صفحات الرأي

المراجعة: ليس من حسابنا!/ حسام عيتاني

 

 

ارتفعت الدعوات إلى إجراء مراجعة فكرية وفقهية وسياسية شاملة للنظر في الحال التي وصلت إليها أحوال الثورات العربية وانقلابها حروباً أهلية طائفية في أماكن وقبلية في أماكن أخرى، من جهة، وصعود التيارات الدينية الأكثر عنفاً وظلامية من جهة ثانية.

والحال أن “داعش” وفظائعها في سوريا والعراق والتنظيمات التكفيرية والمتشددة المكافئة لها في ليبيا ومصر وخطر تمددها إلى بلدان اضافية مثل لبنان ودول الخليج، دفعت كثراً إلى المطالبة بإجراء أنواع شتى من المراجعات في سياق محاولات وقف هذا الوباء. ويذهب البعض إلى المطالبة باستراتيجية موحدة أو حتى “مقاومة” مسلحة تتصدى للموجة الإرهابية المتسعة.

بيد أن أي محاولة لنقل المخاوف هذه إلى حيز الطروحات العملية والعلاجات الواقعية، تصطدم بجملة من العوائق الغنية بالدلالات. وإذا أخذنا لبنان الذي يقترب يوماً بعد آخر من أتون الإرهاب الداعشي، نرى مقاربتين كبيرتين، على الأقل، من مسألة المراجعة.

فلنسم الأولى المقاربة السنّية. وتقوم هذه على أن المراجعة يجب أن تنطوي على جانب سياسي رئيس يتمثل في خروج قوات “حزب الله” من سوريا ووضع سلاحه في تصرف الدولة على أن يحصر الحزب مهماته العسكرية في التصدي لأي تهديد إسرائيلي ويتمنع عن توجيهه إلى الداخل، وذلك تمهيداً لنقل السيطرة على السلاح إلى الجيش اللبناني وحده. ويقف أصحاب المقاربة هذه عموماً إلى جانب الثورات العربية وينددون بأنظمة الاستبداد السابقة، من دون توسع في عرض ممارسات الأنظمة الاخرى ومثالبها. وفي ظل تزايد الضغط على “المؤسسة” السنية للتصدي الفقهي والفكري لـ”داعش” يذهب بعض السنة إلى ضرورة تخلي شيعة لبنان عن مقولة ولاية الفقيه وتسليمهم بأولوية المرجعية الوطنية اللبنانية.

ثمة تيار من سنّة لبنان يؤجل اتخاذ موقف فقهي من فتاوى التكفير والقتل إلى حين نضوج النقاشات الجارية في أماكن أخرى مثل الأزهر ودار الإفتاء في مصر، حيث ظهر اتجاه تحض السلطات عليه بمراجعة جملة طويلة من الفتاوى القديمة والجديدة التي تشجع على العنف أو التي تتسم بطابع إشكالي مثل فتوى ماردين لابن تيمية التي ما زالت تحتفظ بقدر من أهميتها رغم أبطالها من قبل عدد كبير من العلماء أثناء مؤتمر خصص لها في تركيا قبل 4 أعوام.

المقاربة الثانية شيعية. وتتلخص في أن الخطر الأكبر اليوم صادر عن الفكر التكفيري وعن أدواته التي تمثل “داعش” طليعتها فقط، وأن الخطر ذاك تمده دول عربية وأجنبية بالدعم والتسليح وتستثمر فيه سياسياً ومالياً من أجل اسقاط “محور المقاومة” وافتعال حروب أهلية لن يستفيد منها غير إسرائيل وأمريكا. عليه، يتعين على الجميع، السنّة في مقدمتهم، الانخراط في المواجهة مع التكفيريين ومن يساندهم. تلغي هذه المقاربة وجود تناقضات داخلية عربية وتشكك في دوافع وأهداف الثورات العربية قاطبة. ولا توضح من هي الجهة المؤهلة لقيادة المجابهة مع التكفيريين ما يقول إنها مناطة بزعماء “محور المقاومة”.

وفي الوقت الذي يجري فيه أنصار المقاربة هذه تغييرات ميدانية ناجمة عن فشل الاستراتجية السابقة والذي بلغ ذروته في سقوط الموصل وأجزاء شاسعة من العراق في يد “داعش”، يطالبون السنة العرب بموقف صلب من قياداتهم التي تلكأت في منع التمدد الداعشي وغضت الطرف عن تفشي الفكر الضال، بل شجعت عليه وجاء الوقت الذي انقلب فيه عليها. لذلك، يتعين على الجهات المسؤولة مباشرة أو مداورة عن هذه الآفة أن تضطلع بالعمل على تطويقها واتخاذ اللازم من الإجراءات التي تشتمل على موقف فقهي واضح في إدانة هذا المنحى الفكري وكل ما أسفر عنه.

ويضع هذا الطرف نفسه في موقف من يتحمل رد الفعل منكراً دوره في تفعيل ظاهرة “داعش” وتقديم الأعذار والمبررات لها من خلال التمدد الامبراطوري الإيراني في العراق وسوريا ولبنان والسلوك “الممانع” المهين لقطاعات واسعة من سكان هذه الدول.

تتشارك المقاربتان هاتان في تجاهل درجة التشرذم والتفتت التي بلغتها المجتمعات العربية وعجزها، بنخبها وقواها السياسية السائدة اليوم عن إنتاج بدائل حقيقية وعلاجات تتجاوز السطح والقشور والتصدي الامني والعسكري وصولاً إلى نزع الأسباب المولدة لظواهر مثل “داعش” والقاعدة قبلها. وتتشاركان خصوصاً في رفض فتح باب المراجعة في النواحي التي تهم أصحابهما، في السياسة والدين والاجتماع وتوقع أن يتحمل الطرف الآخر الثمن المطلوب.

وما يجري لا يقول فقط أن على الدول والسلطات القائمة، السياسية والدينية، استعادة المبادرة من أيدي العبث العدمي التكفيري، بل يقول تحديداً إن تلك الدول والسلطات قد أخفقت مرات لا تحصى في أن ترتقي إلى مستوى الأخطار التي تهدد المجتمعات العربية، من داخلها وخارجها.

موقع 24

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى