صفحات الثقافة

المرأة التي بثوب شفيف

 

    وليد تليلي

يتذكّر المرأة التي بثوب شفيفٍ وصدرٍ ضامر بلا حمّالات،

المرأة التي شربت كأسه ولم ينتبه إليها،

وهي تحكي عن عشّاق مرّوا من طاولته ولم يعد منهم أحد:

مهرّب السلاح الذي أقسم برأس ابنته الصغيرة أنّه لا يعرف الرصاصة في ظهر أخيها،

المحامي الفاسد الذي علّمها التدخين،

الجنديّ الذي أخطأ الطريق إلى الحرب وعاد معها ليبحث عن هزيمته،

الطالب الذي ترك البنت في ليل ديسمبر وحيدةً، تتدفّأ على أضلاعها، ولم يتمكّن من الذهاب أبعد من ترتيب الندم.

يتذكّرها الآن، وأصابعه تتصاعد مع السؤال على شكل إيماءات صامتة:

كيف أحبّت، ولم تذق طعم الحبّ وكيف شربت كأسه، ولم ينتبه إليها؟

¶¶¶

ما نسيته هناك

ما تنساه هو الأجمل دائماً،

الأكثر حياة هو ما دفنته هناك،

الأسماء التي سقطت من مفكّرتك حين بدأت الكتابة

التجاعيد الشاخصة إلى السماء في انتظار المطر

الأصابع التي تسقي القمح بالعرق من أجل الخبز

البنت التي تكتب رسائلها بالعطر

الأب الذي طرده صاحب العمل، والبنت التي كبرت في غيابه

حارس المدرسة، عصا المعلّم، الحكايات التي نسيتها في غمرة الدهشة، كلّها بقيت هناك، مع كلّ تلك الأشياء الجميلة التي يخلّفها الأولاد في طريقهم ليصبحوا رجالاً.

¶¶¶

مشهد صباحيّ

سماءٌ لا تخفي شيئًا،

شارعٌ كربطة عنق علّقتها الحضارة برقبة ابن خلدون

هكذا يبدو المشهد صباحًا،

مدينةٌ تجلس في مقاهيها وحيدةً

تنسج من قلقها مطرًا في مخيّلة بوزيديّ يتدفّأ على زيتونته الأخيرة، وامرأةً في بال شاعرٍ يدخّن سيجارته الثالثة على الريق، وتتثاءب، غير عابئة بالبحر الذي أتى لزيارتها.

يبدو أنّ الشارع، رغم ما فيه من هرولة، لن يتعلّم المشي ويبدو أنّها لن تمطر اليوم

وأنّ المرأة التي تطلّ من شبّاكها وتعدّ الجنود، قد نسيت موعدها،

ويبدو، خلافًا لما يظنّ أبو القاسم الشابي

أنّه علينا أن نعود إلى النوم وننتظر الحياة.

¶¶¶

تحرّش

في الليل يحدث كلّ هذا

أرسمك على زجاج النافذة

أنظر إليك ساعة لأرجع طفلا، ويغرق الطريق في غبار الطلع، أنظر إليك ساعة أخرى وتنقص من عمري عشرون استعارة

وأسمع غزالة تثغو على السرير

كلّ هذا الليل يدنو ويبتعد مع أنفاسك: القبلة ورائحة الليمون والخواتم التي فقدت أصابعها والكواكب والقمر

والموسيقى التي تبحث عن ناياتها

كلّ هذا الليل عاشق يقف تحت شرفتك

كأنّي أسوّي شعرك أضيف إلى خدّك الحمرة وإلى صدرك النمش كأنّك تبتسمين

بأصابعك الصغيرة تلوّحين لي من خلف الستائر هامسة:

أطفئ الضوء كي لا تتحرّش بك الساهرات

الضوء شمس تتسلّل إلى الليل

العناق أكثر دفئا من الشمس

خذني وحدي إلى سريرك

ضعني في عينيك

اغمضهما ولا تنم!

¶¶¶

دائرة

هو ليس ثملاً الآن

وبإمكانه إعادة ترتيب المشهد،

ماشيةً معه تحت الشمس إلى بيتك

ولسبب ميتافيزيقيّ ربّما، لم تتعرّق يدك على ذراعه

فيما هو كان يفكّر في القبلة أمام مقهى سمرقند أم في ساحة الشهيد؟ كان يفكّر ان يفعل ما يفعله المراهقون أوّل الحب

كأن يحفر إسمك على جذع شجرة

أو أن يشتري لك عربة رمّان

وينثرها لك على طول الطريق

بإمكانه أن يتذكّر الآن، كيف وصلت

وهو لم يفعل شيئًا، سوى أنّه لا يزل يحلمُ

يحلم أنّ بيتك أبعد من سمرقند

وأن الطريق على شكل دائرة.

¶ مقهى سمرقند: مقهى شعبيّ بولاية سيدي بوزيد

¶ ساحة الشهيد: حيث استشهد محمّد البوعزيزي

شاعر من تونس

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى