مراجعات كتبممدوح عزام

المحسن والأخ الأكبر/ ممدوح عزام

 

 

حين تُرجم كتاب كولن ولسون “المعقول واللامعقول في الأدب الحديث” في الستينيات من القرن العشرين، لم تكن رواية الروسي يفغيني زمياتين، “نحن”، قد ترجمت إلى العربية بعد. وعلى الرغم من إشادة ولسون بالرواية الروسية، وتأكيده على أصالتها، وسبقها للأعمال الروائية الغربية التي قاربت موضوع الاستبداد، فقد امتنعت الثقافة العربية عن ترجمتها، دون أن نعرف الأسباب، إلى أن صدرت عن وزارة الثقافة السورية، في عام 1994 بترجمة يوسف حلاق.

أذكر أنني حين أنهيت قراءة الرواية تبادر إلى ذهني السؤال التالي: من منهما يمكن أن يستمر في تاريخ العالم: زمياتين أم ستالين؟ أما ستالين فقد أورث العالم سجلاً من القمع، والتصفيات، والاستبداد. أما زمياتين فقد أورثه سلسلة الروايات الكبيرة التي تحدثت عن الطغيان والاستبداد، لا في روسيا، التي شهدت عهوداً من كم الأفواه، وقمع حرية التعبير، طوال سنوات عمر الاتحاد السوفييتي، بل في العالم كله، حين ظهرت استجابات روائية لرواية زمياتين “نحن” في الأدب الانجليزي، على يد كاتبين معروفين هما: ألدوس هكسلي، في روايته “عالم جديد شجاع” وجورج أورويل في روايته “1984”.

ورواية زمياتين أسّست لما عُرف باسم: الأدب المضاد لليوتوبيا، وأظن أن الروائي كان يتكهن، بحسّه الشاعري المرهف، وهو الرجل الذي عادى الطغيان القيصري، بوادر انحراف الثوريين في بلاده نحو الفكر الشمولي، بسبب من الرؤى اليوتوبية التي كانوا يخططون بها للمستقبل، وعلى الرغم أيضاً من تصريحاته في المنفى الفرنسي الذي اختار أن يبقى فيه إلى حين وفاته، أن روايته كانت تقصد هجاء الآلة والدولة معاً، وليس الدولة وحدها.

قراءة الرواية تثبت أن الدولة الجديدة التي بناها الشيوعيون الروس، كانت هي المقصودة من رواية “نحن”، ومن المنطقي ألا تكون هجاء للآلة في مجتمع لم تكن الآلة قد شكلت فيه بعد قوة ضاغطة يمكن أن تحاصر الإنسان، كما في المجتمعات الصناعية المتقدمة. والدليل أن النظام الشيوعي في الاتحاد السوفييتي منع نشر الرواية هناك طوال الوقت، ولم ينفع تصريح الروائي في “خداع” السلطة اليقظة التي تراقب المجتمع والأدب والفن، وتلاحظ حركة الرفض، أو الاعتراض على سياساتها التي تهدر قيمة الإنسان. فلم ينشر النص الروسي الكامل إلا في عام 1988، بينما كانت الرواية قد ترجمت إلى الإنكليزية والفرنسية منذ عشرينيات القرن الماضي.

وفي الرواية تظهر شخصية “المحسن” الذي يحوّل الدولة إلى أرقام: “وعلى كل من يأنس في نفسه القوة والقدرة أن يكتب بحثاً، بياناً، قصيدة أو أي شيء آخر في جمال الدولة الواحدة وعظمتها…عاشت الأرقام، عاش المحسن!”. والمرجح أن تكون شخصية المحسن نموذجاً لشخصية الأخ الكبير في رواية جورج أورويل”1984″.

لم يحسم التاريخ بعد الجواب عن سؤالنا، إذ على الرغم من زمياتين، وأورويل من بعده، على الرغم من نهج الرواية المضاد لأكاذيب السياسيين، فإن المجتمع البشري ما يزال ينجب الطغاة الذين يأتون متلبّسين بصورة “المحسن”، أو “الأخ الكبير”.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى