براء موسىصفحات مميزة

المخابرات المعشعشة في رؤوسنا


براء موسى

خيّل إليّ ذات مساء من أحد أيام التخفّي عن عيون الأمن «الساهرة»، وأنا في منزل بأحد أشدّ المناطق شعبيّة وصخبا، أن اسمي قد ذُكر عند «سمّان» الحارة ، والذي لا يبعد عن الغرفة التي أقبع بها سوى أقل من خمسة أمتار، وعلى حدّ علمي أنه ما من أحد يعرف اسمي في ذلك المكان، واكتفى الجيران بمناداتي بلقب «أستاذ» في الحالات النادرة التي حصل فيها كلام غير السلام،

في الواقع كانت لحظات رهيبة من الخوف، وبدأت أصغي السمع أكثر وأنا أحبس أنفاسي، تكرّر الاسم «الحقيقي» مرّة ثانية …لا شكّ في ذلك، وليس هناك من الثواني إلا قرار سريع…

هل أقفز من النافذة؟ بارتفاع طابق واحد؟

سخف الفكرة كان ينبع من كون كل الشبابيك في المنزل على بعد أمتار قليلة من صوت التساؤلات القريبة

إذاً هو القدر الذي لا فرار منه

أوّل ما فعلته بسرعة وتلعثم كان أن نزعت «الهارد» من «ِكايْس الكومبيوتر» نزعاً ورميته على السقيفة آملا أن يقع في خزان المياه..

السقيفة؟

لا أعرف كيف خطر لي بسرعة أنّها المكان الذي قد يمنع القدر المحتوم ، وسيكسبني لحظات إضافية تؤخر القدر، وتصعب مهمتهم في القبض عليّ..

كان جرح غياث مطر مازال غائرا في حنجرتي، والألم مازال ساخنا

أطفأت بسرعة «الموبايلين»… بل إنني نزعت البطاريتين وألحقتهما بالهارد، لم يعد الوقت يكفي سوى للصخب والضجيج الهادر… وبقفزة واحدة كنت قد أصبحت في السقيفة…. يعوّل المرء في مثل هذه الحالات على حظٍّ من السماء لينجو تماما كالغريق وأمله في القشّة..

بعد إغلاق باب السقيفة المليء بفتحات التهوية التي يتسرب منها الضوء، والخوض في مستنقع الأشياء العفنة على تلك السقيفة، والعمل على إيجاد حيّز ضيق للاختباء وراء بقايا مدفأة كهربائية معطّلة، والتستّر «بشوية قراقيع»….منها قرقعة «بواري» مدفأة مازوتية….. بدأ عمل «المخ» في التقييم في صراعات مذهلة على أملٍ ما في غبائهم واليأس الذي يكويني وأريد إبعاده،

..طبعة قدمي على الاسمنت الأبيض وأنا أصعد إلى السقيفة « بعد المشي الحافي على بلاط متسخ» كانت الدليل الذي سيمنع غباءهم من الاستطراد في آمالي الخائبة…

…والحذاء المتروك جانب أسفنجة النوم الوحيدة كأثاث وحيد في المنزل،

وفوق كلّ ذلك …المفتاح الموضوع بالقفل من الداخل و»مفتول نصف فتلة» كي لا يستطيع أي مفتاح على ولوج القفل أصلا…

حسنا…

السيناريو هو بعد أن يكسروا الباب، أو ينزعوا القفل بطريقة ما ، هو ان يكتشفوا مكاني منذ بداية الاقتحام ، ثم التهديد بالسلاح لكي أتخلّى عن هذا «الوكر» الصغير ، وهنا سيشتعل التفكير بصورة جامحة لتنفيذ خطّة قديمة ….هي مواجهة الموت بعد استفزاز المهدد «ببصقة» على وجهه، لتختزنها ذاكرة موتي الذي أريد له الكرامة.

أبتسم الآن عندما أتذكر أنني كنت أفكر بأن بصقة واحدة ستمحو كلّ خطاياي

هل سأتراجع عن القرار في اللحظة الأخيرة بفعل الخوف؟…هل سأتذلل وأترجّى مهددي كي يبقي على حياتي؟

– تشجّع يا رجل…وافعل ماكنت تحلم به طويلا بالموت بكرامة…همست لنفسي قراري الأخير

الصخب والضجيج يزدادان وها هو صوت المثقب يفعل فعله في قفل الباب ، وزخّات العرق تهطل منّي بطريقة الذوبان.. لا التعرّق

الضجيج والصخب والصراخ لا يتيح للمرء فهم تفصيلات صغيرة ينصت إليها، وساقاي يرتجفان مما يصدر خشيشا في «قفل قشاط البنطلون»، وكل نفس يخطئ في هدوئه يصدر قرقعة من البواري اللعينة، والبحصات الصغيرة التي صادف قعودي عليها تؤلم في اللحظات التي أتذكر وجودها.

هناك لعنة ما تصيب الخائف المرتعد من الصعب شرحها، يتوقف العقل عن التحليل الموضوعيّ، بينما يعمل بسرعة مكثفة في تفاصيل الخوف المبعثرة، تذكّرت كلّ أقربائي الموتى الذين لم أحزن عليهم بالتوقيت ذاته للحزن، كان الحزن يحفر في نفسي ليبدأ عندما ينسى الآخرون، أحسد ذاتي على رباطة الجأش التي تعتريني عند الشدائد فأبدو كعقل من دون قلب، لأراكم في الأحزان ذخرا تتزوّد منه الكآبة في لحظات الوحشة القاتلة.

أظنّني سيطرت على حالة الرجفان «التي لابدّ ستفضحني» بأن تكورت أكثر ضامّا ركبتاي الى يديّ تاركا حبّات العرق الغزيرة تسيل على العيون وتدخلها، كلّ مسحة لليد على الجبين تكلّف رجفة صاخبة في هذا الحيّز الضيّق جدّا..

في السقيفة ثمّة «طاقة« (نافذة صغيرة للتهوية) تقابل «طاقة« سقيفة الجيران…وكلّ الآمال معلقة بأن لا تحصل مصادفة أن يتنبّه الجيران على من قد يحسبوه «تلصصا»….»يا ربّ أحسن خواتيمنا»، فالتنازلات وصلت لحدّ تمني الموت المشرّف في مكان لن يعرف به الخلود أو التاريخ لترك تراث ربّما كان له صدىً لدى الأبناء، بصقة على وجه تافه سيبادلها برشقة طلقات في أحسن الأحوال، وسيمسحها بكمه ولن يتذكر من تفاصيل نذالته ما يرويه لأحد…..

خزّان المياه له غطاء سيصدر جعجعة فيما لو فكّرت بإصرار لإغراق «الهارد« والموبايلين، تذكّرت كل سخرياتي على من يهجسون بمراقبة الموبايل وكأنه آلة تسجيل أو جاسوس تحمله بكلّ وداعة حتّى إلى لحظاتك الحميمة،» الحلبيّون مجانين، ومصابون بلوثة الرقيب الأمني المحفور في عمق لا شعورهم»…..هكذا كنت أردد على الدوام….أين طارت هذه القناعات ؟؟ وكيف تسيطر عليّ الآن فكرة تحديد مكاني من قبل موبايل منزوع البطاريّة ولماذا أتحسس خزّان المياه بين كلّ فينة لأتخلص منه يا لسخرية القدر منّي..

الأصوات المتداخلة في المبنى تصعّب الحكم فيما لو كانوا قد انتهوا من إجراءات فتح الباب بالمعاينة لا بالكسر،…..لماذا لم يكسروه ضمن كلّ هذا الضجيج؟؟ وهل هي طريقة لتحطيم أعصاب الضحيّة؟ لم أشكّ في ذلك لبرهة قبل أن يأتيني صوت مألوف….»شدّ حيلك واصبر»

….يا إلهى….هذا صوت أختي الصغرى! الأنذال هل أتوا بها أيضا لتدلّهم على مكاني؟

هي أصلاً لا تعرف المكان…..شابّان فقط يعرفان أنني هنا أحدهما مسافر….هل أمسكوا بصاحب البيت يا ترى؟!

أنفاسي المضطربة جدّا أحدثت قرقعة في البواري بسبب انفراج ركبتاي المضمومتين إلى صدري، وإلى هنا لم يعد في الصبر متّسع لأي اضطراب ….رفست المدفأة، وفتحت الباب بعنف وقفزت إلى الأرض بقدميّ الحافيتين ولعلّ الدماء التي نفرت من بطن قدمي جعلتني أصحو من كابوس يقظة حقيقيّ جدّا، كانت آثار الدماء تطبع مع كلّ خطوة إلى باب «الصقاق»، ولا يزال المتاح «مفتولا» داخل القفل، والجيران يتصارخون بصخب، والمسألة كانت مجرّد «تشابه أسماء مع واحد من أبناء الجيران كما استنتجت فيما بعد، وربمّا لاتزال طبعة أصابع القدم على الحائط الاسمنتي الأبيض، إذا نجا ذاك المنزل من القذائف والبراميل…أما أنا …فقد نزحت بعيدا هذه المرّة…

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى