صفحات الحوار

المخرجة السورية ندى الحمصي: أمشي وأنا أحمل الوطن على ظهري

 

 

المسرح نبوءة والفنان فيه نبيٌّ صغير

سامر محمد إسماعيل

سنوات عدة مرّت على التجمّع الفني للإيماء الذي عملت فيه مع المخرج رياض عصمت بدمشق؛ عندها اقتربت الممثلة والمخرجة المسرحية ندى الحمصي من حساسية خاصة في صياغة محترفها على الخشبة، لتقدم بعدها عروضاً لافتة في العالم العربي، كان أبرزها «نساء في الحرب» تأليف وإخراج جواد الأسدي؛ فيما قدمت مع فرقة «كاكتوس بلويم» في بلجيكا عرضاً بعنوان «الربيع الأسود» من تأليف وإخراج حازم كمال الدين؛ لتقدم بعدها عرضها عن اغتيال المخرج السوري مصطفى العقاد بعنوان «آخر خمس عشرة ثانية» ولتتفرغ للعمل اليوم مع فضاء الثقافات المتعددة في أونتاريو بكندا، دامجةً في عروضها التي تقدمها بلغات عدة بين ثقافة الشرق والغرب، الجنوب والشمال، فالمسرح بالنسبة لهذه المرأة الدمشقية قدرة خلاقة للعيش بحرية وخارج أي مصادرة على اللعب البريء على الخشبة..

] كيف ترك فن الإيماء أثره على عملكِ كممثلة ومخرجة مسرحية في ما بعد؟

^ تأثير فن الإيماء على أدائي المسرحي عموماً كبير جداً، لقد تعلمتُ النبضة وتوسيع الحركة ومفصلة أجزاء الجسد وتنظيف الحركة؛ بدايتها ونهايتها، واستخدام تعابير الوجه والنظرة إلى الجمهور، أضف إلى أن الإيماء ساعدني على التحكم بالإيقاع والكثير الكثير من التكنيك الذي كان صعباً جداً في حينه؛ ولكنه «أي البانتومايم» خدمني فيما بعد، رغم أنني لم أعد أقدم أعمالاً إيمائية؛ إلا أنني أتدرب أحياناً وأستخدم خبرتي في أدائي المسرحي بشكل عام.

] من مسارح دمشق إلى مسارح العالم حملتِ طرافة وطفولة خاصة في شخصيتكِ؛ وحافظتِ على توازنكِ في عالم يتغيّر بسرعة.. برأيكِ هل مازال المسرح يصلح اليوم كمهنة؟

^ شخصياً لا أعرف من المهن سوى مهنة المسرح، وهي في سوريا مختلفة عنها في اليابان ومختلفة عنها في كندا، ولكن كان لا بد من أن أتمدّد على شكل الإناء الذي يحتويني، هنا في كندا تختلف طريقة التفكير وطريقة الإنجاز؛ بل وطريقة التعامل. كان لا بد لي أن أتغير لأتشكّل مع الوضع الحالي، واكتشفتُ أنني كنت مخطئة في بعض طرائق تفكيري التي اكتسبتُها من سوريا، بالطبع كان عليّ أن أغيرها. وكان عليّ أن أتقبل طرق التفكير والتعامل التي هي أحياناً لا تعجبني أو لم أكن معتادة عليها.. وفي ما بعد أصبحتُ امرأة كندية وسورية في آنٍ معاً. لقد أزال الابتعاد عن الوطن معاني الأشياء بالنسبة لي، أو بعضها على الأقل، كل شيء أصبح أقل قيمة، خفتت الابتسامات والضحكات وأصبحت الحياة (ميكانيزم) لا بد منه، الفرح عندي قليل؛ يأتي كلمحات سريعة معظمها له علاقة بعملي في المسرح، أمشي وأنا أحمل الوطن على ظهري، لا خلاص منه، في أي حديث أو عمل أو متابعة ثقافية. هنا في كندا لديّ أصدقاء المهنة، وهم جميعاً شخصيات راقية وزملاء رائعون، ولكن عنف العواطف وعنف العلاقات غير موجودين، ما زلت أذكر تلك الفرحة الغامرة التي كانت تعتمرني في دمشق حينما يرن جرس بيتي فأفتح الباب ليقابلني وجه صديقتي (شيرين ميرزو) مبتسماً لي. شيرين ماتت ولكنها حيةٌ في قلبي، لقد غادرتُ الوطن مع تاريخ وفاتها تقريباً وراح كل شيء معها، أنا أذكر هنا أمثلة ورموزاً. والحديث عن الغربة والفقدان والغربة لا ينتهي..

في المغترب

] قدمتِ عروضاً عديدة عن العنف الذي تتعرّض له المرأة العربية.. برأيك هل يستطيع المسرح أن يكون أداة لتغيير وخلخلة القيم السائدة في المجتمعات التي تعملين على تقديم بحوثك الفنية عنها؟

^ في المجتمعات العربية؟ دعني أتحدث عن المجتمع السوري، لم يكن رواد المسرح السوري سوى تلك القلة من المثقفين والفنانين الذين حاولوا أن يقودوا المجتمع باتجاه ثقافاتهم هم؛ ولكن المجتمع السوري مجتمع تقع فيه قوى متناقضة ومرهقة؛ وفوق كل ذلك؛ فإن خيبات من تحقيق العدالة – سواء العدالة الداخلية أو العالمية – جعلت الإنسان السوري يتقهقر باتجاه التدين بأمل أن ينقذه الله وأن يكون لعذابه معنى. الإنسان العربي عموماً لا يضع المسرح أو الفن في «أجندته» والفرد في سوريا يتابع ما تمليه عليه الدولة؛ وما يتلاقى مع برنامج العائلة ككل، فتراه كان يتابع في ما مضى بنشاط معرض دمشق الدولي ومهرجان بصرى؛ فهنا يمكن له أن يذهب ويأكل ويتحدث وتتحرك مشاعره وغرائزه من دون أي جهد فكري أو تحليلي، ولكنه لا يتابع مهرجان المسرح العربي أو مهرجان السينما العالمية؛ لأن هذه المتابعات ليست بالضرورة ممتعة له؛ فهي متابعات ثقافية تتطلب الصمت والصبر والمتابعة والتحليل والشعور بالقلب والتفكير بالرأس؛ وهذه مهمات مرهقة وفوقها لا تستطيع أخذ الأطفال وأكل الساندويش والثرثرة، مما يجعل هذه الأنشطة الثقافية بحلّتها الاستعلائية أثقل دمّاً، أضف إليه أن هذه المتابعة ستضيع جهداً ووقتاً ومالاً عليها! الثقافة بقالبها الذي تقدّم فيه في سورية غير موجودة أصلاً في برنامج الإنسان العادي؛ مثلما تتواجد خطبة الجمعة وعظة الأحد في برنامجه؛ ومثلما يتواجد المسلسل التركي مثلاً. الكثير من الناس لا يعرفون أصلاً ما هو المسرح؛ وكثيرون جداً ومنهم يقع على رأس سلطة آمرة يظنون أن الفنان المسرحي إنسان نطاط مخبول يستمتع بالتمثيل كالأطفال. لطالما سمعتُ عبارة (أنا أساعدك) حين كنت أقوم بالتجهيز لعمل فني، كانوا يساعدونني، وأحد منهم لم يخطر له أن هذا ليس بمشروع لمتعتي الشخصية؛ وإنما أنا أسخّر نفسي وخبرتي التي اكتسبتها بجهد من أجل مشروع فني. بصراحة لا.. لا أعتقد أن المسرح يمكن أن يغير ويخلخل إلا إذا صاحبته رؤية جادة من الجهات الرسمية؛ بحيث ندرّب أطفال المدارس على احترام الفن وعلى ضرورته في الحياة البشرية والحضارية للمجتمع.

] ما هي طبيعة الأعمال المسرحية التي قدمتِها في بلاد المغترب واشتغلتِ على تطويرها؟

^ سرعان ما ربيّتُ سمعةً طيبةً كمسرحية سورية؛ وأصبحتُ جزءًا من الوسط المسرحي في (أونتاريو)، خصوصاً بعد ثلاثة أعمال قدمتها هنا، الأول والثاني كانا من إنتاج (تجمع الثقافات المتعددة) وهما «آخر خمس عشرة ثانية»، و «الجسد رقم 13». العمل الأول تناول موضوع الإرهاب في حادث تفجيرات عمان ومقتل مصطفى العقاد وابنته ريما العام 2005. أما العمل الثاني فتناول موضوع القابلية للتغيّر واكتساب الحياة الجديدة والحب عبر الاختلاف؛ لاسيما في ما يخص المهاجرين الى كندا، في حين كان عرضي الثالث هو (سلطان باشا) وهو عملٌ كتبته وقدمته باللغة الانكليزية وترك أثراً لدى الناس حيث أعيش. أقول في نهاية هذا العرض بعد أن أترك شخصية (زوجة السلطان) لأعود إلى شخصية ندى: «تقول لي أمي: لا تقلقي يا ندى، لقد هاجمنا البربر وأحرقوا مكاتبنا؛ ولونوا أنهارنا بلون الحبر، وتحررنا منهم؛ هاجمَنا الصليبيون ثماني مرات، هل تسمعينني يا ندى؟ ثماني مرات، كانوا يتطلّعون إلى الدم والذهب تحت اسم الدين، وتحرّرنا منهم؛ احتلنا العثمانيون أربعمئة عام ، شنقوا المدرسين على الأشجار التي كانوا يدرسون تحتها الصغار، وتحرّرنا منهم. احتلت أميركا العراق، أحرقت المكاتب الأثرية ولوّنت الأنهار بالأسود والأحمر، اغتالت الفلاسفة والفنانين والعلماء تحت اسم الديموقراطية. والآن تحتل إسرائيل فلسطين، تسرق الأرض والثقافة، تبيد الفلسطينيين تحت شعار (حق الوجود) وسوف نتحرر منهم.. لا تقلقي يا ندى؛ وينتهي العمل وأنا أغني: تربة وطنّا ما نبيعا بالذهب؛ دم الأعادي نجبله بترابها». ذكرتُ كل تلك التفاصيل لكي أبين ماذا أريد أن أقول للجمهور الكندي الذي هو الآن جمهوري، تلك هي مسؤوليتي في المسرح، أن أوصل رسالة حيثما حط بي المسرح. كنتُ دائماً أقول إن المسرح نبوءة صغيرة وأن الفنان نبيٌّ صغير..

] «اسمي داخل فرَج» هو عنوان عرضكِ المسرحي الذي قدّمته مؤخراً عن أحد المهاجرين العرب.. إلى أي حد يمكن للمسرح كفن التدخل في قضية اللاجئين والمهاجرين العرب؟

^ في البداية دعني أتحدث عن تأسيس المسرح العربي الكندي العام 2013 بمساعدة من «فضاء الثقافات المتعددة» أي من مجدي بو مطر المدير الفني لتجمع الثقافات المتعددة؛ ومني أنا ندى الحمصي حين قمنا بمساعدة مجموعة من اللاجئين العراقيين في مسرحية (شلال في تورنتو) وكان على رأسهم الفنان داخل فرَج. وقتذاك شدتني قصة (داخل فرَج) في الحرب على العراق حين قتل الأميركيون أطفاله وأباه وأطلقوا النار على قدميه. وقتها قررتُ أن أحوّل قصة (فرج) لمسرحية؛ وبالفعل أخذتُ تفاصيل الحكاية من (داخل) وكتبتها نصاً مسرحياً بعنوان: (اسمي داخل فرَج) وهي قصة الفنان العراقي اللاجئ الى «كتشنر»؛ ثم حصلت على تمويل وأخرجتها للخشبة، على المسرح كان هناك ثلاثة ممثلين قدموا الحكاية أداءً وسرداً بلغاتٍ ثلاث، العربية والانكليزية ولغة الإشارة.

] اليوم أين أنتِ من مسرح الأمس وفرقه السورية الكبيرة في دمشق وحلب وحمص وسواها؟

^ اليوم أعيش في كندا، ممثلة وكاتبة ومخرجة ذات سمعة مسرحية طيبة، لقد عملتُ مع العديد من الفِرق هنا؛ وعلى رأسها فرقة «فضاء الثقافات المتعددة» ودعني أقل: إنني أُقدّم سورية عبر وجودي في المجتمع الكندي؛ ومن خلال عملي في المسرح العربي – الكندي الذي أحمل مسؤوليته. أجل أقدمُ سوريا لكندا فسوريا تعيش في داخلي؛ ويعتصرني ألم مبرّح لما جرى ويجري لوطني. الحقيقة لم أعد أستطيع تقديم شرح مقنع لنفسي، هل هم منّا؟ ومهما كان انتماؤهم فهم أخوتنا في البشرية؛ فكيف حصل ما حصل؟ وكيف استطاع إنسان أن يقتل أو يعذب أخاه الذي يحمل اسمه!

] كيف تصفين لي تواصلكِ الفني مع التجارب المسرحية في العالم العربي؟

^ طبعاً على المسرح، هنا أعمل كممثلة في واحدة من أهم المؤسسات المسرحية فنياً في كندا، تجمع الثقافات المتعددة بإدارة فنية من مجدي بومطر، نقدم أعمالنا في مهرجانات عديدة في مدن كندية ومقاطعات عديدة. قام تجمع الثقافات بعملين من إنتاج مشترك مع «مسرح بابل» في بيروت، وكانــت بعنوان (نساء في الحرب) تأليف وإخراج جــواد الأسدي؛ ومع «كاكتوس بلويم» في بلجيكا وكان العرض بعنوان (الربيع الأسود) من تأليف وإخراج حازم كمال الدين. أكثر من مهرجان مسرحي عربي واظبتُ على حضوره خلال فترة تواجدي في كندا؛ أي أنني لم أنقطع تماماً عن العمل مع المسرحيين العرب؛ سواء في أماكنهم في بلد عربي أو حتى في بلد المهجر؛ وهذا يجعلني في حالة ذهنــية متوثبــة دوماً سواء في المشاركة أو حضــور العرض؛ لا فرق، المهم أن تستمر كفــنان يعمل للمسرح في تربية قدراتك وتدليــكها بالفرجــة الدائمة، حيث لا أخرج من المسرح إلا إليــه؛ ولا أعود منه إلا للتفكير فيه.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى