صفحات سورية

‘المحاسيم’ في سورية: قصص لا تصدق من بحر الظلمات

أحمد كالو

بنى الأسد الأب سورا اشد من سور برلين وأعلى من سور ذي القرنين بين السوريين من جهة، وبينهم وبين الحرية من جهة ثانية، وعاشوا بغلاصم اسمها البونات (أصلها كوبونات)..

لكل شيء بونات ، للسكر والرز والمازوت و’المعارضة’ حاليا.. والسوريون من أكثر الأقوام بلاء وإبداعا حسب شهادات كثيرة، فهم أصحاب أول أبجدية، وأول انقلاب عربي، وأول دكتاتورية جمهورية ديمقراطية ذئبية في الكرة الأرضية التي ازدادت دحوا بعد تولي الأسد رقاب السوريين مدة نصف قرن بالحديد والنار التي يعبدها المجوس. سورية كانت معملا مستمرا للحواسيم تحت سنابك حكم الأسدين الاب والابن: حواسيم بين المواطنين وحواسيم بين المحافظات (فهذه موالية وهذه معادية) وحواسيم بين الدوائر الإدارية وفروع الأمن الشبحي، وحواسيم طبقية بين فروع الدراسة الجامعية، وحواسيم بين الأب القائد وأبنائه الذين كانوا يحلمون ليس بلقائه وإنما بظهوره على التلفزيون، فالرجل اقتبس واحدة من أهم صفات الله عز وجل الذي حاول الحلول فيه وهي صفة ‘الغيب’!!

‘المحسوم’ هو الحاجز في اللغة العبرية التي هي واحدة من اللغات العروبية والتي سماها مؤرخ غربي اسمه شلوتزر سنة 1781 تسمية أسطورية هي ‘اللغات السامية’ من غير برهان عقلي أو وثائقي. الشبه بين النظام السوري والاحتلال الصهيوني’يزداد أسبابا ودلائل: تدمير، وفيتو مضمون من الاستعمار الروسي وفصل عنصري ذكي و’جلا جلا’ اسمها الدراما أو صناعة الحكايات البصرية لتخدير الجماهير النائمة في البيوت عن المقاومة والممانعة.. والشبه الأكبر بين إسرائيل ونظام ‘اسدائيل’ أن كلاهما باطنيان بفارق أن الاحتلال الصهيوني مقنع بثوب الحداثة والعقلانية الزاهيين. في المدن السورية تنتشر الحواجز بكثرة، وأسماء الحواجز مشتقة من المكان فهو ‘الحاجز الشمالي’ أو ‘حاجز المطاحن’ أو حاجز ‘الموت الأحمر’.. أول اختناق لي في الحواجز، كان بسبب استعجالي، فلكسب عشر دقائق بعد العودة من عملي، ركبت سيارة زميلي عبدو حتى أصل إلى موعد الإفطار في رمضان وليس متأخرا خمس دقائق، كما يحدث في سيارة العمل الحكومية ذات النمرة الخضراء. وقفت على حاجز دوار باب تدمر في حمص نصف ساعة، فقد ذهبت هوياتنا ‘بوناتنا الشخصية’ إلى براثن الحاسوب’وهناك رقدت في فرنه لتشوى على نيران برنامج اكسل، وغالبا ما يكون الخباز جاهلا أو بطيئا أو بخيلا بالحرية على العابرين المستعبدين. خرجت البطاقات أخيرا، وقد ضاعت مرة إحدى البطاقات من غير أن يكترث بها عسكر الحاجز، ضاعت.. كيف ضاعت. ضاعت يعني ضاعت .. وكان معنى ذلك ان صاحب الهوية سيضيع في الحاجز القادم .. ولم يشفع لنا أن ركاب السيارة أربعة نصفهم من الطائفة العلوية الكريمة (والنصف الثاني من الطائفة السنية التي لا احد يتكرم عليها بصفة الكرم؟) أي أنهم يمثلون ‘الوحدة الوطنية’ بأجلى صورها. نجونا.. فليس لنا أسماء في القائمة السوداء لكن الضابط الذي ردّ لنا ‘الهويات’ بدا مترددا وراغبا في اعتقال احدنا، اعتقالي أنا، والسبب مجهول وفي علم الغيب، ربما سببه نظراتي المتهمة أو المتشكية أو الساخطة، ربما هو سرّ في هويتي… أفرج عنا أخيرا، بعد أن قلّب الهوية بيده، وقذفها لي قذفا.. فعدت إلى البيت مثخنا بالخوف والتعب، كان ذلك في الشهر الاول من الثورة، عندما كان التعذيب حتى الموت سنة مؤكدة وأصلا وقاعدة.. نمت من غير إفطار وبكوابيس كثيرة بعد المحسوم الذي سامني أنواع الرعب. خذ هذا المثال: مرة استأخر سائق من سائقي النقل الداخلي هويته في فرن ‘التفييش’ وقال للجندي الذي كان يعرض اسمه لنار برنامج اكسل: يا أخي اسمي غير موجود. لا تعذب حالك.

فنظر إليه الجندي مذهولا من بسالته الانتحارية، كيف يتجرأ سوري ويطالب بهويته، أليس مكوثه على الحاجز حجا ومكرمة.. ثم صاح فيه: هه .. سأضيف اسمك الآن .. أصبحت مطلوبا. واعتقل السائق في الصندوق الحديدي تاركا الركاب في لجة البحر المحيط..

ينفذ المواطن من خروم حاجز فيعلق في شباك المحسوم الذي بعده، لكن الحرية والحاجة، وكسب القوت اليومي وتفقد الأهل المقصوفين أمور تدفع السوري إلى الحركة بعد التوكل على الحي الذي لا يموت. من المستحيل المكوث في البيت في سبات امني. قليلة هي البيوت التي نجت من الدهم والتفتيش. وليست كل الحواجز بالسماكة ‘والحقارة’ نفسها، فهنالك حواجز تكتفي بالنظر والتقدير السريع وعليه تقرر فتح الطريق، وهناك محاسيم تصاب بالتعب والإرهاق ويمكن أن يخطئ العابر أو السائق، طامعا في شرود الجندي المرابط على المحسوم فيمشي ظانا أن الطريق مفتوح فيطلق عليه الحاجز النار طلقات تحذيرية لعبوره من غير إذن، فتتسبب الطلقات بالرعب والفزع في الشارع والمدينة كلها. إطلاق النار ليس امرأ سهلا، وان غدا عاديا بعد سنة ونصف من الحرب، على الشعب الذي تجرأ وطالب الجلاد بإطلاق عنقه من النير الذي أدمى روحه.

ويمكن أن أتذكر اعتقالات مجانية على هوامش المحاسيم؛ مثل اعتقال فراس ابن صديقي، عبد العظيم، وهو شاب فارع القامة، في الصف الحادي عشر، كان يعبر حاجز التربية في حمص متجها إلى المدرسة، فأوقفوه وسألوه ما إذا كان قد اعتقل ؟. فأمر الضابط باعتقاله، لأنه لابد لكل حمصي ذكر بالغ ان يذوق طعم الاعتقال فمكث في السجن ثلاثة أيام، في ضيافة الأمن السياسي، نائما على البلاط المبلول، مرعوبا، ولا يعرف ما اذا كان سيخرج حيا أم سيموت تحت التعذيب لأن كنيته عبد العظيم، لكنه خرج بعد ثلاثة ايام فقط لا غير، وهذا يعني انه محظوظ جدا، أكثر من بيل غيتس ومواطنه ستيف جوبز.. لقد خرج حيا، أما أهله فقضوا الأيام الثلاثة أشباحا، من غير طعام، يقتاتون على الأدعية فقط لا غير. لكن زميلا له، ومن نفس عمره، ومن العائلة نفسها، أو بالأحرى من فرع العائلة المصاهر، تعرض للموقف نفسه، على الحاجز نفسه: طلب الحاجز هويته وما اذا كان يحمل في جيبه ‘فلاشات” فأصيب الفتى بالخرس من شدة الرعب. الفتى لايزال حرا، ولم يعتقل ثلاثة أيام أو ثلاث ساعات لكنه الآن اخرس، وعائلته تدور به على ما يتاح من أطباء النفس الباقيين غير النازحين والرجال المباركين لفك عقدة لسانه التي اصيبت بالصمت والخرس.

أظن أن الفضيلة الوحيدة للطاغية الجونيور بشار الأسد هو انه كان سببا في زيادة إيماني بالله، وإقبالي على العبادة، والأذكار والصلوات، فانا أصاب بالكلل والتعب من الأدعية وأنا اعبر المحاسيم، واستبشر عندما أرى عساكر بدواً على الحواجز، فهم اقل احتفاء’بالانتساب الطائفي من الجند العلويين الذين يقلبّون البطاقة الشخصية ظهرا لبطن ويضربون أخماسها بأعشارها، ويكادون يلتهمون لحم البطاقة من شدة ..الوجد.

العساكر على الحاجز ليسوا في شهر عسل، ربما يستحقون الشفقة؟ فهم يقفون على أرجلهم اوقاتا طويلة وتتعرض الحواجز إلى القنص والقصف من قبل الثوار في الليل وأحيانا في النهار، وهم يتعرضون إلى الجوع والعطش والبرد والشمس وقد تسربت شهادات من أطباء في المشافي أن عساكر في الحواجز اسعفوا وهم يهلوسون من شدة الخوف.

روح السوري في ‘هويته’.

قبل الثورة كانت إضاعة البطاقة الشخصية مشكلة كبيرة تعادل الخيانة الجزئية، وكسر الهوية في الجيب بسبب الجلوس أو الاصطدام وإعادة طباعة بطاقة شخصية تحتاج إلى عدة أيام نحسات (تحقيق في مخفر ومختار حارة وشهود..) فالانتماء إلى أمريكا التي يعبر فيها العابر- مهما كانت جنسيته – بالسماء أسهل من الانتساب إلى هوية سورية الأسد التي تقدم المقاومة والممانعة إلى المواطن السوري. فالسوري ما أن يذهب إلى أي مكان في العالم، عربيا أو أجنبيا حتى يضربوا له التحية لأنه مقاوم وممانع، وهو لا يحتاج إلى العمل، أو الهجرة، فهو يستطيع ان يعيش على ريع المقاومة والممانعة!!. لا يكتفي السوري بحمل هوية واحدة فهناك هويات جانبية مثل هوية العمل وهوية الطالب والهوية العسكرية.. والمحسوم لا يكتفي عادة بالهويات فلا بد أن يحاور العابر ليكشف دخائله وأسراره. المحاسيم السورية تحب الحوار استجابة لطلب النظام السوري الذي بات فجأة من عشاق الحوار على ضفاف الدردنيل.

والمحاسيم تدرك أهمية الهوية، لذلك تقوم عناصر الحواجز بكسر هويات طلاب جامعيين مختارين لأنهم ينتمون إلى مناطق وأحياء ثائرة. وهذا يعني حكما بالسجن في البيت او في السجون الكثيرة . لكن يمكن طرح هذا السؤال اللعين: لم صنعت البطاقة الشخصية السورية (الهوية) من مواد زجاجية قابلة للكسر؟ لمَ لم تكن مرنة مثل شعارات النظام السوري الذي كان عروبيا ثم صار سورية ثم هاهو يصبح روسيا وفارسيا؟ السوري هو المواطن الوحيد في العالم الذي يضع هويته في حافظة سميكة شفافة لحمايتها من الكسر والتلف والأعين الحاسدة؟ فإذا كسرت، او تعرضت لفقدان العذرية بسبب التلوث او التعرض لشمس الحرية، خسر المواطن شرفه، واعتبر فاقدا للحقوق المدنية إلى حين؛ قد يكون أسبوعا أو شهرا أو عمرا. وربما سجن.. فكيف يستهين هذا الناكر للجميل بهوية دولة مقاومة وممانعة يطمع جميع سكان الوطن العربي والمجموعة الشمسية بمن فيهم ابن الكلب اندريه بارو وهو اركيولوجي قال: لكل إنسان متحضر وطنان؛ وطنه الام وسورية. ونسي هذا الرجل او لم يكن يدرك ان نصف السوريين نازح ومهاجر ومنفي (قبل الثورة) ونصفهم الباقي او العاجز عن الهجرة بلا حقوق بشرية. كيف يسمح السوري لبطاقته بالكسر استهانة بهوية بلد يقوده شاب متواضع بشوش خفيف الظل لم يحدث أن ولدت النساء مثله قط؟ بلد يستحق ان يقود العالم !!

الدهم والدحم:

تعرض بيتنا الذي أقمت فيه بعد هربي من حارتي إلى تسع مداهمات وكلما دوهم قلت لنفسي لابد أنها المرة الأخيرة؟ ثم اقترحت على سكان البناء أن يتركوا باب المبنى مفتوحا، وان يكتبوا على بوابة المبنى ‘الدوار الشمالي’. وقد عشنا لحظات رهيبة من الخوف، وتعرضنا لصنوف شتى من الإذلال المركز والدلال الطارئ الرخي الظليل، والدلال هو أن يطلب الضابط الإذن بالدخول وان يطلب منا تبليغ الحريم في الداخل بقدومهم الميمون!

ومن الدلال: ليس أن يظهر إذن النيابة بالتفتيش فلا نيابة في سورية ؟ وإنما أن يلاطفنا بطلب صندويش أو كأس شاي. أما اكبر مفاجآت الدهم التي رأيتها فهو أن ضابطا صعد وحيدا من غير حارس إلى الطابق الثالث ليجد الشاب إحسان مصابا وجريحا فقد أطلقت عليه دبابة قنبلة مسمارية، وهو يحاول إسعاف احد المصابين، ومن الغريب ان الضابط ترك الفتى إحسان الذي يواطئ عمره السادسة عشرة من غير اعتقال شبه مؤكد ، بل من الموت تحت التعذيب في الاقبية ؟، وأعيانا التفسير فإما أنه تركه لأنه ضابط سني المذهب، أو لأن أم إحسان بكت كثيرا وهي ترجو الضابط وتحلف له أن ابنها أصيب بالقنبلة وهو يشتري علبة دخان لأبيه، ولا علاقة له بالثوار والمظاهرات؟ أو أن الضابط ما كان ليتركه لولا انه صعد وحيدا تاركا العناصر في الأسفل. فالعناصر تقوم بوظيفة الاستخبار إضافة إلى الحماية ؟ فيما بعد اعتقل إحسان على احد المحاسيم عدة ساعات وبقي يذوق صنوف الركل واللكم إلى أن أحضرت أمه دفتر العسكرية لتثبت لهم أنه لم يدخل سن السحب إلى الجيش بعد، وانه لا يزال طالبا، في البكالوريا. خرج إحسان مقلوع الظفر (كان اظفره البنصر الطويل مغريا بالقلع). بعد ثلاثة أيام التحق إحسان بالجيش الحر. وهو يقول: الموت على الجبهة خير من الموت تحت التعذيب. وشهادة في سبيل الله أفضل من شهادة ثانوية عامة .

حاجز الكفار:

قتل احد حواجز مدينة الحولة بضعة عشر نفرا من سكان مدينة الحولة فاقسم الثوار على تحطيمه، ولو كلفهم حياة كل المجموعة، وشنوا عليه هجوما كاسحا واستطاعوا هزمه ودحر الحاجز ونتفه نتفا، وأسر الضابط المسؤول عن الحاجز وكانت المفاجأة أن الضابط سني، وقد سأله زعيم الثوار المهاجمين سؤالا واحد لا غير: من هو ربك؟

لا زلت أعيش في حمص واعبر الحواجز، أمس وضع احدهم يده على صدري وسأل: هل أنت خائف؟

قلت والخوف يعصف بي. باحثا عن أفضل جملة منافقة: لمَ أخاف وانتم تسهرون على راحتنا. أسعده الجواب فأطلقني.. احد أعضاء الوفد الأخير المكون من ستة أشخاص قابلوا سكرتير بشار الأسد، وهو مسيحي، كشف دخيلته وصرح قائلا: أنا أحس بالعنصرية على الحواجز؟

سأل السكرتير: العنصرية؟

قال: عندما اقنع الحاجز أني مسيحي وأريهم الصليب (هويته لا تكشف مذهبه وطائفته إلا لأبناء المدينة) يمرروني ويتركون السني محجوزا.

القذائف لا تزال تسقط على الأحياء القديمة، فتئن الخزانات فوق الاسطح مثل الطبول، وتولول زمامير السيارات الحديدية من شدة الضرب.. أخرج إلى السطح وأنظر إلى حمص، إلى المدينة التي استطاع شعبها خداع الطاغية الجبار تيمورلنك بظرفهم، فالمعروف أن الحمامصة استطاعوا حماية مدينتهم من النهب والتدمير بارتداء الأزياء بالمقلوب، وكان ذلك في احد أيام الأربعاء، لكنها لم تستطع بذخيرتها من قنابل الباذنجان ورصاصات البامياء، ولافتات النكات إضحاك الأسد الذي رأينا انيابه بارزة من أول يوم .. فظننا انه يضحك.

*كاتب كردي سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى