صفحات الرأي

المجتمع “المتخيل”.. الانعتاق من الطوائف/ محمد الصادق

 

 

أكثر ما يثير القلق، في هذه الموجة الطائفية العاتية، أن قاعها لم يظهر بعد. زعماء الطوائف باقون خلف أسوار القصور، ينظرون من شاهق، بلا مبالاة، إلى تراكم جثث ضحايا الاقتتال الأهلي. المجتمع، الذي كُنّا نظنه راسخاً، وصلباً، جرفته العاصفة، فلم تعد تجدي معه كل الأهازيج الوطنية، أو قصص تضحيات الأجداد ضد الغزاة.

في مرحلة النضال ضد الاستعمار، كانت العلاقات المحلية أفضل مما هي عليه الآن. وحّدت المعركة مع العدو الخارجي القوى المحلية. صحيح أن العلاقات الوشائجية، العشائرية والطائفية، كانت سائدة في تلك الحقبة، لكنها لم تكن “مستنفرة” سياسياً. ورثت النخب العربية هياكل سياسية وإدارية، خلّفها الاحتلال، فتعاملت معها كما وجدتها، حيث أبقت العلاقات الاجتماعية على حالها، في معظم الأنظمة التي حكمت بلادنا.

بعد تلك المرحلة، أتت مرحلة الانقلابات العسكرية التي أطاحت بهذه النخب، وفيها جرت محاولة تمدين المجتمع، من خلال إيديولوجيات علمانية الصبغة، كان بعضها صادقاً، وبعضها الآخر كان يبحث عن جماهيرية زائفة. لم تكن الأحزاب القومية واليسارية، على علاتها الكثيرة، تعطي اعتباراً للهوية المذهبية في الترقي الحزبي، أو حتى الوظيفي في الدول التي حكمتها. نجحت هذه السياسة في بعض المدن الكبرى، وفشلت في أخرى، فكان لهذا الفشل ارتدادات مزلزلة على صعيد قيام مواطنة مشوهة، ساهمت في تحلل الوحدة الوطنية، عند أول امتحان لزوال السلطة الحديدية للعسكر.

طبعاً في هذه الأثناء، ثمة مدن كبرى تطورت عمرانياً، لكنها حافظت على نماذج علاقاتها التقليدية، وهذا يعطينا مؤشراً على أن التطاول في العمران لا يقود بالضرورة إلى التمدن. تريّفت بعض المدن، بفعل انتقال نمط العيش الريفي للمدينة، وبالمحافظة على العلاقات الاجتماعية الريفية، التي تعتمد على الولاءات التقليدية، حيث تأخذ العلاقة بين شيخ العشيرة وأفرادها شكلاً عمودياً، فيعيش هذا الفرد مغترباً في المدنية، التي يقطن فيها طوال حياته. لا يعد هذا الأمر هامشياً، عند قياسنا تطور المجتمعات. وبالتالي، يمكننا الآن بعد فشل بعض الدول العربية في المحافظة على نفسها، وعلى وحدتها في كيان واحد، كما هو حاصل في المشرق العربي، أن نتخذ موقفاً واضحاً من أهمية النظرة الحداثية للعلاقات الاجتماعية والنظام الاخلاقي التي تتشكل في رحمها.

الخلاصة التي نحصدها، من تتبع تطور العلاقات الاجتماعية داخل أوروبا، يمكن تلخيصها في

” تحول العلاقة بين الفرد وجماعته الأولية: كيف ينظر لها، وأين يقف منها، وأين تقع الجماعة بالنسبة للفرد الحديث داخل الدولة. هل هي مقدمة على الدولة، أم أن الدولة، بمصالحها الجديدة التي توفرها للفرد قادرة على ترويض جموح الجماعات الأولية. إن تمدين الحاضرة يجعل الاحتراب الأهلي أكثر صعوبة؛ لأن الناس تتدرر فيه، لكن هذا التدرر لا يعني مغادرة الجماعة الأولية، أو التنكر لها. في النهاية، ثمّة وظائف ضرورية، تقوم بها الجماعات الأولية ضد توحش الرأسمالية وتغولها، كالتكافل الاجتماعي. لكن، من الضروري إبقاءها خارج الاجتماع السياسي، المُفترض قيامه على المساواة في الحقوق والواجبات، وليس على التراتبية الهرمية، لكي لا تطغى الطوائف وزعامتها على الدولة، كما حال لبنان اليوم.

يرى الفليسوف الكندي، تشارلز تايلو، في كتابه القيّم، “المتخيلات الاجتماعية الحديثة”، أن أهم منجزات الحداثة الغربية، نقل النظرية النخبوية للعلاقات الاجتماعية، من كونها نظرية لدى النخبة، إلى كونها “متخيلاً” اجتماعياً، قادراً على رسم صورة متخيلة للأفعال والمساهمات الاجتماعية، التي يقوم بها الفرد أو الجماعة، عند التعاطي مع حدث معين، من دون التفكير في النظرية التي قدمته، وأن هذا التخيل الجمعي يؤثر في نظرة الناس لبعضها، ولعلاقاتها الاجتماعية، ولردات الفعل. يضرب تايلو مثلاً، الإضرابات العمالية في أوروبا وأميركا، بالقول إن الناس ليست في حاجة لتعلم حق الإضراب، ولا في كيفية حدوثه، أو في السير في مظاهرة احتجاجية، فقد ارتسمت صورة حق التحرك في “المتخيل الاجتماعي” وأعطته معناه.

إذاً لا لبس في أن ترقية الطائفة من كونها إحدى طرق تفسير الدين وفهمه والتفاعل معه، نظاماً توجيهياً لسلوك الملتزمين دينياً، لكونها جماعة سياسية، مستقلة عن الدولة، ومتجاوزة حدودها، قد ساهم، بشكل كبير، في إعاقة التطور المنشود لهذه المجتمعات العربية، بل أكثر من ذلك، أن تسييس الانتماء المذهبي لعب دوراً مركزياً في تقويض الدولة الوطنية، حينما جعل من الطائفة بمثابة المركز في العلاقات الاجتماعية، وبالتالي، حرم الناس من “تخيل” أنفسهم خارج القيد الطائفي.

الخبر السيىء، اليوم، أن الطائفة تقبع في قلب “المتخيل الاجتماعي”، وتسيطر عليه. لكن الخبر الجيد أنها فشلت في تحقيق الأمن والازدهار السياسي والاجتماعي لأفرادها، وأن هذا الفشل سوف ينسحب على مركزية وجودها، بما يُحفّز الناس على “تخيل” جماعة سياسية، ما بعد طائفية.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى