صفحات سورية

المدنيون السوريون والمناطق الخضراء

 

إبراهيم الأصيل

تطرح تفجيرات مدينة إدلب الأخيرة سؤالاً جوهريّاً عمّا اذا كان الوقت مناسباً لإدخال هذه المدينة حيّز الصراع بما تؤويه من نازحين. فمع استمرار النظام بالتصعيد من وحشيته وما يولّده ذلك من عنف مضاد، ومع تلبّد أفق الحل السياسي تبرز الحاجة لوجود مناطق آمنة للمدنيين، وبقدر ما هي ملحّة بقدر ما تبدو بعيدة المنال، فالسوريّون انتظروا فرض المناطق العازلة ولكنّ الأحلام تبدّدت مع انكشاف حقيقة موقف المجتمع الدولي وعزوفه عن التدخل المباشر، فسعى الجيش الحر لتطبيقها معتمداً على ما توفَّر لديه من امكانيات. إلا أنّ الحديث عن المناطق الخضراء هنا مختلف عن المناطق العازلة، سواءً من حيث طريقة تطبيقها أو أهدافها.

تهدف المناطق الخضراء لتأمين الحماية للمدنيين عن طريق تحييدها من قبل جميع الأطراف المسلّحة، وتختلف عن المناطق العازلة بأنّها لا تهدف لأن تكون منطلقاً للمسلّحين في هجماتهم، وبأنّها للمدنيين السوريين بمختلف توجهاتهم وانتماءاتهم، سواءً في المناطق الثائرة أو ذات الأغلبية المؤيّدة، وتعتمد على الحاجة المشتركة لدى جميع الأطراف لإبقاء مناطق معيّنة خارج الصراع. وهذا ليس ضرباً من الخيال فالمناطق الخضراء موجودة واقعاً وإن كان بشكل محدود، فهناك عدّة توافقات في إدلب ودمشق وحمص ومنها منطقة الوعر بالإضافة لبعض القرى في سهل الغاب وأخرى في الشمال الشرقي تم تحييدها خارج الصراع المسلّح فلا قوّات النظام تقتحمها أو تقصفها ولا هي تكون منطــــلقاً لمسلّــحي الجيش الحر، وبالمقابل يمتنع الجيش الحر عن مهاجمة بعض المناطق المؤيّدة رغم قدرته على ذلك. أي أنّها ليست مبنية على حسن النوايا وإنّما على المصلحة المشتركة بالأمن وهذا ما يمكن البدء بالبناء عليه.

في تاريخ الأزمات الداخلية تجارب مشابهة للمناطق الخضراء، كثيرٌ منها لم يُفرض بقوّة السلاح بل باتفاقيات وتوازنات، وفي حال غياب ذلك قد يعجز حتى التدخل الخارجي عن تأمينها كما حصل عام 1995 حين اجتاحت القوات الصربية ســـربرنيتسا وقتلت 8000 مدني دون أن تستطيع قوّات حفظ السلام ردّها. فمن الصعب فرض المناطق الخضراء والمالك الحقيقي لمفاتيحها هو المجتمع الأهلي ومجموعات العمل المدني عن طريق المبادرة لعقد مثل هذه الاتفاقيات والضغط على المسلّحين -من كل الأطراف- لتحييد مناطق متفق عليها لإبقائها ملاذاً آمناً للمدنيين وللنازحين من مناطق أخرى.

تطرح الصعوبات والتحديات نفسها بقوّة هنا، فعدم وجود قيادة مركزية سواءً لمقاتلي المعارضة أو لميليشيات الشبيحة يجعل خرق أي اتفاق سهلاً وقد لا يحتاج إلا لمسلّحَين أو ثلاثة يطلقون النار باتّجاه ما، ولكن التجربة تفيد أنّه يمكن الحد من الخروقات أو الرد عليها بشكل تحذيري بما لا يشعل المواجهة الكاملة، خصوصاً مع تدخّل الحواضن الشعبية لاحتواء الموقف. كما أن الشمال والشرق أصبحا بمجملهما قاب قوسين من التحرير، بمعنى أنه قد يبقى هناك مجموعات موالية متفرقة ولكنّ السيطرة المركزية لأركان الجيش وللقصر الجمهوري تتهاوى، وهذا يفتح الباب لعقد صفقات محلية مع هذه القوّات بمعزل عن قيادتها. صحيحٌ أنّ المناطق الخضراء تحتاج لمبادرة سياسية شاملة لتطبّق على المستوى الكلّي، ولكن حريٌّ بالمجتمعات الأهلية أن تبدأ بتداول الفكرة على المستوى الجزئي والمحلّي وتبحث سبل تطبيقها بمناطق صغيرة.

في حال سعى النظام لإفشال هذه المبادرات بشكل عنيف ومباشر وهذا ليس مستبعداً أبداً، فسيزيد من انكشافه أمام مؤيديه وسيدفعهم للبحث عن حل بعيداً عن مظلّته، فميزان القوى العسكرية أصبح متكافئاً ولم يعد بإمكان النظام تأمين مؤيديه وعلينا أن نلمس هذه التغيّرات في المكوّنات الموالية بعد أن أصبح تأمين مناطقهم من مسؤولياتهم، ويجب المراهنة أن غريزة البقاء ستكون أقوى من الولاء لنظام يلفظ أنفاسه الأخيرة أمام أعينهم. كما أنّ صفقة تبادل الأسرى الإيرانيين تؤسس مجتمعياً لتقبّل فكرة المناطق الخضراء من مختلف المكوّنات، حيث أثبتت للثوّار أنّ التفاوض ليس تنازلاً ما دامت الثورة ندّاً تفرض شروطها فيه، ومهّدت له بين الموالين بعد أن تجاهل النظام أسراهم وأمنهم بشكل مفضوح.

ستؤسس المناطق الخضراء ولو بشكل متواضع لبذرة حل، ولا أعني لإسقاط النظام، فالثورة بذراعيها المدني والعسكري قادرة على تحقيق ذلك دون أدنى شك، وإنّما حل لرأب الصدع، فلن يتمكّن السوريون من بناء جمهوريتهم الجديدة في مجتمع منقسم طوليّاً وتسوده رغبات الانتقام، والقتال لن يتوقف بمجرد رحيل أو قتل الأسد وقد يمتدّ ليأخذ منحى طائفياً صرفاً، أو ربما ما هو أسوأ فنصل للمرحلة التي يصفها توماس هوبز ‘بحرب الجميع ضد الجميع’. الحل يبدأ من الأسفل نحو الأعلى، وبحياكة الأجزاء الصغيرة للشبكة حتى تصبح متينة ومتماسكة. الثورة السورية ثورة على الظلم والطغيان وهدفها الاطاحة بالنظام ومحاكمة المسؤولين عن القتل والدمار ثمّ التأسيس لمصالحة وطنية انطلاقاً من المصلحة المشتركة بالعيش والسلم الأهلي، وهذا يمر من المناطق الخضراء وما شابهها من مبادرات. آن للسوريين أن يوقنوا أن الحلول لن تأتي من الخارج، وأنّ عليهم نحتها في صخر واقعهم، وما يبثّ الأمل أنّ تاريخهم أثبت بشكل مستمر أنّهم قادرون على ذلك.

‘باحث سوري في مركز الشرق للبحوث

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى