صفحات الحوار

المخرج هيثم حقي:كنت مع الشعب الليبي بكل جوارحي في ثورته


لم يستطع العاملون في الصناعة الدرامية والسينمائية التقاط نبض انتفاضة الشعب السوري

 أعلنت استيائي من إرسال نقابة الفنانين دعوات لتظاهرات موالية للنظام

 حاورته : سمر الزريعي

هو المخرج السينمائي الذي قذف بأكثر من حجر في مياه الدراما العربية بشكل عام والسورية بشكل خاص؛ ولأنه كذلك فقد انحاز للمستقبل وللشعب؛حيث مثلت بعض أعماله الإرهاصات الأولى لما تعيشه سوريا الآن. ضيفنا كاتبٌ ومخرج ومثقف من محيط الجمال والدهشة المنتقاة بعناية اللغة التي طوعتها أنامله ليحيلها إلى وشي من الذهب والحنكة الخالصة.

 «هيثم حقي ».. أب الدراما السورية أو رائدها؛ إن قلنا بأنه أب الدراما السورية فإننا هنا نتذكر له هذا الغيض من فيض الأعمال التلفزيونية والسينمائية والبرامج والأفلام التسجيلية التي أخرجها أوكتبها أو أنتجها والتي منها: ذكريات الزمن القادم؛ خان الحرير؛ دائرة النار؛ هجرة القلوب إلى القلوب؛ صور اجتماعية؛ الدغري؛ موزاييك؛ الثريا؛ رماد وملح؛ سيرة آل الجلالي؛ الأيام المتمردة؛ ردم الأساطير؛ قوس قزح؛ عز الدين القسام؛ بصمات على جدار الزمن؛ التجلي الأخير لغيلان الدمشقي؛الليل الطويل؛ ملابسات حادثة عادية..إلخ.

 والآن نترككم مع المخرج الكبير «هيثم حقي » وهذه المساحة التي خص بها «صحيفة البلاد الآن .»

ماذا تعني هذه الأماكن لهيثم حقي؛ مدينة النور؛ موسكو؛ بيروت؛ القاهرة؛ أثينا؛ ألمانيا؛ دول الخليج؛ دمشق؛ حلب؛ دير الزور؟

 _ هي مدن عشت فيها مُدداً متفاوتة: دير الزور التي من فراتها ورحبتها خرج أبي، هي مدينة طفولتي..حلب التي من قلعتها جاءت أمي، هي مدينة صباي..موسكو مدينة تعلّم السينما والانغماس في عالم الفن الحقيقي..بيروت، القاهرة، دول الخليج، أثينا، كلها أماكن عملت فيها وعشت فيها سنة أو سنوات من العمل على مشروعي في الدراما التلفزيونية..أما دمشق فهي المكان الذي قضيت فيه أطول فترة من حياتي)أكثر من ثلاثين عاماً( وفيها حققت مشروعي السينمائي والتلفزيوني، وفيها كل الصداقات والمشاريع المشتركة مع عدد من أصدق المثقفين الساعين لسوريا أفضل…أما باريس )مدينة النور( فهي المكان الذي قضيت فيه كل إجازاتي منذ ما يزيد عن العشرين عاماً، وهي المدينة التي اخترتها للعيش بعد تجاوزي الستين من العمر..لكن دون توقف عن العمل فأنا كنت أتنقل بين دمشق وباريس لمتابعة أعمال شركتي…لكنني اليوم، وبسبب موقفي المؤيد للثورة السورية، متوقف عن العمل تقريباً…فأنا أكتب في باريس سيناريو فيلم ومسلسل بانتظار التغيير الذي يسعى إليه السوريون.

 كرائد للدراما السورية؛ وبعد هذه التجربة الغنية هل تشعر بأن المخرج هيثم حقي حقق ما يصبو إليه؟

 _ في الدراما التلفزيونية السورية لم أتخيل في أقصى أحلامي أن نصل إلى ما وصلنا إليه،من حيث انتشار هذه الدراما عربياً، ومن حيث تحمس الجمهور العربي للشكل الفني المتميز لدرامانا التلفزيونية والذي حين بدأته في مسلسل)دائرة النار( لم يكن أحد يقبل به حتى في سوريا، أي لم يكن أحد يوافق على أن تصور المسلسلات بكاميرا واحدة وفي الأماكن الحقيقية وبلغة سينمائية راقية تتجاوز الشكل التقليدي الشبيه بالمسرح المصور، وأكثر من ذلك لم أكن أتصور أن يتجاوز مشروعي في استخدام اللغة السينمائية الراقية في الدراما التلفزيونية حدود سوريا ليصل إلى مصر قلب عاصمة الدراما العربية التقليدية. لكن مشروعي السينمائي الذي أعمل عليه منذ أربعين عاماً لا يزال بانتظار التغيير الحقيقي في سوريا ليؤتي أكله؛ ورغم أنني حققت اختراقاً في هذا المشروع بإنتاج أربعة أفلام في سوريا وفيلمان في مصر، إلا أنني لم أستطع أن أستفز الشركات السورية لإنتاج عشرين فيلماً، والتي أؤمن أنها قدرة سوريا على إنتاجه سينمائياً كل عام .

هل يعتبر «هيثم حقي » ربيع دمشق عام 2000 بمثابة الإرهاصة الأولى «للربيع العربي » وكيف يقرأ المثقف «هيثم حقي » سبق ربيع دول عربية أخرى؛ ماكانت قد بدأته دمشق قبل عشرة أعوام؟

 _ لاشك أن الحركة الديمقراطية السورية كان لها صدى في الثورات العربية اللاحقة وخاصة ربيع دمشق ورنين اسمه مع ما أطلق عليه الربيع العربي. لكن بالنسبة للسوريين. هناك قبل ربيع دمشق حركة ديمقراطية مهمة في سوريا في النصف الثاني من السبعينيات، تم إخمادها في صراع النظام مع الإخوان المسلمين والتي استغلها النظام لضرب اليسار والديمقراطيين والمعارضين الذين نجحوا في السيطرة على النقابات والعديد من المنابر كالنادي السينمائي والنشاط المسرحي وملحق الثورة الثقافي وبعض الأفلام والبرامج التلفزيونية التي كنا نقدمها كمجموعة معارضة..وقد بدأ هذا التحرك فعلياً عام 1976 ببيان المثقفين السوريين ضد دخول القوات السورية إلى لبنان لقمع الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية؛ وقد توقفت هذا الحركة بعد سجن العديد من رموزها ولسنوات عديدة وصلت للعشرين عاماً، ولم تستعد زخمها إلا مع نهاية التسعينيات في مرحلة الإعداد لتسلم «بشار الأسد » الرئاسة، والذي تم تسويقه كرجل الإصلاح والتغيير من دولة الاستبداد إلى الدولة التعددية الديمقراطية. وقد انخرط المعارضون في سوادهم الأعظم بما عرف بربيع دمشق وقبلوا بالانتقال السلمي للسلطة… لكن حين تكشفت وعود الإصلاح عن عودة للنظام القديم نفسه، مع استشراء للفساد أدهى وأكثر وحشية، بدأت حملة الاعتقالات وتكميم الأفواه…ورغم ذلك كتبت عام 2004 مقالا في جريدة الحياة بعنوان “الإصلاح والمعارضة الديمقراطية » أؤكد فيه أن لا إصلاح دون معارضة قوية، فتلقيت لوماً من السلطة واستحساناً من المعارضة. لكن حملة الاعتقالات للمعارضين البارزين أعادت الإحساس بانسداد الأفق، وعدنا من جديد لمحاولة تمرير الأفكار الديمقراطية عبر الأعمال السينمائية والتلفزيونية وبعض المقالات المتفرقة؛ لكن يوم 15 آذار »مارس 2011» ، يوم انطلاق الثورة السورية، أعاد حماس نضال السبعينيات ونشاط ربيع دمشق إلى الحياة وانفتحت طاقة نحو الخلاص في الأفق المسدود. بجيل جديد يحمل بداخله تراكم نضالات من سبقه ومتأثراً بالموجة الجديدة من ثوار الربيع العربي.

 كيف يفسر «هيثم حقي » انحياز شريحة واسعة من الفنانين السوريين إلى النظام؛ في حين أن الفن هو تعبير عن هموم وقضايا الناس في مواجهة التغوُّل المالي والأمني والاستبداد السياسي؟وماذا تقول لهؤلاء “الفنانين ؟»

 _ أعتقد أن هذا غير صحيح فقد أصدر الفنانون السوريون في بداية الثورة بياناً وقّع عليه أكثرية من يُحسبون اليوم على النظام طالبوا فيه بتلبية نداء الناس إلى الحرية. لكن الأمن أجبر العديدين منهم على التراجع تحت شعار سقف الوطن والذي فسّر بأنه الرئيس، وقد كتبت وقتها أنني لا أحب تعبير سقف الوطن، فالوطن برأيي لا سقف له، وهو مفتوح على الهواء والشمس والحرية، واليوم أعتقد أن عدداً كبيراً من الفنانين السوريين هم مع التغيير من النظام الشمولي إلى نظام تعددي ديمقراطي لكنهم يختلفون على الوسائل، وبالطبع هناك من دفع ثمناً غالياً من انحيازه لثورة الشعب السوري، هناك من خسروا بيوتهم وأعمالهم، وهناك من سُجن ومن استشهد. وأعتقد أن النظام هو من روّج لأسطورة اصطفاف الفنانين معه، بالتركيز على نجمين أو ثلاثة دون بقية الممثلين والمخرجين والكتَّاب والشعراء والرسامين الواقفين بغالبيتهم مع الثورة وإنّ صَمت بعضهم خوفاً من بطش النظام وحلّه الأمني.

 سبق أن قلت «الكتابة بدأت عندي قبل الإخراج، وهي جزء من مشروعي » ماذا تحقق من هذا المشروع؟

 _ قلت هذا عن علاقتي بالفن، فقد كنتُ أعبّر بواسطة الكتابة وأنا في الثانوي. لكن حين قررت أن ما أسعى إليه في الحياة هو الإخراج السينمائي، استفدت من الكتابة لدعم مشروعي السينمائي والتلفزيوني، فعدا عن السيناريوهات التي كتبتها، أنا أتدخل وأناقش الكتَّاب الذين عملت معهم ونصل إلى تفاهمات وتعديلات بسبب علاقتي بالكتابة أيضاً، وبالطبع قمت في بعض الأحيان بإعادة كتابة الأعمال )الوسيط، عزالدين القسام، فيلم ملابسات حادثة عادية.. إلخ(،أو على الأقل قمت بتعديل بعضها، كما أني طرحت أحياناً فكرة العمل على كاتب وتابعت عملية الكتابة والنقاش معه بشكل يومي، وهذا حدث في عدد من أعمالي المعروفة، أما ما تحقق فهو انتشار طريقتي في استخدام الكاميرا الواحدة والتصوير في الأماكن الحقيقية والتنظير لذلك في كتابي «بين السينما والتلفزيون » وتحقيق الفكرة عملياً بإخراج ما يفوق عن العشرين مسلسلاً و 22 فيلماً تلفزيونياً وفيلمين سينمائيين طويلين وخمسة أفلام قصيرة والعديد من البرامج. كما تحقق بإنتاج ستة أفلام سينمائية و 15 مسلسلاً لصالح عدة محطات أغلبها لأوربت، وكل هذه الأعمال كانت تنطلق من موقفي الديمقراطي الاجتماعي والذي لم أحد عنه أبداً، كذلك ما تحقق من مشروعي هو هذا الجيل من خيرة المخرجين السوريين الذين تعلموا المهنة بعملهم معي، والذين يستكملون اليوم المشروع بحرفية وفنية عالية.

 مسلسل «ذكريات الزمن القادم » هل كان قراءة مبكرة لما تعيشه سوريا حالياً؟

 _ أعتبر أني قدمت مجموعة كبيرة من الأعمال التي كنت أصنفها في مشروعين النهضة المجهضة والديمقراطية الاجتماعية، وقد صنف العديد من النقاد مسلسل «ذكريات الزمن القادم » وفيلم «الليل الطويل » الذي كتبته وأخرجه المبدع «حاتم علي » وفيلم «التجلي الأخير لغيلان الدمشقي » الذي كتبته وأخرجته، صنفوا هذه الأعمال وغيرها منذ «خان الحرير » و »سيرة آل الجلالي » ضمن إرهاصات الثورة السورية. أو كما تقولين كقراءة مبكرة لما تعيشه سوريا اليوم. وهذا يسعدني حقاً، رغم أني أعتبر أن كل ما فعلته في الفن والحياة هو من أجل سوريا دولة مدنية ديمقراطية تعددية برلمانية بتداول للسلطة وبمواطنة متساوية أمام قانون عادل.

 أي عمل يتناول القضية الفلسطينية لا يجد الحماسة لدى الفضائيات العربية المهمة، هل هذا هو السبب في ندرتها؟

 _ معك حق نسبياً في شأن الأعمال الفلسطينية والمحطات الفضائية العربية. لكن مع ذلك حقق “التغريبة الفلسطينية « لحاتم علي و »الاجتياح « لشوقي الماجري نجاحاً منقطع النظير. وبالنسبة لي لم تغب عن أعمالي القضية الفلسطينية أو ما أسميه القضية الوطنية السورية )احتلال فلسطين واستيطانها، وحروب العرب التي أدت إلى احتلال كامل فلسطين وسيناء والجولان وجنوب لبنان، والعراق(. فمنذ فيلم «مهمة خاصة » مروراً بفيلم «الأرجوحة » و «عزالدين القسّام »إلى «هجرة القلوب إلى القلوب » و «الأيام المتمردة » و «ردم الأساطير » لتصل أخيرا إلى «ذكريات الزمن القادم » و «زمن الخوف » الذي أنتجته وأخرجته ابنتي إيناس، كانت القضية الوطنية )الفلسطينية السورية اللبنانية العراقية( دعامة أساسية للعمل الدرامي ولموقفي الواضح باعتبار سوريا أولا جزء أساسي من بلاد الشام والرافدين والتي يسعى الديمقراطيون الاجتماعيون إلى اتحادها، اتحادٌ لدول ديمقراطية بمواطنة متساوية؛ وثانياً بالسعي لتحقيق العدالة التي هي أساس الفن الصادق.

 «بصمات على جدار الزمن « » حرب السنوات الأربع » ماتزال في ذاكرة الليبيين؛ ماذا تقول في هذه التجربة، وكيف تقيّم الفنانين الليبيين الذين شاركوا في تلك الأعمال؟

 _ الكاتب الراحل «داوود شيخاني » كان له أسلوبية متميزة في إيجاد حبكة درامية اجتماعية مع الحفاظ على الحدث السياسي؛ وقد نجح في هذين المسلسلين بخلق هذا التوازن والحفاظ على الدراما مع الحديث عن السياسة؛ وهذا برأيي سبب نجاح هذين العملين، بالإضافة لوجود مجموعة من أفضل الممثلين والفنيين السوريين واللبنانيين وبالطبع الليبيين؛ وقد كان اكتشاف بعضهم في أدوار رئيسة بالنسبة لي مصادفة سعيدة ولازلت أحتفظ بذكرى طيبة عن تصويري لهذين العملين في الاستوديو بأثينا وفي مصراتة الرائعة في ليبيا.

 كتبت «منذ بدء الانتفاضة السورية لا يصلني من نقابة الفنانين سوى رسائل قصيرة تدعو الفنانين للخروج في مظاهرات مؤيدة »، هل يرى «حقي » أن هذه النقابة ومثلها في كل أنظمة الاستبداد تعبر عن مصالح الفنانين؟، وهل دور هذه النقابات هو حمل المبخرة لتلك الأنظمة؟

 _ أعلنتُ استيائي من إرسال نقابة الفنانين في سوريا دعوة للفنانين لتظاهرات موالية للنظام؛ وهو أمر ليس من اختصاصها؛ فالفنانون فيهم الموالي وفيهم المعارض ويستطيع كل منهم اختيار الموقف السياسي الذي يريده؛ لكن هذه النقابة التي هي من المفروض أنها تحمي الفنانين لم تحتج يوماً على اعتقال وملاحقة الفنانين بسبب آرائهم السياسية؛ وهذا النوع من النقابات تحوّل إلى مراكز يتحكم فيها الأمن، وهذا غير مقبول في أي نقابة مهنية فكيف بنقابة تمثل أرقى المهن الإبداعية؛ وقد بدأ السوريون بتشكيل نقابات بديلة، نقابات حرة، كرابطة الكتَّاب ورابطة التشكيليين وتجمع أمارجي وغيرها.

قلت «لا أقبل التنازل عن الحد الذي أعتبر أن التنازل عنه سيسيء للعمل الذي أقوم به »؛ لو أخذ هذا الموقف من قبل الجميع؟ كيف برأيك سيكون عليه حال الدراما السورية والعربية ، رغم التقرير بتميز الدراما السورية؟

 _ نحن نعمل في ظروف صعبة جداً في ظل الاستبداد، وبالطبع نتوخى الحذر كي لا تمنع أعمالنا؛ لكنني عملت دائماً على الخط الأحمر مع محاولة إزاحة جدار الرقابة الصلد؛ ولأني أعرف ما أريد، وأعرف أيضاً صعوبة تحقيق ما أصبو إليه مباشرة فقد قدمت بعض التنازلات التي تمرر العمل دون الإساءة إليه؛ لكنني في بعض الأحيان كنت أفشل في حساباتي فيمنع العمل؛ ومع ذلك لم أكن أتوقف وأنتقل لعمل آخر ولمحاولة جديدة من الالتفاف على الرقابة؛ وبالطبع هذه ليست تجربتي وحدي فهناك العديد من السينمائيين والتلفزيونيين السوريين الذين تمرسوا في هذه «اللعبة ». أما لِمَ لا يأخذ الجميع هذا الموقف، فهذا ناتج عن أن الفنانين يقفون أمام خيارات ولكل خياره؛ لكن الأغلبية تختار أن تسير “الحيط الحيط وتقول ياربي السترة .» وهناك من ينظّر إلى عدم تحميل الفن أي فكر، فالفن للتسلية؛ وهؤلاء ليسوا قلة.

 ماذا تقول في تجربتك المصرية؟ وهل أنت على استعداد لتكرار ذلك؟

_ كانت تجمعني بالراحل «أسامة أنور عكاشة » مودة واحترام متبادل وكذلك بالفنانة الكبيرة «سميرة أحمد ». فحين عرض عليّ مشروع “أحلام في البوابة » الذي يجمعهما معاً وافقت، رغم أن مشروع عملي في مصر طرح منذ ثلاث سنوات قبل ذلك ولم يتوفر المشروع المناسب، خاصة أني كنت أول مخرج سوري يعمل في الدراما المصرية، التجربة كانت ممتعة لكنها كانت صعبة جداً، فقد وجدت مقاومة شديدة من الفنيين والإنتاج لطريقتي. ولولا دعم أسامة أنور عكاشة وسميرة أحمد لما أكملت العمل، والذي ما كان لينتهي لولا تقديمي لبعض التنازلات. أما عن إعادة التجربة فبالطبع ممكن، خاصة بعد التحول الكبير في العقلية الإنتاجية والفنية في مصر وتفهم «طريقتنا السورية » في الدراما،لا بل أصبح هناك العديد من المخرجين المصريين الذين يعملون على استخدام الطريقة السينمائية في عملهم.

 ماذا أخذ المثقف المخرج «هيثم حقي » من والده الفنان التشكيلي الراحل؟ وما هي الرسالة التي يمكن أن يبعثها إليه الآن؟

_ أبي إسماعيل حسني حقي كان من أوائل الفنانين التشكيليين السوريين الذين درسوا في أكاديمية الفنون في روما أوائل الخمسينيات، وقد كان فناناً مبدعاً حقاً وأستاذاً لجيل من الفنانين السوريين الذين أبدعوا وأصبحوا جزءاً من الحركة التشكيلية السورية المتميزة، أبي كان بالإضافة لفنه موسوعة ثقافية متنقلة، وقد شكّل هذا بالنسبة لي تحدياً حقيقياً للحاق بقامة ثقافية مثله، كذلك أورثني حبه الكبير للسينما، ما أقول له اليوم، ولا بد أنه يعرف فروحه معي منذ رحيله المبكر عام 1980 ، أقول له أنت ورثتني هذا الشغف العظيم بالفن وأنا بدوري أورثه لولديَّ العاملين في المجال نفسه «إيناس وسعد » إنها سلسلة لم تنقطع، فلا تقلق.

قلت “أنا مخرجٌ سينمائيٌّ في الواقع » هل تعتقد أن الدراما التلفزيونية ظلمت المخرج السينمائي هيثم حقي؟

 _ حين توقفت عن العمل السينمائي لصالح الدراما التلفزيونية نهاية السبعينيات كتبت أني أقوم بخطوة إلى الوراء في مجال السينما من أجل خطوتين إلى الأمام في مجال الدراما التلفزيونية، أي أنني أتراجع في لغتي السينمائية بسبب الظرف الإنتاجي التلفزيوني من أجل التقدم في اللغة نفسها في مجال الدراما التلفزيونية. ولأكون صادقاً كنت أحس بأسى لهذا التراجع، لكن جماهيرية مسلسلاتي الأولى وانتشارها جعلني أركّز على تطوير لغتي السينمائية في العمل التلفزيوني، وكانت النقلة النوعية بالنسبة لهذا الموضوع هي تصوير 4 ساعات خارجية وبالكاميرا المحمولة، القادمة حديثاً من أجل الأخبار،في مسلسل “عز الدين القسّام ». وبدأت أكتب وأنظّر لتغيير الظرف الإنتاجي لأن العمل الدرامي التلفزيوني يصنع باللغة نفسها التي يصنع بها الفيلم لكن دون إمكانياته الإنتاجية. وقد حدثت النقلة الثانية في مسلسل “حرب السنوات الأربع » ثم “ غضب الصحراء » لتصل إلى ذروتها في “دائرة النار »، اليوم حين أنظر لما أنجز أحس بأن التضحية التي أقدمت عليها كسينمائي ساهمت بإنشاء صناعة الدراما التلفزيونية لبلدي، والتي تعتبر واحدة من أهم الصناعات السورية. وأشعر أني لم أتخل عن سينمائيتي بل وظفتها في مكان آخر، ومع ذلك كنت أعود للفيلم دائماً كما في «صور اجتماعية » و »موزاييك »، والآن في “ التجلي الأخير لغيلان الدمشقي » و »الليل الطويل » وبقية الأفلام.

 بعد أكثر من عام ونصف على انتفاضة الشعب السوري، كيف يرى »هيثم حقي » المشهد الفني في سوريا؟ وإلي أين يتجه؟

 _ لم يستطع العاملون في الصناعة الدرامية والسينمائية التقليدية التقاط نبض انتفاضة الشعب السوري، لكن أشكالاً رائعة للتعبير الفني أوجدها جيل من الشباب، مستفيداً من وسائل الاتصال الحديثة وتقنيات التصوير المتوفرة من الموبايل إلى الكاميرات الصغيرة، ليصبح هؤلاء هم المعبرون الحقيقيون عن فن الثورة تصويراً ورسماً وغناءً، والأمثلة كثيرة: صوت ابراهيم القاشوش، الذي انتزعت حنجرته انتقاماً، وهو ينادي سورية بدها حرية، أو ما صوره الشهيدان باسل شحادة وتامر العوام… مع آلاف الفيديوهات واللافتات، خاصة لافتات كفر نبل الذكية، الشعب السوري وسط الدمار والموت يصنع فناً جديداً، فن محبة الحياة “إذا ما استطاع إليها سبيلا .

 » مطاردة الفنانين أصحاب المواقف التي انحازت للناس؛ألا تشكل عدواناً فظاً على أبسط حقوق الإنسان؛ وهي لقمة العيش؟ وما هي رسالة «حقي » إلى هؤلاء؟

 _ كتبت مقالاً أستنكر فيه ما أصدره عدد من شركات الإنتاج السورية لمنع تشغيل الفنانين الموقعين على ما اصطلح على تسميته بنداء الحليب، وقد استنكرت ملاحقة الناس بلقمة عيشهم وهو أمر لم يحصل في تاريخ إنتاجنا الفني فلم نكن نشغّل الناس حسب مواقفهم الفكرية بل حسب موهبتهم، وقد كتبت: “إن هذه المواقف الغريبة أمر غير مقبول، بخاصة في صناعة تقوم على الإبداع واختلاف الآراء، والمفروض أنها تسبق الجميع إلى ديمقراطية الحوار. »والحقيقة أن هذا الموقف فرضه الحل الأمني، وللأسف فإن بعض ضعاف النفوس استجابوا لذلك.

ما هو حجم الأهمية الاقتصادية لصناعة الدراما السورية في الدخل القومي لسوريا؟ وهل سيتأثر ذلك بما تمرُّ به سوريا حالياً؟

 _ صناعة الدراما التلفزيونية تشغل آلاف العاملين بأجور مرتفعة بالنسبة لدخل الفرد في سوريا، وبالتالي هناك آلاف الأسر التي تعيش بشكل محترم من هذا الدخل، وصناعة الدراما التلفزيونية تعتمد على التمويل الخارجي الذي يُدخل عملة صعبة تقدر بأربعين مليون دولار سنوياً، والأهم أنها قدمت خدمة كبرى لسوريا سياحياً وإنسانياً، فقد أحب الناس أماكن التصوير السورية وأحبوا سورية من خلال الدراما وأحبوا السوريين من خلال الشخصيات الإنسانية التي انطبعت في ذاكرة المتفرج العربي. والدراما التلفزيونية خلقت نجوماً انطلقوا عربياً وقدموا خير دليل على تقدم الإنسان السوري وإبداعه، وبالطبع فقد أثّر ما يجري من قتل ودمار وتهجير على كل العاملين في هذا المجال، فمنهم من هاجر ومنهم من بحث عن تنفيذ عمله في مكان آخر، ورأس المال الممول أحجم عن التمويل، ما يهدد بتوقف هذه الصناعة توقفاً شبه تام.

لقد سبق أن أخرجتم مسلسلات تقترب من الخطوط الحمراء؛ مع أن النظام شمولي بامتياز؟ كيف تقيّم تجربتك التلفزيونية مع الرقابة، وهل سبق أن منعت الرقابة بعض أعمالك؟ ولماذا؟ والسؤال الأهم هل كان النظام يمارس سياسة الاحتواء للفن والفنانين، خاصة ونحن نعيش على وقع هذه الحرب على الشعب؟

 _ كتبتُ وقلتُ على الهواء في أكثر من مناسبة: أنا ضد الرقابة وأطالب بإلغائها. وقد حاولت مذيعة محرجة من جرأتي إن تقول لي أن هامش الرقابة في سورية جيد فقلت لها: لا نريد الهامش، نريد الصفحة كلها، لماذا علينا أن نقبل بالهامش، منذ بداية عملي المبكر عانيت من الرقابة كثيراً حيث منع فيلمي التسجيلي «السد » ولم يعرض إطلاقاً، ثم فيلمي الطويل «ملابسات حادثة عادية » الذي أفرج عنه بعد أربع سنوات لينال جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان دمشق الثاني. ومن يومها وأنا في صراع مع الرقابة من عدم عرض «عزالدين القسام » لسنوات ثم إيقاف نص «خان الحرير » عامين، تلاها ذبح الجزء الثاني في عرضه السوري بحذف مشاهد بكاملها حتى إن إحدى الحلقات حذف منها 20 دقيقة، ثم المونتاج المخزي لمسلسل “زمن الخوف » وآخرها منع فيلم “الليل الطويل » الحائز على ذهبية تاورمينا وذهبية نيودلهي وجائزة نقاد السينما العالميين، ولكي أكون منصفاً، فإن ما كان يحدث حين منع عمل لي أو اقتطاع أجزاء منه، كان هذا دائماً يمرر بخجل واعتذار، بأن ما باليد حيلة، وأن الأوامر هكذا، وإننا نحترم عملك ولكن…إلخ. فقد حظيت دائماً باحترام من قبل الناس ومن قبل لجان الرقابة، ما جعل إمكانية العمل متوفرة دائماً لي، وإعادة الكرة بإزاحة جدار الرقابة تنجح أحيانا وتفشل أخرى، أما الاحتواء فهو موجود، لكن يعرف الجميع أن هناك من هو من الصعب احتواؤه، وقد عبر عن ذلك الصديق الراحل ممدوح عدوان بعنوان أحد دواوينه : “يألفونك فانفر! »

 كيف ترى مستقبل الدراما العربية على ضوء أحداث الربيع العربي؟

 _ تحتاج الدراما العربية لوقت لتستوعب التحول الكبير الذي جلبه الربيع العربي، وستظهر أشكال من التعبير تتواءم مع حجم التغيير الهائل الذي جلبته معها الثورات العربية، لكن الدراما التقليدية التجارية ستبقى هي النسبة الأكبر من الإنتاج، وهذا صفة عامة للإنتاج في العالم إذ يغلب التسلوي على الفن الحقيقي.

ما هو مشروع «هيثم حقي » القادم؟

 _ فيلم «حي الورد » الذي أعيدت كتابته، ومسلسل معاصر من عدة قصص بعنوان “وجوه وأماكن .» كلمة أخيرة من أب الدراما السورية «هيثم حقي » إلى معجبيه في ليبيا؟ _ أتاح لي تصوير 40 يوماً في مصراتة أن أتعرف على الشعب الليبي الطيب، وقد كنت معه بكل جوارحي في ثورته، وأتابع التطور الديمقراطي الحاصل وأسعدتني نتائج الانتخابات الحرة، أتمنى أن تكتمل الثورة وأرى ليبيا دولة مدنية ديمقراطية تعددية برلمانية بتداول للسلطة وبمواطنة متساوية أمام قانون عادل وفصل بين السلطات واستقلالية للقضاء وحرية تامة للتعبير والانتماء السياسي والعقائدي،كما أتمنى جمع السلاح وإبقائه في يد السلطة الشرعية فقط، وأخيراً أحب أن أرى توزيعاً عادلاً لثروة ليبيا الكبيرة وتكريسها لرفاهية الشعب والإنماء المتوازن والعدال الاجتماعية.

في لقاء مع صحيفة “البلاد الآن” الليبية الجديدة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى