تهامة الجنديصفحات الناس

المرأة في الثورة السورية: تأجيل الحقوق وستر العورات

تهامة الجندي

حضور المرأة في قلب الثورة السورية منذ انطلاق شرارتها الأولى قبل أكثر من عامين وحتى اليوم، وتحديها الجسور لمخاطر القمع والقتل اليومي، أكسبها لحظات رائعة من الثقة بالذات والشعور بالتحقّق، وأمدها بمختلف أشكال التعاطف والتقدير، إن كان على مستوى رفاق الدرب، أو على المستويين العربي والدولي، غير أن ذلك لم يُترجم عمليا بحراك مطلبي، مناهض لكل أشكال التمييز والعنف والعسّف التي مُورست بحقها، وما زالت تُمارس، بل إن قضية المرأة بوصفها قضية تحرّر ومساواة وحقوق مدنية، يكفلها القانون ويصونها من التجاوزات، مازالت قضية مؤجلة، وإن حدث وتم تداولها، فهي تُطرح بشكل خجول، وفي أطر ضيقة على اعتبار أن الخوض في جزئيات الحياة ترف لا وقت له في ظل الموت العميم الذي يخيّم على سوريا.

تأجيل القضية إلى ما بعد النصر، أسهم إلى حد كبير في الصمت عن الكثير من جرائم اغتصاب النساء داخل السجون وخارجها، والسكوت عن حوادث إساءة معاملتهن في المناطق المحرّرة، أو الإتجار بهن في مخيمات اللجوء، على اعتبار أنها أمور تجرح العفة وتمس الشرف والسمعة، وتأجيل القضية لم يمنع بعض رجال الدين، ممن باركوا الثورة، من إصدار فتاوى تقيّد حركة المرأة الثائرة، بإملاءات عدم الاختلاط بالرجال، أو تحصر مشاركتها في مجالات بعينها دون سواها، لصون جسدها من أن يتعرض لدنس الإثارة أو اعتداء الشبيحة… حتى كأن الأنثى لا تملك أحقية التصرف بجسدها، أو كأن الثورة السورية لم تكن ثورة من أجل الحرية، أم أن الحرية ليست ماهية وجود وإرادة، إنما هي أجزاء حميدة ومرذولة، يمكن الأخذ منها بحسب الطلب ؟!

الأمر يحيلنا بشكل أو بآخر إلى دعوات الإصلاح الديني والسياسي منذ فجر الحداثة العربية في القرن التاسع عشر، وإلى الأحزاب الليبرالية واليسارية وحركات التحرر الوطني والنظم الحاكمة ذات الميول الاشتراكية والرأسمالية في العالم العربي خلال القرن العشرين. يحيلنا إلى كل هذا المسار الحافل بالشعارات التي ناصرت المرأة، بالتوازي مع قيام الاتحادات النسائية، وظهور مفهوم الجندر، وتوقيع معظم الدول العربية على اتفاقية عام 1979 الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، كل هذا المسار الحافل لم يحرّك الكثير من المياه الساكنة، وإن اختلفت درجات التمييز ومظاهره من بلد لآخر. لأن قضية المرأة لم تُدرج في سلم الأولويات، ولأن حقها المشروع في التحرر والمساواة وتكافؤ الفرص، لم يأخذ بعده المطلبي وصيغته القانونية، بل ظل يدور في إطار الكلام الفضّفاض والمكتسبات الواهية والصور المزيفة، إلى أن صادرته فتاوى الدين.

سوريا كانت أول دولة عربية منحت النساء حق التصويت في خمسينات القرن العشرين، ومنذ السبعينات وحتى نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة طرأ تحوّل نوعي مضّطرد على حجم مشاركة النساء في الأحزاب السياسية، والنضال السري والعلني والحياة الثقافية والفنية. تضاعفت معدلات معرفة المرأة بالقراءة والكتابة، عما كانت عليه قبل عام 1970، وازدادت نسب التحاقها بالمؤسسات التعليمية ودوائر العمل في القطاعين العام والخاص. دخلت السلك الدبلوماسي والقضاء ومجلس الشعب، وتقلّدت منصب القاضية والوزيرة ومستشارة الرئيس، اجتذبها العمل الأهلي، وكان لها إسهامها في “ربيع دمشق” ولجان إحياء المجتمع المدني.

قد يبدو المشهد براقاً من الخارج، تزينه أرقام النمو المضّطرد، وأيقونات النساء في دوائر الدولة وإعلامها، لكن النظرة المتفحصة إلى الداخل، خارج حدود العاصمة، سيما الأطراف والمدن الصغيرة والأرياف، تكشف وضعا كارثيا، مقارنة بفترة ستين عاما من تجارب التنمية والتحديث، في دولة تدعي العلمانية، حكمتها الأحزاب الليبرالية، ثم القومية ذات الميول الاشتراكية. فحتى قيام الثورة السورية في آذار 2011 ، لم تنجح مشاركة المرأة في الحياة العامة في تعديل المواقف والمعايير الاجتماعية، المنحازة لصالح الرجل، التي تقيدها وتدني من شأنها: كتفضيل الذكور على الإناث والزواج المبكر، وتعدد الزوجات.. كذلك لم تسعفها في أن تحقق أشواطا مهمة على طريق انتزاع حقوقها القانونية والمدنية، تحديدا ما تعلّق بمسائل الإرث والشهادة والقوامة والطلاق. وينص قانون الأحوال الشخصية السوري مثلا على عدم قبول شهادة المرأة في الزواج والطلاق، كما لا تجوز ولايتها على البنت القاصر لعدم أهليتها.

ارتفاع معدلات تعليم الإناث والتحاقهن بسوق العمل، لم يعن أبدا القضاء على الأمية، أو تحسين شروط عيّشهن. فنحو نصف ساكنات المدن الصغيرة والأرياف هن أمّيات، أو لم ينلّن الشهادة الثانوية، وهن”آذنات” المدارس، (عاملات تنظيف)، العاملات في مصانع “الريجي” والنسيج والأحذية والمنتجات الكيماوية والغذائية، غالبا في ظروف بيئية سيئة، مقابل أقل الاجور، وأحيانا في مناطق لا توجد فيها مراكز صحية، تلبي حاجات الأم وأطفالها من توليد وإعطاء اللقاحات والمتابعة طبية.

ليس هذا وحسب بل إن أكثر من نصف النساء العاملات، من الأميات وذوات الشهادات العليا على حد السواء، تعملن خارج المؤسسات الرسمية والخاصة، وهن المزارعات، خادمات البيوت، الحلاقات، صاحبات الورش الصغيرة من خياطة وحياكة وتطريز وأشغال يدوية وطهي، صاحبات الفنادق والمطاعم والمعارض الفنية، عدد لا بأس به من الفنانات التشكيليات والصحفيات والكاتبات، والقائمة تطول من المهن الحرة التي زاولتها المرأة السورية، كي تضمن استقلالها المادي، وتعيل أسرتها، وفي بعض الأحيان توفّر فرص العمل للآخرين، وأغلب هؤلاء النسوة، سيما الفقيرات منهن، يعملن بلا حد أدنى من الضمانات الاجتماعية أو الصحية أو أطر الحماية القانونية، ولم يكن هناك أي اهتمام برصد حجم هذه العمالة، أو دراسة احتياجاتها، أو تقديم أي شكل من أشكال العون لها.

أمن “الجنس اللطيف” لم يكن مهدداً فقط بشروط العمالة الرخيصة، والبطالة وغياب الرعاية الاجتماعية والصحية، بل أيضا بتعرضها للضرب المبرح في إطار الأسرة، وبالتحرّش في الشارع، وفي كل مكان تعمل به، على الرغم من انتشار ظاهرة الحجاب بشكل لافت خلال العقدين الأخيرين، حتى لدى صغيرات لم تتجاوز أعمارهن السبع سنوات، وحسب الباحث طالب إبراهيم في كتابه “العدل والنساء”، فإن سوريا بتصنيف الأمم المتحدة، تحتل المرتبة الخامسة عالمياً والرابعة عربياً في انتشار “جرائم الشرف” ذات العقوبات القانونية المخفّفة، حيث يقدر الخبراء عدد الجرائم المرتكبة بدوافع الشرف ثلاثمئة جريمة سنويا، يتم معظمها في دائرة المجتمعات الريفية والأحياء الفقيرة في المدن. وفي حادثة غريبة من نوعها قام ثلاثة شبان بمساعدة والدهم بجر أختهم من شعرها إلى وسط الشارع، وتناوبوا على طعنها في أحد أحياء مدينة حلب (عاصمة الثقافة الإسلامية 2006) وذلك بالقرب من مركز الشرطة الذي امتنع عناصره عن التدخل لمنع الجريمة، بأمر من ضابط أكبر رتبة. ولما نُقلت المطعونة إلى مشفى خاص رفض إسعافها، واستقبلها مشفى آخر عام، حيث لقيت حتفها جراء ثلاثة عشر طعنة في أنحاء مختلفة من جسدها (ص103)، وهي جريمة نموذجية لتحالف الأعراف والنصوص والقانون ضد المرأة.

بديهي وضع الذرائع لتبرير الفشل في القضاء على إشكال التمييز بين الجنسين، بجملة المفاهيم التقليدية المتوارثة عبر مئات السنين، حول اقتصار دور المرأة على الإنجاب ورعاية الأسرة دون كل الأدوار الاجتماعية الأخرى، ما جعل حضورها في الحياة العامة “عورة” لدى المتشدّدين، لكن حتى لو قبلنا جدلا بهذا الدور الوحيد الماثل في الأمومة، فهو دور يكسب الأمهات أسمى مكانة بجعل “الجنة تحت أقدامهن”، ومن الغريب أن هذه المكانة ظلّت رمزية، ولم تؤثر بأي حال على المشرّعين، كأن يحق للأم المقدّسة أن تمنح أطفالها الجنسية، أو أن يحق للأم العاطلة عن العمل راتب شهري يعينها في إعالة أسرتها، سيما في حالة الانفصال عن الزوج أو وفاته.

العنف الأسري ضد المرأة، والتمييز الاجتماعي لصالح الرجال، بالتقاطع مع الفساد العام، وانتهاك حقوق الإنسان، وتدني مستوى المعيشة، دفع أعداد كبيرة من نساء سوريا للمشاركة في ثورة الحرية والكرامة على كافة الميادين، من التظاهر السلمي إلى حمل السلاح، مرورا بنقل الأخبار والانتهاكات، إسعاف الجرحى، أعمال الإغاثة والأنشطة الطوعية. وفي السياق، دخلت لائحة الشرف الكثيرات، من أمثال: الناشطة الحقوقية سهير أتاسي، الفنانتين مي سكاف وفدوى سليمان، الكاتبة ريما فليحان، المحامية والإعلامية رزان زيتونة، والمدّونة رزان غزاوي وغيرهن المئات.

بيد أن المشاركة الميدانية، في الثورة لم تحلّ إشكالات العنف والتمييز ضد المرأة، بل فاقمتها، وأضافت إليها ضغوط وتهديدات جديدة، ليس فقط في المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام، بل أيضا في بعض المناطق المحرّرة، حيث قام الإسلاميون بإجبار النساء خلال التظاهرات على الانفصال عن الرجال وارتداء الحجاب، ويُحكى عن حوادث خطف واغتصاب انتقامية جرت بحق نساء علويات، ردا على قيام ميليشيات “الشبيحة” في المناطق المحاذية للطائفة العلوية باغتصاب النساء أمام ذويهن، أو خطّفهن وذبّحهن، ما دفع الأهالي إلى هجرات شبه جماعية في كثير من الأحياء والقرى. تتعرّض الناشطات إلى الضرب والاعتقال والتعذيب كحال الناشطتين مروة الغميان وريما دالي، وتم توثيق اعتقال خمسة آلاف ناشطة، ومقتل أربعة وعشرين منهن تحت التعذيب، كما تُعتقل بعض النسوة كرهينات للوصول إلى ناشطين من ذويهن، كحال زينب الحصني، ابنة التاسعة عشر عاما، التي اختُطفت ليسلّم أخاها محمد نفسه للأمن، ثم تمت تصفيتها وشقيقها.

وقد وثّقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان ما اسمته بالقتل خارج نطاق القانون خلال الثورة السورية، حيث بلغت نسبة القتيلات 9% من المجموع الكُلي للقتلى المدنيين، أي ما يعادل أكثر من 7500 قتيلة على يد قوات النظام، بينهن 2500 طفلة، و257 رضيعة دون الثلاث سنوات. وأشارت الشبكة إلى أن لديها دلائل على أن أكثر من 40 امرأة قُتلت برصاص قنّاص، كان يعلم أنه يقتل امرأة، وجرت حوادث القتل خلال القصف العشوائي أو المتعمّد ضد المدنيين، باستخدام البراميل المتفجّرة المُلقاة من الطائرات، صواريخ سكود والمدفعية، أو خلال الاقتحامات.

أغلب النّاجيات من حرب الإبادة سواء في المناطق المحرّرة أو مخيمات اللجوء داخل الأراضي السورية أو خارجها، أغلبهن يفتقدن أبسط مستلزمات الحياة، ويعانين من نقص الأدوية والرعاية الصحية، سيما المسنّات والحوامل والمرّضعات، عدد كبير منهن بلا عمل، يعشّن على الصدقات والمعونات الإنسانية، وتثّقل كاهلهن مسؤولية إعالة أسرهن بالكامل بعد غياب الشريك الثائر.

“المجتمع الذكوري لا ينتج سوى الاستبداد والتطرف” وليس المقصود بالعبارة الإساءة إلى الرجال أو تمجيد النساء، فكلا الطرفين ضحايا وجناة، في المجتمع الذكوري لأنه قائم على ذهنية الفصل والإقصاء والتمييز وإثارة الفتن والنعرات بين مكوناته، والولاءات التراتبية الصارمة هي التي تكفل تماسكه الظاهري، ومن دون تفكيك هذه المنظومة المعقّدة من العداوات والولاءات، لا يمكن الانتقال إلى المجتمع المدني-غاية الثورة السورية- وقضية المساواة بين الجنسين في الحقوق والواجبات والحرّيات، هي ركن أساسي من أركان تفكيك السلطة الذكورية المسّتبدة، لأنها تعني الإصلاح الديني، العدالة الاجتماعية، الديمقراطية وحقوق الإنسان.

وعليه قضية المرأة ليست ثانوية في الثورة، بل هي مقياس نضجها وعدالتها ومصداقيتها في تمثيل نصف المجتمع.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى