صفحات سورية

المجلس الوطني خطوة هامة على طريق وحدة المعارضة السورية


                                             كامل عباس

عرفت سورية في النصف الثاني من خمسينات القرن العشرين دولة مدنية ديمقراطية شذت عن تاريخها الاستبدادي المنسجم مع تاريخ المنطقة (والذي تجلى لقرون عديدة في حكم الواحد الأحد الفرد الصمد القابض بيده على كل السلطات في بلاده) وساعدها على ذلك عاملان رئيسيان .

–        أولهما تاريخ سورية الحضاري العريق .

–         وثانيهما استعمار فرنسي جلب معه اليها روائح التنوير الذي أشاعته في العالم الثورة الفرنسية .

 تجلت تلك الدولة عبر حكم جمهوري نيابي يتم فيه تداول السلطة بين أرباب الحكم والمعارضة , وفعلا شهدت سورية تلك الفترة المعارضة بنوعيها اليميني واليساري , على سبيل المثال لا الحصر كان ابرز الأحزاب اليمينية فيها حزب الشعب والحزب الوطني , اما المعارضة اليسارية فكان أبرزها حزب البعث والحزب الشيوعي.  وبين المعارضتين تيارات سياسية تنوس بين الجهتين مثل التيارات الدينية وكتلة العشائر. كان من ابرز سمات تلك الدولة قرار وطني مستقل وصلب تكسّرت على صخرته كل المؤامرات الراغبة في مصادرته . استمات الأشقاء العرب من نوري السعيد في العراق الى الملك حسين في الأردن الى الملك سعود في السعودية الى كميل شمعون في لبنان لتخليص سورية من الخطر الشيوعي كما ادّّعوا , فرّدت عليهم بمزيد من التعاون مع دول الكتلة الشرقية عبر معاهدات وقّعها آنذاك رئيس وزرائها  خالد العظم فاستحق اسم المليونير الأحمر . ومع ان المعارضة اليسارية كانت أصغر كتلة في البرلمان . الا ان حضورها ومساندتها للدولة ساهم في المحافظة على قرار سورية المستقل .

لكن تلك الفترة لم تكن سوى استثناء في تاريخها , فقد عادت الى الحكم الاستبدادي-  بطريقة تحتاج لمعالجة خاصة –  تجّلت بعد الحركة التصحيحية باسم القائد الضرورة الذي صارت ابتسامته ضرورية لفعل الرؤيا والتنفس في الساحة السورية حسب تعبير الدكتور التقدمي الفيلسوف اسكندر لوقا , اما الصحفي جبران كورية فهو يرى أن لكل قاعدة استثناء , فاذا كان الشعب هو الذي يصنع القائد في القاعدة , فان القائد الأسد هو الذي صنع أسطورة الشعب السوري في الاستثناء .

كان الأجدى بالأحزاب اليمينية في سورية متمثلة بحزب الشعب والحزب الوطني وسواهما من أحزاب البورجوازية الكبيرة ان تبلور نفسها من جديد في ظل حكم الأسد على قاعدة الحرية التي تتشدق فيها تك الأحزاب تاريخيا , ولكنها فضّلت حماية نفسها من قمع السلطة الشديد والاكتفاء بشراكة اقتصادية مع النظام وحسب الهامش الذي يحدده لها . اختلف الأمر بالنسبة للمعارضة  اليسارية –  بيت القصيد في دراستنا المتواضعة  –

لم يكن هاجس الحرية بمفهومه اللبرالي يتصدر يوما اهتمامات المعارضة اليسارية السورية بل كانت تقف على نفس الأرضية الأيديولوجية للنظام خصيصا في فهمها لموضوع الديمقراطية وعلاقته بالوطنية , وكل ما كانت تريده تلك المعارضة هو الحرية للطبقات الشعبية وتعبيراتها السياسية كي تحمي الثورة من الرجعية , ومع ذلك تعرضت لمحاصرة وتهميش ومحاربة بلقمة العيش وقمع شديد وصل الى زج خيرة أعضائها داخل السجون لسنوات عديدة .

ظلت تلك القوى تنظر الى الحرية بنفس منظار النظام وهي داخل سجونه حتى هبّت رياح التغيير في العالم . وأنا هنا انقل بأمانة إحدى اللوحات عن بذور التفكير الجديد الذي تبرعم داخل السجن لدى الكثير من أبناء المعارضة .

  تصادف ان تواجد في سجن صيدنايا العسكري أواخر الثمانينات  (المصنف بأنه سجن خمس نجوم ) كل أطياف المعارضة السورية

1-     حزب العمل الشيوعي

2-     الحزب الشيوعي السوري المكتب السياسي .

3-     حزب البعث الديمقراطي .

4-     حزب البعث التابع للعراق .

5-     حزب التحرير الاسلامي .

6-     حزب الاخوان المسلمون .

الى جانب أفراد مبعثرة من الحركة الكردية والحركة الدينية .

كانت تلك الأطياف تتجاور في مهاجع تُغلًق في الليل وتفتح على بعضها في النهار  مما ساعدها على إقامة ندوات متنوعة أدبية واجتماعية وسياسية ولكنها قبيل حرب الخليج تحولت كلها الى ندوات سياسية بامتياز .

خرجت أصوات نشاز حادة لم يكن لها أثر في السابق داخل تلك الندوات نذكر منها .

–        أمراء الخليج أكثر تقدمية وإنسانية من صدام حسين .

–        سّر تفوق اسرائيل علينا يكمن في كونها دولة ديمقراطية وانتصارنا عليها لن يتم الا عندما نصبح ديمقراطيين مثلها على الأقل .

–        الديمقراطية مفيدة لنا حتى لو جاءت على ظهر دبابة أمريكية .

–        الاحتلال الخارجي أرحم بشعوب المنطقة من الاحتلالات الداخلية .

–        الديكتاتورية اخطر من الامبريالية .

–         امريكا دولة حضارية وليست كما صّورها لنا الاتحاد السوفياتي .

اختلط الحابل بالنابل  لدرجة أصبح فيها التمييز  بين يمين ويسار في تلك الندوات أمرا عسيرا  .

ظّن أصحاب الرؤوس الحامية من المعارضة اليسارية أنها زوبعة في فنجان سببها الرئيسي تأثير فقدان الحرية على أعصاب السجين .

لكن تلك الأصوات لم تخمد بعد الحصول على الحرية , بل تعمّقت وتوسعت بالطول والعرض أثناء المنتديات التي انتشرت في القرن الجديد لدرجة لم تخل من اتهامات وشتائم بين الفريقين .

دار السجال الحاد بين النشطاء  في سورية  مطلع هذا القرن –  وجلهم سجناء سياسيين من المعارضة اليسارية – حول مواضيع عديدة كان أبرزها

–        الديمقراطية والعدالة الاجتماعية

–        العلمانية والدين

–        النظام العالمي الجديد

* – الكلاسيكيون من أبناء المعارضة اليسارية يرون في الديمقراطية نظام وآلية في الحكم أيضا . والنظام الديمقراطي لا يتحدد بجانبه السياسي فقط بل بالحريات والعدالة الاجتماعية .

* –  المجددون يرون في الديمقراطية  آلية في الحكم , اما علاقتها بالعدالة الاجتماعية فقد تخدم الطبقات الغنية في المجتمع وقد تخدم الطبقات الفقيرة وذلك عائد لظروف البلد وقوة ونفوذ الطبقات المتصارعة فيه  .

**- الكلاسيكيون يرون بالدين أفيون الشعوب , وكل ديِّن هو بحكم الرجعي لأنه يؤمن بالغيبيات , ورافعة التقدم الاجتماعي لن تعمل الا بواسطة العلمانيين .

**- المجددون يقولون : يجب ان ننطلق في السياسة من برنامج القوى وليس من أيديولوجيتها , مًنْ كان برنامجه مع تنمية عريضة للمجتمع يجب الا نستبعده حتى لو كان حزبا دينيا . على العكس من ذلك نحن نحتاج الى طاقة الإيمان وطاقة العقل من اجل دفع التنمية الى الأمام .

المواجهة كانت وما تزال على أشدها بين التيارين حول النظام العالمي الجديد

***- الكلاسيكيون لسان حالهم ينطق به الدكتور طيب تيزيني المعروض في كتابه – من ثلاثية الفساد الى المجتمع المدني ص 143 –

(النظام العالمي الجديد أخطبوط صهيوني أمريكي عولمي يريد أن يفكك الهويات الوطنية عبر وتائر من الإفقار والإذلال , وآليته الحاسمة على صعيد الفعل العولمي هي : محاولة ابتلاع الطبيعة والبشر وهضمهم وتمثلهم ومن ثم تقيؤهم سلعا ).

في ظل النظام العالمي الجديد كما يقولون: ازداد الأغنياء غنى وقل عددهم , وازداد الفقراء فقرا وكثر عددهم . انه انتكاسة الى الوراء قياسا بالنظام السابق, وقد كان نصينا منه نحن العرب القسط الأكبر من الويلات تمثلت في احتلال العراق وتفكيك ذلك البلد العربي العريق . ولذلك علينا العمل بكل الوسائل من اجل اسقاطه

***- المجددون لسان حالهم يقول : النظام العالمي الجديد خطوة الى الأمام , ولو لم يكن كذلك لما فرض وجوده . نعم لقد ازداد الأغنياء فيه غنى  ولكن السبب في ذلك هو غباء القطب الآخر الذي لا ينظر الى التاريخ بعين واقعية . النظام الرأسمالي قد يحتاج الى مئات السنين حتى يسقط فهل ننتظر سقوطه ام نعمل من داخله لخلق مؤسسات دولية يكون فيها للانسان وحقوقه محل من الإعراب بالمعنى الاقتصادي والسياسي وليس بالمعنى السياسي فقط , والنظام العالمي الجديد يمنحنا الفرصة ولكننا مشتتون مع الأسف مما يسهل على الشركات فوق القومية نهب السوق كما تشاء  .

اما بالنسبة للعراق فهو يُعبِِر بدقة عن وجه النظام الجديد , حيث أصبح الاستبداد عبئا على الاقتصاد العالمي .  أما الطريقة التي أزيح بها فهي تذكرنا يأن تاريخ الانسانية ما زال يُحكًم عبر القوة , وذلك لم يعد لائقا بتاريخ هذا الجنس , ويجب أن نعمل من الآن  فصاعدا  لأن تتم إزاحة الاستبداديين عبر القانون الدولي وليس عبر القوة  . عبًّر المناضل رياض الترك بدقة عن الموضوع في جوابه على سؤال صحفي عن احتلال العراق حيث قال : الاحتلال الأمريكي للعراق نقل العراق من -1 الى الصفر . وسماها الطرف الآخر النظرية الاستعمارية الصفرية .

 الصورة التالية تلقي الضوء على الخلاف العميق بين الفريقين .

في عام 1907 زار رياض الترك ورياض سيف السفارة الأمريكية في سورية في عيد الاستقلال الأمريكي مهنئين بالعيد , شن نائب الأمين العام للاتحاد الاشتراكي عبد المجيد منجونة حملة تحريضية ضد الزيارة في أوساط المعارضة بوصفها …..

والمنجونة وزير سابق وأحد الأسماء المطروحة حاليا من قبل الروس كرئيس وزارة لحل الأزمة السورية , ولكن الطرح يأتي من الرجل القوي فيها بوتين الذي يتهمه الشيوعيون الروس بأنه زعيم مافيا  وليس منهم  ؟!

…………..

ظلت المعارضة السورية مشتتة وضعيفة ومتناقضة تنخرها الشخصانية  حتى انفجرت الثورة السورية .

ضغط الحراك الشعبي بكل ثقله من اجل وحدة المعارضة السورية القديمة والجديدة , وأسفر ذلك الضغط عن مؤتمرات نوعية لها في الداخل والخارج من مؤتمر سمير أميس الى مؤتمر الانقاذ الوطني الى مؤتمر هيئة التنسيق الوطني الى المؤتمر الأخير في استانبول , لكن المؤتمر الأخير كان الأكثر نضجا وتمثيلا لأطياف المعارضة ويمكن البناء عليه اذا خلصت النوايا .

الأمر أصبح واضحا في سورية بفضل تضحيات شبابها . سورية تحتاج الى حكم ديمقراطي تعددي بدلا من الحكم الاستبدادي القائم كي يخرجها من أزمتها الحالية  , وعلى المعارضة السورية بكل أطيافها ان تتفق على الآلية التي يتم بها الانتقال لكي يساعدها العالم على ذلك . ولكن لنتحدث بصراحة . ان حجر العثرة الكبير أمام المجلس الوطني هو اليسار السوري .

واليسار  تتنازعه تيارات عديدة منها :

– تيار ممثل بالجبهة الوطنية وفي السلطة ومدعوم من جهات عدة في الداخل والخارج مثل صحيفة الأخبار وصحيفة السفير وحزب الله والدولة الايرانية . هؤلاء لا يزالون على ثوابتهم . سورية دولة مقاومة وممانعة . لا وجود لثورة في سورية , بل ردة رجعية تريد ان تعمم المشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة .

– تيار في المعارضة السورية بشقيه القومي والشيوعي يحمل نفس الهم , ينظر الى الثورة بانها تنطلق من الجوامع ويسيطر عليها الرجعيون , ولكنه لأسباب براغماتية بحتة وحتى يقطف بعض الثمار لصالحه من الحراك السوري الحالي يعلن مساندته للثورة .

– تيار ثالث يقف على نفس الأرضية الأيديولوجية ولكنه يعترف بان غياب الديمقراطية عند اليساريين هو سبب انكسارهم أمام الامبريالية , والثورة في سورية ثورة الحرية وهو يلتقي معها ولكنه يرفض أي تدخل خارجي ويعيب على الحراك السوري مطالبته بحماية دولية ويفسر ذلك بأنه ردة فعل عفوية على القمع تضر بالمجتمع السوري أكثر مما تنفعه . هذا التيار يريد الاصلاح في سورية على قاعدة ثوابت السياسة الخارجية السورية , ويرى بان هناك تيار اصلاحي فيها يقوده الرئيس الشاب يجب التعامل معه.

 أينما تواجد هذا التيار سواء في هيئة التنسيق الوطنية أم في المبادرة الوطنية الديمقراطية يجب ان يحسب المجلس له حسابا ويعمل للوصول معه الى تفاهمات من اجل سورية المستقبل , وان يعطيه الفرصة لكي يجنب بلدنا مآسي التدخل الخارجي البغيض بالنسبة له , ولا سبيل الى ذلك سوى  بعودة الجيش الى ثكناته ومن ثم البدء بحل سياسي بدلا من الحل الأمني القائم في سورية , وعندما يفشل في إقناع الرئيس بذلك , فربما سيتعاون معنا من اجل حماية دولية لشعبنا من القتل اليومي الذي يستهدف شبابه .

بكل الأحوال. انا واثق من أن المجلس الوطني خطا الخطوة الأولى باتجاه جعل مرحلة الديمقراطية الشعبية في سورية مرحلة الاستثناء والتي تبيًّن انها كذبة كبيرة استندت الى  تاريخنا الاستبدادي الطويل.

سورية يجب أن تستعيد نظامها الوطني الديمقراطي الذي كان قائما في الخمسينات , وان لم تجتمع المعارضة بكل أطيافها تحت مظلة واحدة , فربما يصل الوضع بنا الى الفوضى أو حكم قائم على المحاصصة الطائفية كما هو قائم في العراق ولبنان , وهناك كثيرون في الداخل والخارج تلتقي مصالحهم الضيقة في دفعها نحو هذا الطريق .

أختم مقالتي هذه بكلمات وردت في البيان الوزاري لآخر حكومة شكلها خالد العظم قبل “ثورة آذار” والتي تصلح لكي ينطلق منها المجلس الوطني نحو سورية الجديدة , أوردها أكرم الحوراني في مذكراته – ج4 ص3129 – .

( لقد انتهت التجارب الطويلة التي مرت بها سورية الى اقتناع أبنائها أن كل قتل للحريات السياسية على حساب انجاز الإصلاحات الاجتماعية أولاً , إنما هو قتل لإنسانية الإنسان , كما اقتنعت أكثرية أبناءها في الوقت نفسه أنه ليس من حرية صحيحة لأصحاب البطون الجائعة . ولهذا فان سورية اليوم ترفع الراية الثالثة في الوطن العربي , راية التلازم بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية , وتنادي أن الإنسان العربي بحاجة الى الحرية والى الخبز والكرامة معا ) .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى