صفحات الثقافة

المجنون وليلى

 

أندريه ميـكال

ترجمة: فريد أمعضشـو

في القرن السابع الميلادي، وفي جزيرة العرب (بنَجْد تحديداً)، تدور حكاية فتى وفتاة مُنعا من الحب من قبل عائلتيْهما. وكاد اليأسُ أن يقودهما إلى الموت جرّاءَ ذلك. وقد عُرف الفتى بالجنون وبإنتاجه الشعري الذي يعد من أقدم وأجمل ما عرفته ساحة الأدب العالمي في مجال العشق1.

وبخصوص تعريف هذا الحب، نقول إنه يتمحَّض لمُوضَة عَصْره. ذلك بأن موكباً من الأزواج، كثير الشهرة أو قليلها، يعيد إذاً إنتاج نفس نمط حكاية حب كامل ومستحيل. ولْنُعْطِ لهذا الهوى صفة ‘العُذرية’، نسبةً إلى قبيلة بني عُذْرَة (Des Udhra) التي مورس فيها أصلاً. و يجب أن نسجل أنه إذا كان هذا الحبُّ لم يتحقق على أرض الواقع بإجماع العُشّاق، فإنه، مع ذلك، عِيشَ في الحلم. ببساطة، يُطرح، بثبات، إذا كانت ثمة حرية لبلوغ نهاياتها، لتحقق ذلك مهلة زمنية طويلة كثيراً أو قليلاً. فقد تخيَّل بنو عُذرة أن الحب العَفيف يختلف عن الحب الأفلاطوني الذي يتنازل، مطلقاً، عن اتحاد الأجسام بالأرواح.

وتحت تأثير الحب العفيف، يحمل المجنون أولَ متغيِّر؛ وهو القوام. ذلك بأن خطابه الشعري مكرًّس كلّياً للحب، ولآماله، ولمعاناته الشخصية بعيداً عن الواقع حيث كان الآخرون ما يزالون مُحاصَرين بجملة من الإكراهات المفروضة عليهم فرْضاً (هَجْو القبيلة المعادية الدفاع عن قبيلة البطل وعن البطل نفسِه). إن القطيعة مع الفن العريق: الشِّعر، مستهلكةٌ جذرياً؛ بحيث إنه لا شيءَ هنا يستدعي، من قريب أو من بعيد، شعر الصحراء التقليدي، وتنظيمه، وموضوعاته أو شفْرته. وعلى سبيل الاستنتاج، فإن هذا الشعر الجديد، وكذا السيرة الأسطورية المنسوجة مِنْ حول المجنون وليلى، بالتأكيد وفي هذه المرحلة، إنسانيّ، ولا شيء غير ذلك. وللإثبات، فإن الأثر الديني الخفيّ الممارَس، ها هنا، يُستدعى، خصّيصاً، للدفاع عن الحب والتناجي أحياناً مع قُوى غيبية.

إن هناك متغيّراً آخرَ ارتبط بالمجنون؛ وهو أنّ الشعر اقتحم مجال الحب، وخاض فيه خوضا عميقاً. لقد غدا الحب والشعر في مستوى نفس المُطْلَق (m’me absolu). و إذا نظرنا، إذاً، إلى الأشياء، من كثَبٍ، فإنّا نلْحَظ أنه لا شيء يعارض، مبدئياً، التحابّ بين هذين الطفلين: فلا السن، ولا الوضع المادّي يحولان دون توادِّهما؛ ذلك بأن الفتى حَدَثٌ، والمستوى الاقتصادي لعائلتيِ الطفلين متساوٍ. بل إن كل شيء، بالمقابل، كان يدفع إلى اجتماع المجنون وليلى، ثم إن حالة الأعمام الأشقاء القائمة بينهما تستلزم نمَطاً زَواجياً متميّزاً في هذه الحقبة وطويلَ الأمد في الغالب أيضاً. تُرى ماذا فعل المجنون؟ فعِوَضَ أن ينتظر قيام العائلتين بترتيب شؤون الزواج، وعوض أن يهدّئ مِنْ قلقه ويتفاءَل بالتغنّي باسمٍ من أسماء ليلى المُسْتعارة التي راجي في الشعر التقليدي، أخذ الغَريق، هناك وبسرعة؛ فأقرّ بأنه متيَّم. ابتكر اسم ‘ليلى’، وكشف معناه بصراحة. وهكذا، نال مصطلح ‘التّشْـبيب’ هذه ‘الوَقاحة’ المُتناهية التي جعلت الناس ينظرون إلى المرأة بخِزْي عامّ! وبالنسبة إلى المجنون، يُلاحظ أن الشعر هو التعبير الضروري عن حقيقة الحب الذي، بدونها، يظل كلاماً أصمّ ميّتاً. لكن، إذا غدا الشعر، بإرادة مُبْدِعِه، خادماً للحب، فإنه يتبوأ، عمَلياً، المنزلةَ الأولى؛ فيقضي عليه ويدمّره. وهذا كله ثورة لم تتمَّ!

ولفهْم ما حدث، فإنّنا مُلزَمون بإلقاء نظرةٍ ولو عَجْلى على المحيط السّوسيُو-ثقافي لهذه الحكاية ولهذا الشعر الذي واكبَها. إن جِدالين اثنين، مجّانيين بالدرجة الأولى، يَشْغَلان صفحاتٍ كثيرةً من كتاب ‘الأغاني’ لأبي الفرَج الأصفهاني (ت967م) حول واحدة من الأنطولوجيات الأساسية المرتبطة بأسطورة المجنون وليلى… هل يستحقّ المجنون لقبَه هذا؟ وأين تجد الأفضل في جزيرة العرب آنذاك؟ إن الإجابة عن ثاني السؤالين، والتي تتمحَّضُ لقبيلة المجنون نفسه؛ لبني عامر بن صَعْصَعَة، مُضاعَفة بالنسبة إلى الأخرى المُتمَحْورة حول شخصية المجنون وحقيقتها. وكيفما كانت متغيِّراتُ الأجوبة، فإن الواقع يُثبت أن المجنون ليس كسائر المَجَانين، وأن تسميته تلك (Le fou) يجب أن تكون، في الأخير، حتْماً أو بفَارِق، حكْراً عليه. ليس الشاعر مجنونا فقط؛ لأنه يسْكُنه الجِنّ الذي يُلْهِمه قرْضَ الشعر؛ كما في الميثولوجيا العربية القديمة، ولكن لأنّ سُلوكه متميِّز (Singulier) بشكلٍ أو بآخَرَ، وأحياناً، يتجاوز الحدود ليَدْنوَ من المعقول.

وقد طرح تصنيف المجنون مرّة، بالنظر إلى الوقائع؛ كما رأى ذلك، بشكل جيّد جدّاً، الطاهر لبيب الجديدي2، الذي فتح الباب، ها هنا، على مِصْراعَيْه. فهذا النوع من الحكايات نشأ في قبائل مهمّشة جدا. وقد ظلت هذه القبائل، من الناحية التاريخية، في بلاد العرب محرومة من التوسُّع (الفُتُوح)، الذي مكَّن جماعات أخرى، بمَجيء الإسلام، من الانتشار خارج نطاق شبه الجزيرة العربية في اتجاه تحقيق المجد والسُّؤدد! ومن حيث الموقعُ الجغرافي، فإن تحركات تلك القبائل كانت بمَنْأى عن طُرُق تجارة القوافل التي شكل التحكُّم فيها، بالنسبة إلى القبائل الأخرى، مصْدَراً ثرّا للمَداخيل. ومن هنا، نفهم، إذاً، أن القبائل الهامِشيّة كانت تريد، بدافعٍ من إرادة إثبات الوجود، أن تترُك، عن طريق الثقافة، أثراً يرفضه منطق التاريخ و الاقتصاد… تُرى، مِنْ أين يتأتّى لفَظاظة النقاشات حول رفعة مجموعة/ قبيلة أو أخرى ملامسة جوهر الحب العفيف؟!

ولكنْ ما الذي يُعْتقد في المجنون؟ يمكن أن نتصوَّر، جيّداً، من منظور تلك القبائل نفسِها، احتجاجاً، وأيضا ضرْباً من التمرُّد ضدَّ القدَر المَحْتوم! إن العيش على ‘الشرَف المقدّس’ المصحَّح و المقوَّم، من لدن الدين الجديد (الإسلام)، جعل هذه القبائل واثقة من أن احترام ذلك المقدس (Le code) والقيام عليه لا يقدِّم لها في المآل أيَّ شيْء! وانطلاقا من سلوك المجنون ثورةً حبّية، من أي طريق، يمكن أن نضع المقدس نفسه موضع السَّبَب. يمكن أن نقول إن الأمر لا يتعلق سوى بالحُبّ، ولكنْ له قيمة ‘المِثال’ (Valeur dexemple)؛ إذ إنه مَحْمولٌ من قِبَل واحدٍ من أبرز شخصيات الجماعة .. إنه الشاعِر! كما أن له أيضاً قيمة الرمز (Valeur de symbole)، رُبّما لنزاع أعمّ؛ هو ذلك الذي يَطرح، ما وراء النقطة الواضحة المتعلقة بإدارة العلاقات القائمة في كَنَف الجماعة، سُؤالَ المقدَّس، عموما، من أجل المُسْتقبل.

ومُنذئذٍ، فتحت شخصية المجنون كامل حاجتها (…) وبالمقابل، فالمجنون الذي لا يتكلم كسائر الناس، تماماً، كالأعمى غير المقبول في التعبير الكتابي، أو كالشاعر المسكون بجانِّه. هذا المجنون، إذاً، بمعيّة الشاعر الذي يُضاعفه في هذا الظرف، يستطيع أن يقول كلَّ شيء، وأن يقْبَع خلف صورته/ الجنون؛ ليطعنَ في صلاحية كلامه، إذا ما الأشياء أُذكيت جُذوتها، متضرِّعاً بجُنونها، و لكنْ بترْكه يتكلَّم؛ الأمرُ الذي يُعدّ، قبل كل شيء، جوْهريّاً جدّا.

وآخرُ سلسلة من الأسئلة المتصلة بسيرة المجنون من خلال أعمامه وسائر أضرابه؛ كتريستان (Tristan)، وروميو (Rom’o)، وويرذر (Werther)… إن أول تحقُّق مع المجنون يكْمُن في أن العرب قد طرحوا موضوعا مهمّا، يتجلى في معادلة، إذا أوثِرَتْ، بين حبّ كامل وحب مستحيل، ولكنْ شَريطةَ إبلاغ الآخَرين سببَ هذه الاستحالة. يمرّ كل شيء وكأنه، إذا ما الورع ترك للمُتحابّين العزاء للاعتقاد، إن فَشِل حبُّهم، بأن الخطأ ليس خَطَأَهم! إن ثمة كاتبا وحيداً، في حُدود اطلاعي على الأقل، تناولَ الفريق المقابل؛ ويتعلق الأمر بألبير كوهن (A. Cohen) الذي تخيَّل، في عمله ‘كريمة السيد’ (Belle du seigneur)، عشيقين متحرِّريْن تمامَ التحرُّر للتّحابِّ فيما بينهما، واللَّذَيْن أخْفقا إلى غاية الموت. وفي ضوء السّؤال المُوجِع حول معرفةِ ما إذا كان الحب مُمْكِناً العيشُ فيه أم لا بدون ارتباطٍ بالعالَمِ؛ جزيرةِ العرب إبّان القرن السابع للميلاد، تمَّتِ الإجابةُ عنه بطريقة حاسمةٍ: فالحب الكاملُ (أو المِثاليّ) غيرُ مَعِيش؛ لأن المجتمع هناك كان له بالمرصاد يُعيقه، ويَمنع قيامه. ولا ريْبَ في أن الأٌقوال النفيسة أقوالٌ عاليةُ الشعريةِ في جميع الأحوال، وتقوم دليلا على روعتها وفعاليتها معاً.

إنّ الاستفهامَ الأخير في هذا الإطار يكمن في الآتي: لماذا انطلاقاً من ‘مجنون’ الأصُول، وتحت اسمٍ بعَيْنِه هذه المَرّة يمتاز، إذاً، هذا المجنون من الأبطال الآخَرين؟ لقد اخترع الفُرْس ‘المجنون الصوفي’ (Le Majn’n mystique)، وانتقل منهم إلى الأتْراك، ثم إلى الآداب العربية، ويمكن أن يُفهَم على أنه عِشق الشاعر الذي يستحيل صورة لمُناداة شيء خفيّ رمزي للمرأة نفسِها. و لكن ماذا عن ‘مجنون’ أحمد شوقي؛ الشاعر الدرامي المصري، والذي قُدِّم على خشبة المسرح. إن موضوع القيم الأساسية لأمة عربية تسير، إذاً، في اتّجاه التصريح بهُويتها وإثباتها! وبخصوص مجنون إلْزا (Fou dElsa)، ماذا يقال، بالتأكيد، عن ماضيه الرّوحي/ الصُّوفي، وإلاّ فإنه سائرٌ عكسَ التيار؟ إنه يقرُّ، إذاً، بالسعادة .. نعم بالسعادة، ولكنْ ليس هنا فقط ولا الآن! وفي الجهة المُقابِلة، يُشدِّد ‘المجنون الثّوري’ (Le Majn’n r’volutionnaire) لأراجون (Aragon) على السعادة .. نعم على السعادة، ولكنْ يَلزم حصولُها بسرعة البرق وللجميع فوق هذه البَسيطة.

وفي الختام، هل بالإمكان أن نلخّص، بعُجالة، كائناً متعددَ الأشكال أيضاً؟ إن مفتاح ذلك، بلا شكّ، يكمُن في البحْث في نمط أصْلي كان يُعْرف بالبطل الجاهز في سياق آخر، عن ‘الإنسان بلا خُصوصيات’ (Lhomme sans qualit’s) لموسيل (Musil). والمجنون الأول، كما اخترَعَه العربُ، يقدّم لنا صورة فارغة؛ أيْ مفتوحة إلى غير حدّ، عن الحرية؛ حرية الحُب، وحرية الاعتقاد، وحرية العمل. وكل هذا موجود في المنبع منذ المبدإ، ومُعَدّ، كما يلاحَظ من خلال الأشكال الموضوعة حول المجنون على مرّ القرون، لقيام صَرْح أسطورة، وإبداع قصائد أخرى، ربّما لم تقُلْ كلمتها النهائية بَعْدُ! وعلى أيٍّ، كيفما كان مستقبل ‘المجنون’، فإنه يجعلنا لا ننسى أبداً أقْدم ‘مُعْجزة’ أنشأها هناك فقطّ؛ في صحراء العرب، وانتشرت مِنْ فَوْر نُشوئها غرباً وشرقاً!

الهوامش:

1- لمزيد من التفاصيل، يمكن الرجوع إلى كتاب ‘المجنون وليلى – العِشْق الأفلاطُوني’، تأليف: أ. ميكال و ‘. كيم’، دار سندباد، باريس، ط. 1984 – كتاب ‘الحب القصيدة (أنطولوجيا شعر المجنون)’، تأليف: أ. ميكال، دار سندباد، ط. 1984 كتاب ‘ليلى، فكري، رواية’، تأليف: أ. ميكال، دار لوسوي، باريس، ط. 1984.

2- يُنْظر في هذا الشأن كتاب ‘شعر الحب عند العرب’ للطاهر لبيب الجديدي، مطبعة سنيد (Sned)، الجزائر، ط. 1974.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى