صفحات الرأي

المرحلة الانتقالية في مصر: الثورة والقضاء

يوسف عوف

المجتمع المصري الآن، أو على الأقل القطاع الفاعل فيه، منقسم إلى شطرين كبيرين، يصنف القضاء على أنه مع أحدهما (ما يعرف بالتيار المدني) ولا خلاف على أن تصنيف القضاء سياسيا – كنتيجة مباشرة للاستقطاب السياسي العميق – يعني، مباشرة وبالضرورة، خروجه عن “الحياد” وهو من أخص خصائص العمل القضائي.

شعار سياسي جديد أطلقه البعض، وما زال يستخدمه الكثيرون، وهو “الشعب يريد تطهير القضاء”. دونما بحث في كيفية ظهور ذلك الشعار أو من أطلقه وأسباب ذلك، فخطير أن تنحدر الأمور لكي تصل إلى هذا المدى في التعامل مع مؤسسة كانت، بالأمس القريب، تحظى بقدر غير قليل من الاعتبار والصدقية في أعين جل أفراد المجتمع. والأكيد في هذا السياق أن أخطاء جسيمة ومركبة ارتكبت من أطراف عدة أدت إلى ذلك.

وجدت بعض التيارات داخل القضاء المصري نفسها تتعامل مع الشؤون العامة طبقا لنظرتها الخاصة في ما يشبه العمل الحزبي. وكان تطور كبير شهدته الساحة السياسية المصرية في سنوات ما قبل الثورة، هو دخول شريحة كبيرة من القضاة إلى المشهد العام في مصر، بقيادة نادي قضاة مصر أحياناً، ولسبب أو لآخر أصبح مع الوقت ما عرف بـ”تيار استقلال القضاء”. الحاصل أن هذا “الانشقاق” في صف القضاة، وإن كان مقبولا قبل الثورة، إلا أنه تفاقم بشكل أفدح بعد الثورة، حيث أنشئت حركة تسمى “قضاة من أجل مصر” تسوق نفسها كحركة مضادة لنادي القضاة، ولأسباب الانقسام السياسي في البلاد، فإن هذه الحركة تظهر توافقا دائما مع كل تحركات وقرارات رئيس الجمهورية وتيار الإسلام السياسي من خلفه. وعلى الرغم من قلة عدد أعضاء هذه الحركة، وأن ما تحدثه من ضجيج أكبر بكثير من حجمها وقدرتها، إلا أن مجرد وجودها، في تقديري، يعبر عن الجروح التي أصابت الجسد القضائي المصري، فضلا عن المساوئ البالغة لمجمل إدارة المرحلة الانتقالية.

الأسباب

أولاً: سبب رئيس لما حدث هو عدم تبني “مشروع متكامل للعدالة الانتقالية”. والمقصود من ذلك ليس خروجا عن القضاء الطبيعي واللجوء إلى الإجراءات الاستثنائية، كما كان ولا زال ينادي الكثير من القوى السياسية. ففي تقديري أن الثورة قامت للمناداة بالعدل وإقامة دولة القانون، فلا يكون من المقبول، عندئذ، أن تستخدم الثورة نفسها أدوات البطش والاستبداد التي انقلبت هي عليها، وإلا فما الجديد؟ إنما كان المقصود من تبني ذلك المشروع فتح نقاش واسع وشامل حول استحقاقات المرحلة الانتقالية وكيفية معالجتها وعلى رأس هذه الاستحقاقات كيفية التعامل، بنظرة كلية شاملة، مع مظالم وانحرافات النظام السابق وكل جرائمه السياسية والجنائية. كان من المأمول أن يصدرذلك التشريع الشامل، بناء على ذلك النقاش، ليتعامل مع هذه المعضلة الكبيرة التي يواجهها كل مجتمع أو دولة في حالة انتقالية كبيرة كالتي شهدتها مصر وتشهدها.

ثانياً: اتضح بجلاء، لدى الحديث عن شكل ومدى تدخل القضاء الإداري في الفضاء السياسي، حجم الفشل الذي تعانيه النخبة السياسية المصرية على مختلف الأصعدة، لاسيما الإخفاق الكامل في إدارة الخلافات السياسية التي لابد حادثة خلال المرحلة الانتقالية. فمن المعلوم أن أبرز تحدٍ يواجه الدولة في مرحلتها الانتقالية هو قدرة النخبة السياسية، في السلطة أو خارجها، على “إدارة” خلافاتها بشكل صحي. يتمثل ذلك الشكل الصحي في القدرة على فتح حوار دائم ومتجدد بشأن كل الملفات السياسية وغيرها المفتوحة على مائدة الوطن، مع القدرة، عند هذه النخبة، على استيعاب بعضها البعض، دون تخوين وإقصاء. والتحرك في إطار حد أدنى من التوافق يسمح بتجاوز الخلافات والمضي الى الأمام. هذا الفشل في إدارة الخلافات ألجأ جميع اللاعبين السياسيين إلى أن يولوا أوجههم شطر طرف ثالث يستطيع “تسوية” الخلافات السياسية، فكان هذا الطرف هو القضاء بأفرعه الثلاثة، لاسيما الإداري والدستوري منه. هذه الحال في مجملها ألجأت القضاء، أو أناطت به، دوراً لا يدخل بالأساس في أصل وظيفته.

ثالثاً: القضاء نفسه يتحمل قسطاً من المسؤولية عن ما آلت إليه الأمور. وفي هذا الإطار يمكن أن نرصد مسألتين أساسيتين:

أ – ارتضى بعض القضاة، أو المحاكم، بشكل أو بآخر، أن يؤدي دوراً ليس له أن يؤديه بحكم وظيفته، أو، طبقا للظرف السياسي، كان من غير الملائم أن يؤديه. بعبارة أخرى، أرى أن المدى الذي وصل إليه نوع، وحجم، التدخل في بعض المسائل كان زائدا عن الحد الملائم. في هذا السياق، أضرب مثالين: الأول حين أصدرت محكمة القضاء الإداري حكما بإلغاء قرار البرلمان – قبل حله – بتشكيل الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور. أعتقد أن هذا الحكم جانبه الصواب إلى حد بعيد لا في التقدير السياسي فحسب، بل في التأصيل القانوني والفني أيضاً. ومن المعلوم أن هذا الحكم كان من العلامات الفارقة. الحل الأنسب كان في رفض دعوى بطلان تشكيل الجمعية التأسيسية وترك هذا الخلاف “السياسي” ليتم تسويته بين الأطراف المعنية به.

المثال الثاني عن حكم المحكمة الدستورية العليا بحل مجلس الشعب. بقطع النظر عن كل ما أحيط بهذا الحكم التاريخي، أرى أنه جاء في توقيت غير ملائم على الإطلاق، ففوق أنه اعتبر – من جانب تيار الإسلام السياسي خاصة – اعتداءً صارخاً على السلطة التشريعية وخرقا لمبدأ الفصل بين السلطات، فقد صدر هذا الحكم قبل يومين فحسب من جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية، وقبل أقل من أسبوعين من نقل السلطة لرئيس الجمهورية الجديد، في حين أن البرلمان نفسه لم يكن يمارس سلطاته إلا منذ أقل من خمسة أشهر فقط وفي مرحلة شديدة الحرج من عمر المرحلة الانتقالية. كان الأمر يستدعي قدرا من الاستقرار وعبور هذه المرحلة الصعبة من دون هذا الزلزال الذي أحدثه ذلك الحكم.

ب – المسألة الثانية تتعلق بإخفاق المؤسسة القضائية، في مجملها، في اتخاذ خطوات حقيقية نحو الإصلاح، لاسيما إجراء ذلك الإصلاح في التوقيت الصحيح. والحقيقة، في ما أعتقد، أن القضاء لم يستطع أن يستجيب “للمد الثوري” العارم الذي نزل بمصر. حاصل الأمر أن القضاء ظل على حاله محاولا الدفاع عن عرينه – في خضم ما واجهه من هجمات – من دون اتخاذ أي خطوات إصلاحية حقيقية تعطي شعورا، لعامة الناس قبل خاصتهم، أن مؤسسة كبيرة بحجم القضاء وعت ما يجري حولها وبادرت بإعطاء “نموذج” لسرعة الإصلاح وفاعليته، فضلا عن مواكبته لطموحات الناس.

لا شك في أن لظاهرة تقاعس القضاء عن الإصلاح أسباب عديدة، إلا أن ثمة ما يستحق الذكر على سبيل الإيجاز، ذاك هو أن القضاء بطبعه، وبحكم وظيفته “مؤسسة محافظة” ليس المقصود محافظة بالمعنى الديني أو السياسي، بل محافظة بمعنى الميل أو التوجه إلى “الحفاظ على الوضع القائم”، فالرغبة في التغيير ليست لصيقة بالشخصية القضائية في عمومها. لعل ذلك ما يفسر لنا جانبا من الصعوبات التي تكتنف، دائما، عملية الإصلاح القضائي.

(قسم من دراسة طويلة)

قاضٍ مصري وباحث

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى