صفحات العالم

المسألة السنّيّة


حازم صاغيّة

في لبنان وسوريّة ينتصب تناقض يصعب التغافل عنه أو تجاهله بذرائع تبسيطيّة كـ «الأخوّة» وتجنّب الكلام في الطائفيّة، ناهيك عن «وحدة» القوميّة والدين والعداء للاستعمار والصهيونيّة وسوى ذلك. مفاد ذاك التناقض أنّنا نعيش أزمة أقليّات مديدة فيما نعيش، بالقدر نفسه من الحدّة، أزمة الأكثريّة السنّيّة.

ووضع كهذا هو الهرم المقلوب للوضع العراقيّ في عهد صدّام حسين، حيث كانت الشيعيّة والكرديّة العَلمين الأبرز على اضطهاد تمارسه نخبة حكم سنّيّ. وهو أيضاً مغاير للحالة المصريّة حيث يتماهى الاضطهاد مع الأقباط والهويّة القبطيّة.

ولقائل أن يقول، ردّاً على هذا التصنيف العريض، إنّ الشعوب كلّها مقهورة، وهذا صحيح. مع ذلك لا بدّ من التمييز، في الأوضاع المذكورة كلّها، بين اضطهاد يتأتّى عن شروط سياسيّة واقتصاديّة محدّدة، واضطهاد يترتّب، فضلاً عن الشروط تلك، على الهويّة الدينيّة أو المذهبيّة أو الإثنيّة لأصحابها.

في هذا المعنى، فإنّ القبطيّ المصريّ والشيعيّ والكرديّ العراقيّين في عهد صدّام مُضطَهَدون مرّتين. وهذا ما يصحّ اليوم في السنيّ السوريّ واللبنانيّ.

أمثلة ذلك تمتدّ من تركيبة النظام في دمشق، والتي تعود في أصولها إلى 1963، إلى المصير الذي لقيه، عام 2005، رفيق الحريري في لبنان، كما لقيه أنصاره وتيّاره منذ 2006، وخصوصاً 2008.

لكنّ هذه المحطّات البارزة لا تغني عن تفصيل.

فانتخاب إميل لحّود لرئاسة جمهوريّة لبنان ثمّ التمديد له نصف ولاية رئاسيّة، والتحطيم والإذلال المتواليان لمدينة طرابلس، وشيوع نظريّة «حلف الأقليّات»، والتحالف السوريّ المديد مع إيران الذي نشأ في موازاة الصراع مع «الاخوان» السوريّين وتدمير مدينة حماة، وتنامي قوّة «حزب الله» بعد ضمور المقاومة الفلسطينيّة ثمّ تحوّله دولة أقوى من الدولة، هذه كلّها عناوين في تطوّر الإحساس السنّيّ إلى ما يتراوح بين التهميش والاضطهاد.

وهي تحوّلات كانت تكتنفها عوامل تُشعر السنّيّ المتوسّط بعدم الارتياح: فالعالم السنّيّ دفع الكلفة الأكبر لانهيار نظام صدّام، مثلما دفع الكلفة الأكبر لـ «الحرب على الارهاب». وإذا كان صعود الدور التركيّ قد أفرحه، فإنّ ضعف المراكز السنّيّة الذي تسبّب بالدور التركيّ لم يقع عليه وقعاً حميداً. أمّا الموضوع الفلسطينيّ، مثله مثل المقاومة، فصار، بسبب «حماس» وتحالفاتها، يتماهى مع الشيعيّة السياسيّة أكثر ممّا مع السنّيّة السياسيّة.

وربّما كان السبب الأهمّ وراء هذا التناقض الذي يجعل الأكثريّة مقهورة، من دون أن يخفّف قهر الأقليّات، أنّ الانقلاب العسكريّ في المشرق، وتحديداً في سوريّة، بات منذ الستينات مهنة أقليّة. وعلى رغم سطحيّة الحداثة التي حملها الانقلاب، غدت هذه الحداثة السطحيّة عاملاً إضافيّاً في توسيع المسافة التي تفصل الكتلة السنّيّة عن الحداثة. وإذ انعطف هذا على انعدام الاصلاح الدينيّ المزمن، بات الاضطهاد الذي يتعرّض له السنّة ناطقاً بلسان محافظ يسنده قلب محافظ.

على النحو هذا يغدو المشرق أمام اضطهادين، لا واحد، كلّ منهما يحمل وعياً منقوصاً: الاضطهاد الأقلّيّ يتحالف مع الاستبداد وينضح بتآمريّة تقارب الفجور أحياناً فيما يتباهى بحداثيّة لا تتجاوز القشور، والاضطهاد الأكثريّ خائف من التقدّم، منشدّ إلى الماضي التراتبيّ والملليّ الذي ارتبط قمعه بقمع السنّة.

وأكثر بؤساً ممّا عداه أنّ ما من أحد يستطيع أن يطمئن أحداً لأنّ الاضطهاد أضعف الأكثريّ بطريقة كما أضعف الأقليّ بطريقة أخرى. وهذا فيما يشتدّ الإلحاح على ضرورة حلّ مسألتين ضاغطتين، لا مسألة واحدة.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى