبارات المراقبة، فما إن يضع «المجاهد» قدمه في الطائرة حتى يشعر بأنه في «أرض الجهاد».

حوريات على المطار

يقول أحمد وهو صحافي تونسي كان متوجهاً إلى اسطنبول في رحلة سياحية للقاء صديقة له هناك، إن رجلين سلفيين جلسا بقربه في الطائرة واعتقدا أن لحيته الخفيفة ما هي إلا تمويه، وإنه كحالهم ذاهب إلى «الجهاد». نفى لهما عندما سألاه عن ذلك، فردا بأن لا حاجة له لكتم سره فهم أيضاً متوجهان لـ «الجهاد» في سورية، وعرضا عليه سلوك الطريق نفــسه، وسألاه عن الجهة التي تنتظره في المطار مشيرين إلى أنه في إمكانه أن يثق بجماعتهما التي أرسلت من ينتظرهما في المطار وهي أهل ثقة، وبإمكانهما أن ينقلاه معهما في حال لم يكن أحد ينتظره في المطار. أكد أحمد لهما أنه مسافر إلى اسطنبول للسياحة وليس لـ «الجهاد» في سورية، ولم يصدقاه إلى أن شاهدا صديقته بانتظاره في المطار.

يقول أحمد: «لم يكونا أقل سعادة مني حين وصلنا إلى مطار اسطنبول، ثمة من كان ينتظرهما في المطار، وثمة من كان ينتظرني. أنا كانت حوريتي تنتظرني، وهما كانت لهما حوريتان تلوحان بعيداً، هناك على الحدود مع سورية. وفي الحالتين أنا كما هما لم نحتج إلى تأشيرة لدخول الأراضي التركية».

* أفواج جديدة توجهت إلى بلاد داعش وملامح مختلفة لسير خروجها..

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى