صفحات مميزةوائل السواح

المسار الثاني في الأزمة السورية/ وائل السوّاح

 لا جديد في تكرار أن الوضع في سوريا كارثي بامتياز. ولا جدوى من التذكير بأن سوريا قد فقدت مائة وخمسين ألف قتيل وضعف هذا العدد من الجرحى، وأضعافا مضاعفة من المعتقلين والمخفيين، وملايين المهجرين في داخل سوريا وخارجها. ولا داعي لترديد أن البلد صارت بلادا والعلم أعلاما، والقانون قوانين، فالجميع يدرك ذلك ويعلمه علم اليقين.

دولة  الإسلام في العراق والشام تسيطر مع جبهة النصرة على القسم الأكبر من المناطق “المحررة” وكثرة من السوريين في تلك المناطق يتمنون لو أن مناطقهم لم “تحرر”. وزادت حالات الخطف والإعدامات لناشطين سوريين من المجتمع المدني في نقمة السوريين في المناطق الخاضعة لسلطة القتلة في القوى الإسلامية المتشددة والتي لا تختلف عن حالات الخطف والإعدامات التي تمت وتتم في مناطق النظام. وتم تدمير الاقتصاد السوري والبنية التحتية، وتعطلت المصانع، ودمرت الزراعة. ولا توجد مدارس ومستشفيات وماء للشرب وكهرباء واتصالات وطعام ودواء وشرطة ومحاكم في العديد من المناطق اليوم. وحيثما توجد محاكم، تختلف القوانين التي تحكم عمل تلك المحاكم، ففي بعض المناطق تطبق الشريعة الإسلامية بيد جهلة في الشريعة والقانون، وفي مناطق أخرى يطبق القانون العربي الموحد شديد المحافظة، وتطبق في مناطق ثالثة القوانين العرفية والقبلية، بينما لا تزال القوانين السورية تطبق في المناطق التي يسيطر عليها النظام.

ويستمر النظام بجرائمه بحق المدنيين السوريين، فيطلق قذائفه وصواريخه وقناصته على المناطق المدنية، ويطلق يد شبيحته وشبيحة حزب الله لارتكاب المجزرة تلو المجزرة. وآخر هذه المجاز كانت تلك التي ارتكبها لواء أبو الفضل بدعم من مقاتلي حزب الله في غوطة دمشق يوم الجمعة الماضي.

في المقابل لا تزال المعارضة السورية في الداخل والخارج مبلبلة وعاجزة وواقعة تحت تأثيرات القوى الإقليمية المتنازعة، ولكنها في الوقت نفسه تتصرف كبديل للنظام دون أن يكون لديها المقدرة على التأثير على الأرض. فعلى صعيد الائتلاف، لا يزال الدكتور أحمد طعمة عاجزا عن تشكيل الحكومة الانتقالية العتيدة. وانتهى اجتماع القوى الديمقراطية في اسطنبول الشهر الماضي كما بدأ من دون أن يترك أثرا على الساحة السياسية داخل سوريا وخارجها. أما معارضة الداخل فلسان حالها يقول: “ألم أقل لكم؟” وهي سعيدة بتراجع التوتر بين نظام الأسد والغرب، وسعيدة أكثر بالابتسامات العريضة التي ارتسمت على وجهي كيري ولافروف بعد لقائهما الشهر الماضي؛ فتقارب روسي-أمريكي يعني ضمان دور لهذه المعارضة المدعومة روسيا في أي عملية سياسية.

العالم، الذي قزَّم المأساة السورية إلى مجرد استخدام الأسلحة الكيماوية، وجد تعويضا نفسيا عن عجزه المخزي بقرار تجريد الرئيس الأسد من سلاحه الكيماوي. والوزير كيري المبتهج بقرار الأسد تطبيق قرار مجلس الأمن يمتدح الأسد، ويعتقد أن عملية تدمير الأسلحة الكيماوية بدأت في زمن قياسي و”نحن ممتنون للتعاون الروسي وكذلك طبعا للامتثال السوري قائلا أعتقد أنه أمر بالغ الأهمية حيث أن في غضون أسبوع… وأعتقد أن نظام الأسد له فضل في هذا بصراحة. هذه بداية جيدة ونحن نرحب بها كثيرا”. وتدور الآن فكرة في الأوساط الغربية عن إمكانية إعادة تأهيل الأسد ليبقيه على رأس السلطة في سوريا مع بعض الإصلاحات الشكلية التي تعطي انطباعا أن الجميع بخير، وأن المعركة ستنتهي بدون رابح كبير أو خاسر كبير.

هذا بالضبط هو الوقت المناسب  لتحرك من نوع آخر. فكل ما أسلفنا قوله يؤكد أن الأطراف الفاعلة على الساحة السياسية في سوريا قد وصلت إلى حائط مسدود؛ وأن المعارك العسكرية، التي كانت عبثية وباطلة، صارت أكثر عبثية وأشد بطلانا، وقوى المجتمع المدني التي لم يقتلها أو يهجرها النظام تعتقلها القوى الإسلامية المتشددة وتقتلها.

لقد حان الوقت لبدء ما يسمى في عالم السياسة الخلفية بـ “المسار 2” (track II)، حيث يتقدم عدد من المثقفين والأكاديميين والناشطين المدنيين من طرفي النزاع الرئيسي في سوريا (أي النظام والثوار) ليشرعوا في حوار حقيقي على أرضية أن الطريق باتت مسدودة وأن الخروج من عنق الزجاجة يحتاج إلى مواقف شجاعة وتنازلات حقيقية من الطرفين.

تقوم  فكرة “المسار 2” على عملية التواصل بين مثقفين وناشطين من طرفين متنازعين، ممن لا يحتلون مناصب سياسية أو إدارية في الفريق الذي ينتمون إليه، بل يعملون إما كمستقلين أو من خلال منظماتهم المدنية. ويهدف المسار 2 عموما إلى التفاهم بين الطرفين، وتحقيق خرق في المسار الأول الذي قد وصل إلى طريق مسدود.

يتطلب المسار الثاني من الطرفين شجاعة استثنائية، حيث يمكن أن يتعرض المشاركون فيه إلى اتهامات من قبل رفاقهم ومؤيديهم. كما يتطلب صبرا ومقدرة على المفاوضات وتفهم مخاوف الطرف الآخر. ويشترط بداية أن يكون هؤلاء الأشخاص قادرين على التأثير في الطرف الذي يمثلونه، ولديهم قاعدة شعبية تؤمن بهم، وتدرك أنهم يعملن لمصلحة سوريا والسوريين في النهاية.

يدرك النظام –  أو عليه أن يدرك –  أنه لا يمكن أن يستمر كنظام قمعي دكتاتوري برموزه القمعية وبالسفاحين الذين ارتكبوا المجازر ضد السوريين في كل مكان. وتدرك المعارضة – أو عليها أن تدرك – أنها وصلت إلى مكان لم يكن السوريون يرغبون في الوصول إليه أو حتى يتخيلون إمكانية الوصول إليه.

يستحق السوريون نظاما غير النظام الذي سحقهم على مدى خمسة عقود. ولكنهم يستحقون أيضا معارضة أفضل من المعارضة التي تمثلهم الآن. ولذلك من واجب أولئك المفكرين والناشطين وقادة الرأي أن يتخلوا عن مقاعدهم في الصفوف الخلفية، وأن يتقدموا ليشغلوا مكانا حقيقيا في الصف الأول: مكانا يمكنهم من الفعل، ومن قيادة العملية الإنقاذية، ويمكنهم من تغيير المغادرة القائمة التي وصلت إلى حائط مسدود.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى