صفحات العالم

المراوحة توشك أن تنتهي سورياً وعربياً.. ووعينا لم يتحضّر بعد

 

وسام سعادة

لا قيمة لتحليل سياسي يستشرف المستقبل بالاستمزاج من معين القيل والقال، أو بالتحيّز الاعتباطي لسيناريوهات افتراضية مفتقدة مؤشرات لافتة يمكن أن تسندها في عالم الواقع. لكن أيضاً، وفي المقلب الآخر، لا قيمة لأي تحليل سياسيّ يفتقد حداً أدنى من المجازفة، والمخاطرة. فأسهل شيء مثلاً هو توقّع أن حرباً أهلية ستقع في بلد منقسم على بعضه بشكل تصادميّ متفاقم. وأسهل شيء أيضاً هو توقّع أن لا تحدث حرب إقليمية بين هذه الدولة أو تلك. الحروب الأهلية كثيراً ما يجري توقعها ولا تأتي، والحروب الإقليمية كثيراً ما يصعب توقّعها الى أن تندلع وتصدم الجميع. في الحالتين ثمة حيّز متروك للمجازفة، إنما تلك التي تسحب نفسها من درك القيل والقال والسيناريوهات الاعتباطية.

ما كان أحد يتوقّع هذا الشكل من الإطاحة بالأنظمة المومياقراطية في أكثر من بلد عربي. حتى لو صودف أن هناك من كتب يتوقع انفجاراً شاملاًً أو ثورات هادرة قبل ذلك، فمن المرجّح أنه كان يسوق لغة خشبية من مرحلة مضت، أو أن مرايا ربيع شرق أوروبا كانت تتحرّك في مخيلته، وليس أنّه كان يتحضّر بالفعل لأن تنفجر عربياً وبهذه المشهدية معضلة “ديموقراطية بلا ديموقراطيين” (عنوان كتاب لغسان سلامة)، في شكل سلسلة من الثورات “بلا نظريات ثورية”، و”بلا طلائع ثورية”، لكنها أيضاً ثورات، وبفعل التلازم بين انهيار أنظمة وتصدّع المجتمعات، ذات طبيعة حيوية لا يمكن لجمها بالحلول “الإصلاحوية” سواء ذات الوصفة الليبرالية أو ذات الصبغة الإسلاموية، أو ما بين بين، كما لا يمكن التحكم بها بآليات الإدارة الامبراطورية للعالم، ناهيك عن التزاحم بين هذه الإمبريالية الغربية أو تلك الإمبريالية الشرقية. كذلك، من السهل أن تحاضر في النموذج المفترض تبنيه برنامجياً في البلدان العربية، ديموقراطية ليبرالية أو ليبرالية محافظة أو دولة قانون مقنّن بالشريعة أو دولة شريعة مقنّنة، لكن الأصعب أن ترى ما يطرحه الربيع العربي من إشكاليات جذرية تتعلّق بكيفية إعادة تركيب الدول وإعادة صياغة المجتمعات في وقت واحد، وتتجاوز بالتالي السياق التقليديّ للصراع على طبيعة النظام السياسي، لطرح مسائل تتعلق بعيش الاختلافات وإعادة إنتاجها على نحو “مؤنسن” لها، أي على نحو اجتماعي، وبمضامين أخلاقية أساسية ومرتكزات حقوقية صميمة. ومن دون أدنى شك فإن هذا البعد الثوري من الربيع العربي هو ما يتفاداه “الوعظيون” جميعاً، من ليبراليين أو إسلاميين أو يساريين، لأن هؤلاء ما زالوا عالقين في تلاوة النماذج المجرّدة التي ينسبون أنفسهم إليها على سبيل “الهوية”.

وفي هذا الجانب بالذات يكشف الربيع العربي عن فقر مقاربته من قبل جيل من “المفكرين السياسيين وأصحاب الرأي” استهلكته مراحل تاريخية ماضية، وصار ينقسم على نفسه بين من يوهم نفسه بأنه حافظ على نقاوته الثورية دهراً قبل انبلاج الربيع العربي، وبين من يوهم نفسه بأن فعل ندامته الليبرالي هو آخر ما يمكنه أن يُقال. الربيع العربي يستدعي في وجه كل هذا ربيعاً في المقاربة الفكرية – السياسية، تخرج من “أدب النماذج” لجهة الفكر، ومن عالم “القيل والقال” لجهة التحليل والرأي. لكن على من تقرأ المزامير؟

يوهم البعض أنفسهم بأن في استطاعتهم الحفاظ على بؤس المراوحة الفكرية والتحليلية، بوجهيها الشعبوي الممانع، أو الليبرالي الزائف. بالتوازي، ثمة من يوهم نفسه بأن المراوحة ستبقى حاكمة قابضة على الربيع العربي الى ما لا نهاية، وعلى الوضع السوري بالدرجة الأولى. أوهام ثلاثة من مستويات مختلفة. أولاً لأنه ليس ثمة مراوحة الى ما لا نهاية، خصوصاً في ظل تصدّع المجتمعات، فمهما كان عنوان “الفوضى الخلاقة” مرفوضاً لدواعٍ سياسية أو أخلاقية، إلا أنه في نهاية التحليل، فعلاً ثمة ما هو خلاق في كل فوضى. ثمة ايقاع لا يمكنه التعايش مع دوام المراوحة. ولنا هنا حرّ المجازفة بأن المراوحة في الوضع السوري قد شارفت على نهايتها، ولنا أن نزيد في التفاؤل فنقول إن الربيع العربي مع سقوط بشار الأسد لن يكون كالربيع العربي قبل هذا السقوط، وإن الإشكالية الأساسية ليست الصراع فيه بين إسلاميين وليبراليين، بل في كيفية إعادة تركيب المجتمعات والدول في وقت واحد، إشكالية لا يعود معها ثمة مكان للاتكاء الحصري على شعار “الدولة” سواء اعتبرناها “دولة أمة” أو “دولة مدنية” أو “دولة ذات مرجعية دينية”: فالدولة ليست سحراً، ولا شعاراً سحرياً تتداوله قبائلنا.

والحال هذه، ونظراً الى أن الإشكالية التي يطرحها هذا الزلزال الربيعي العربي ما عادت تحل بمجرد استنطاق شعار الدولة، فإن ما ينبغي أن يدعونا للجد والكد والتأمل ليس أن المراوحة ما زالت على حالها، بل إنها توشك أن تنفد وتخلي السبيل لما بعدها، من دون أن نكون متحضرين في وعينا وفي سلوكياتنا السياسية، ولو بالحد الأدنى.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى