عمر قدورمراجعات كتب

المرض بالثورة: عمر قدور

عمر قدور

إن نظرنا إلى عنوان كتاب عبدالله أمين الحلاق «هواجس الأمل الجريح»، الصادر حديثاً عن دار (مدارك- دبي)، فأول ما يتبادر إلى الذهن الابتعادُ عن اليقين، الثورة بوصفها أملاً تبدو جريحة منذ العنوان، والأفكار المتعلقة بها قد تذهب مذهب الهواجس والشكوك. هذا ليس انتقاصاً من الأفكار المتضمَّنة في الكتاب، إذ لا يجوز لنا أن ننسى فعل الثورة بِعَدِّه فعلاً لا يمنح اليقين إلا بعد اكتماله، لذا لا ينبغي لنا الوثوق بتلك الكتابات الجازمة، الجامعة المانعة، التي تدَّعي استشراف أفق الثورة من دون الخوض في منعرجاتها الحالية.

يشبّه الكاتب حدث الربيع العربي بانهيار جدار برلين الذي فصل بين حقبتين تاريخيتين، ويكرّس الفصل الأول الذي وردت فيه هذه المقارنة للنقاش النظري حول عودة الشعوب العربية إلى التاريخ، من دون أن يفوته الانتباه إلى نقاط الاختلاف بين التجربتين. الشمولية التي حكمت شرق أوروبا كانت ضمن إطار نظري وتاريخي يخص أيام الحرب الباردة، أما أنظمة الاستبداد العربي، بما فيها التي كانت محسوبة على الكتلة الشرقية، فقد كان بقاؤها واستمرارها مطلبين غربيين أيضاً بداعي الحفاظ على الوضع الجيوسياسي للمنطقة العربية.

يستغرق الفصل الأول ما يمكن تسميته مدخلاً نظرياً لأسباب اندلاع الثورة السورية، مع محاولة الإحاطة بمجمل الظروف الممهِّدة للثورة والضاغطة عليها في آن. لكن لا يفوت الكاتب التعريج منذ البداية على القضية الفلسطينية باعتبارها همّاً أساسياً من هموم أبناء المنطقة، ولأنها بخاصة استُخدمت ذريعة من قبل أنظمة الاستبداد لتمرير وجودها القمعي ولعسكرة الدولة، لذا يرى أن الانتفاضة الفلسطينية الأولى، والتي كانت سلمية الطابع تماماً، هي النقيض الأمثل لعسكرة المجتمع، إنذار قد يكون مبكراً بين دفّتي الكتاب من عسكرة الثورة السورية رداً على عسكرة المجتمع التي قام، ولا يزال يقوم بها النظام.

إذاً تبرز الهواجس مبكرة في النص، غير أنها لا تمنع من إفراد قسم منه بعنوان «في هجاء استقرارهم ومديح فوضانا»، هنا يتعرض الكاتب للمآلات التي تُهَدّد بها أنظمة الاستبداد في حال سقوطها، وعلى رأسها الفوضى والحرب الأهلية أو الاقتتال الطائفي. يا للهول عندما يقارب الاستبداد جادة الصواب! هكذا يعبّر النص عما قد يحمله تهديد الأنظمة من جدّية ومصداقية، إلا أن الكاتب يحيل الاستقرار الذي تتبجح به الأنظمة المعنية إلى وضع أشبه بالموت السريري، فكرة ربما تكون مركزية ومُلِحّة الآن بسبب عدم وصول دول الربيع العربي إلى حالة من الاستقرار السياسي الفعلي لا الموات الذي كان سائداً من قبل. ففي الواقع قضى الاستبداد على «كل الإرهاصات التي بدأت تلوح بعد إنجاز معظم الدول العربية لاستقلالها عن الكولونيالية الغربية»، وهي، كما يحددها الكتّاب، التقاليد الديموقراطية التي قُضي عليها بالانقلابات العسكرية، وما تلاها من عسكرة للمجتمع ككل، ما أدى أيضاً إلى تكريس ثقافة راديكالية «تتزيّا بالدين الإسلامي في مواجهة الآخر».

تعود المقاربة بين الاستبداد والأصولية لتلحّ في الفصل الثالث من الكتاب تحت عنوان «تحطيم أبو الهول وتثبيت الصنم السوري، والحرية كخيار»، هنا، في سورية، تبدو الأمور مقلوبة نوعاً ما، أو من الأنسب القول بأن المقاربة فاضحة بين الاستبداد والأصولية. النظام نفسه يقوم بأشنع دور يمكن أن تقوم به أعتى الأصوليات، وبينما تهدِّد إحدى الجماعات السلفية بتدمير تمثال أبي الهول في مصر يقوم النظام فعلاً بتدمير الأوابد الأثرية في سورية، أي أنه يباشر دور الجماعات التي يلوّح بخطرها فيما لو سقط النظام. المقاربة لا تتوقف هنا فحسب، لأن النظام نفسه خلال أربعين عاماً ملأ الشوارع والساحات السورية بصور وتماثيل الرئيس الأب، ومن ثم بصور الرئيس الابن. وبوسع أي متابع ملاحظة أسوأ أنواع التقديس والعبادة لدى مؤيدي النظام الذين يركعون على صور رئيس النظام أو أمام تماثيله، ويعبّرون باعتزاز عن رغبتهم في تقبيل الأرض التي يدوس عليها. إذاً النظام ليس مضاداً في الجوهر للأصولية، بل هو يريد تأبيد أصوليته الخاصة، تلك التي تدمّر التاريخ السابق له وترفع من شأنه فقط إلى مستوى القداسة، أو حتى ما يداني الألوهة بإصراره على أنه باقٍ للأبد.

لا يخفى على الكاتب أن النظام نجح أحياناً في الترويج لروايته في خصوص أنه لا يواجه ثورة، بل يواجه عصابات أصولية، هذا قد يكون من الدوافع المهمة ليفرد الكاتب فصلاً توثيقياً لحوادث مَرَّ بها، أو كان جزءاً من صناعتها. في الفصل الثاني الذي يوثّق فيه جانباً من حوادث الثورة تحتل مدينة السَّلَمِيّة- مدينة الكاتب- حيِّزاً مهماً، كذلك هو الأمر بالنسبة إلى الشخصيات الثقافية التي يورد ما عانته من اعتقال وتعسُّف أو حملات تشهير، حيث لم يأت اختيار السَّلَمِيّة كمكان لمحض انتماء الكاتب إليها، مثلما كان اختياره للشخصيات الثقافية انتقائياً بغرض تفنيد روايات النظام عن الثورة. السَّلَمِيّة مدينة صغيرة مختلطة طائفية، وهذا حال العديد من المدن المشابهة في سورية إلا أنها تمتاز بتاريخ طويل من معارضة النظام. تعود نسبة معتبرة من أصول أهل السلمية إلى المذهب الإسماعيلي، لكنها كانت من أوائل المدن المنتفضة ضد النظام، الأمر الذي ينفي ما يروّجه الأخير عن كون الثورة سنِّية متعصبة. حاول النظام منذ بدء الثورة عزل المدينة عن الإطار الوطني العام بواسطة أزلامه وشبيحته، وحاول في الآن ذاته إثارة النعرات الطائفية فيها ليخفي انتسابها إلى الثورة، وربما يكون قد ساعده على ذلك ضعف تغطية القنوات الإخبارية الكبرى أو غيابها عما يحدث في المدينة. عبدالله ونوس ومولود محفوض شاعر وطبيب من أبناء المدينة لاقيا الاعتقال مرات والتشهير أيضاً، بما في ذلك التشهير الجنسي على يد أعوان النظام، جزاء على وقوفهما مع الثورة. الكاتب نفسه لم يسلم من الاعتقال بعد حوالي شهرين من مشاركته في أول مظاهرة في المدينة، وبعد الإفراج عنه عاد ليصبح ملاحَقاً من قِبَل المخابرات، بينما في مكان آخر، كما يسرد الكتاب، كانت الكاتبة سمر يزبك تحت ضغوط حملات التشهير نفسها التي لا تتورع عن الافتراء الجنسي، وصولاً إلى اتهام هؤلاء المثقفين العلمانيين بالأصولية والتكفير، وحتى بمحاولة إقامة إمارات سلفية!.

مدينة حماة كان لها أيضاً حضور في هذا السرد ليوميات الثورة، سرد يثبت أن المدينة التي روّج النظام منذ ثلاثة عقود لأصوليتها لم تنتفض إلا بأرقى الوسائل المدنية، ولا تزال ذاكرة الثورة تحتفظ بمشهد أطفالها وهم يقدّمون الورود لرجال المخابرات الذين أطلقوا عليهم النار فيما سمّي آنذاك بـ «جمعة أطفال الحرية».

لعل الفكرة الأساسية التي تطلّ من ثنايا الكتاب كلما لاحت الهواجس المزعجة أو الخطرة هي أن أسوأ ما يمكن أن تواجهه سورية هو بقاء هذا النظام. هذه الفكرة يشدد عليها الكاتب عبدالله أمين الحلاق خصوصاً في الفصل الثالث المُعَنْوَن بـ «في المآلات المحتملة للثورة». هنا أيضاً تطلّ الهواجس التي تحذِّر سواءً من التعلق بآمال وردية أو من «المرض بالثورة»، حيث يكون الأخير على شاكلة دفاع المؤيدين الأعمى عن نظامهم.

يأتي الفصل الأخير بمثابة هواجس ومخاوف من طغيان عسكرة الثورة على المتن السلمي لها، بخاصة إن أصبح الجيش الحر أسير المال الأصولي وتوجُّهاته. مخاوف أيضاً من الإخوان المسلمين وطبيعتهم الأيديولوجية الممتنعة على متطلبات الدولة الحديثة، وهي كلها تستند إلى سلوكيات راحت تتسلل إلى المستوى السياسي والعسكري أحياناً. لكن للتأكيد لا يرى الكاتب في فصل أخير مكاناً للمثقف إلا بعيداً عن السلطان، مع الاحتفاظ بحسّه النقدي عندما يكون في موقعه الطبيعي مع الشعب.

مقتطف من كتاب «هواجس الأمل الجريح»

ربيع دمشق، هو الفترة التي لا يزال يذكرها جيداً كل من خاض غمار الأحلام التي كانت تداعب مخيلة السوريين بالانفتاح السياسي والتغيير آنذاك، ووجد السوريون يومها في الصحف اللبنانية البيروتية والصادرة في المهجر مكاناً للتعبير عنهم وعن ذواتهم فكرياً وسياسياً، قبل أن يتلقى الربيع الدمشقي ضربته، وليُغلَق الباب نهائياً ولتبقى الصحافة اللبنانية والعربية التي كانت منبر من لا منبر لهم (أي منبر مثقفي سورية)، من دون طيف ربيع دمشق، باستثناء كتابات جريئة ممن بقي خارج السجن من رموز تلك الفترة، ولتبدأ بالانحسار محاولات سورية جريئة لخلق صحافة سورية معارضة أو على الأقل، متوازنة في الطرح الثقافي والسياسي المتعلِّق بالشأن السوري. من تلك المنابر مثلاً جريدة «الدومري» للفنان الكاريكاتوري العالمي علي فرزات، والتي أغلقت وسُحِب آخر عدد منها من الأسواق السورية بعد فترة من صدورها في عام 2001، وصحيفة «قنطرة» التي كان يشرف عليها الكاتب السوري ياسين الحاج صالح وبإمكانيات مادية وتقنية مطبعية متواضعة. توقف ياسين عن إصدارها لأسباب متعددة منها الشخصي ومنها العام المتعلق بمآل سورية بعد العودة القسرية إلى الشتاء. واليوم، يتبدى أنه من باب الهزالة والاستخفاف بالمسار التاريخي لأنظمة الاستبداد العربية عدم ربط تلك الفترة من بداية هذا القرن، بما نال علي فرزات قبل حوالي ثلاثة أشهر من اعتداء عليه في ساحة الأمويين وتكسير أصابعه، في الوقت الذي يغيب فيه ياسين الحاج صالح عن الأنظار نهائياً من باب الحذر الضروري وتقليل احتمالات أن تناله حزمة الإصلاحات الموعودة بمكروه. هذا المكروه قد يستدعيه الموقف من السلطة والجهر بالحقيقة في مواجهة التضليل والديماغوجية التي يتفنن النظام ومؤيدوه في صناعتها وبثِّها. أي باختصار، يمكن ربط مقالات ياسين المنشورة في الصحافة «غير السورية طبعاً»، وبين تخفّيه واستغنائه حتى عن هاتفه الشخصي، كما حال علي فرزات الذي اعتُدِي عليه رمزياً عبر إغلاق جريدته قبل حوالي عشر سنوات، وجسدياً مؤخراً بتهمة قول الحقيقة وتمثيلها رسومات معبِّرة عن واقع الحال في سورية. ينسحب هذان المثالان: علي فرزات وياسين الحاج صالح على كل مثقف سوري أو عربي يقف في مواجهة السلطة والأنظمة العربية الحاكمة، ويسمي الأشياء بمسمياتها الحقيقية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى