إياد الجعفريصفحات المستقبل

المستقبل يرتسم بقبضة الجولاني/ إياد الجعفري

 

 

ربما يستحق أبو محمد الجولاني، زعيم جبهة النصرة بسوريا، الكثير من القدح الذي ناله من كتاب ومثقفين وساسة، سوريين وعرب، مناصرين للثورة السورية بصورتها البهية التي انطلقت ربيع عام 2011، ولمطالبها الديمقراطية والمدنية. وبطبيعة الحال، يمكن لي، ولأمثالي من الكتاب، ذوي الخبرة بالشأن السياسي، أن يُعددوا مثالب ما قاله الرجل، وربما أبرزها عدم تقديمه لتصور واضح لشكل الحكم بعد سقوط نظام الأسد، وحجم دور “النُصرة” فيه، وما الذي سيمنع نشوء استبداد آخر تحت لافتة تحكيم شرع الله، حينها؟

لكن ما فات الكثيرين، أن الرجل الذي تحدث بلغة مبسطة للغاية، تغيب عنها الهيبة المُفترضة بزعيم تنظيم جهادي، كان يخاطب، بقصد أو بغير قصد، وجدان رجل الشارع العاميّ البسيط، في سوريا، وفي العديد من الدول العربية.

ذلك العاميّ الذي عانى أكثر من مرة من الخذلان، من حكامه، ومن حكام دول عربية أخرى إدعت أنها في صفه، ومن خذلان مجتمع دولي يقوده الغرب متدثراً بشعارات “حقوق الإنسان” والديمقراطية والحريات.

ذلك العاميّ الذي شهد بعينيه مصير أكبر فصيل إسلامي عرفه العرب، والموصوف لدى غالبيتهم بالاعتدال والبراغماتية، حينما دخل عالم الديمقراطية بمنحاها الغربي، وأراد أن يلعب اللعبة السياسية وفق القواعد والأعراف السائدة في المجتمع المتحضر.

هو ذلك العاميّ أيضاً، الذي رأى بأم عينيه، كيف أن أكبر دولة في العالم، تتنكر لشعاراتها البراقة بخصوص حقوق الإنسان وحرياته، لتدعم الديكتاتوريات، حتى في أعتى وأشرس صورها، وتدافع عن فئات بعينها تحت ذريعة أنها “أقليات”، فيما تكتفي بالإدانة اللفظية حينما تُسال دماء فئات أخرى تُوصف بـ “الأغلبية”.

هو ذلك العاميّ أيضاً، الذي تلاعبت دول عربية بمصيره، وراهنت على ثورته لخدمة أجنداتها، فلم تنجده في الوقت المناسب، بعدما غررت به في أوقات أخرى، لتتحرك في نهاية المطاف بما يخدم مصالحها، حتى لو على حساب دماء أبنائه، ودمار بلده.

أبو محمد الجولاني كان بسيطاً للغاية، لكنه كان فاعلاً في لمس أوجاع البسطاء، أولئك الذين لا تشغل أدمغتهم تعقيدات السياسة، ولا يفكرون كثيراً بتفاصيل المستقبل. يعيشون اللحظة، وتتملك وجدانهم آمال بغدٍ أفضل، تصبو عيونهم صوب ليبرالية غربية شكلت نموذجاً جذاباً يداعب خواطرهم، لكن سرعان ما يصدمهم الواقع، بقذائف الأسد وبراميل حقده، وسط صمت الغرب، وتلكؤ العرب والمسلمين، فيرتد هؤلاء البسطاء إلى وجدان غيبي، ليأتي قائد فصيل جهادي، يقتص لهم على الأرض، ليعيد إحياء الماضي التليد في أذهانهم.

خياران أمام هؤلاء البسطاء من العامة، في الشارع السوري المحتضر، في مناطق سيطرة المعارضة، أو في مناطق سيطرة النظام، ممن يوصفون بـ “الأكثرية”، إما ديمقراطية ليبرالية على النمط الغربي –النموذج الحلم-، لم يساعدهم أحد على تحقيقها، ولم تتوافر لديهم البنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية الكفيلة بتحقيقها بأنفسهم، وإما “إسلامية – خالصة”، تقطع مع العصر الراهن، وتعيد إحياء ماضٍ يُداعب “لاوعيهم”.

وجّه الجولاني رسائل عديدة في لقاءاته، لكن أكثرها تأثيراً، في ظني، تلك التي وجهها للبسطاء والعامة من السوريين في الداخل، من تلك الفئة التي يشكل الدين ملاذها النفسي بصورة تُعينها على تحمل مآسيها. قال لها ما يقوله لها “لاوعيها”…”من مدّ لكم يداً صادقة ليُقيلكم من عثرتكم هذه وينهي مآسيكم؟…..لا أحد…لذا، ليس لكم إلا أنفسكم، وبمنهج مختلف عما يريده لكم هؤلاء، ممن يدعون صداقتكم، لكنهم لا يفعلون شيئاً لإنقاذكم….”.

ليس الجولاني وحده من استطاع أن يُصيب الهدف في وجدان البسطاء، بل تنظيم “الدولة” أيضاً امتلك الخطاب المناسب لذلك، عبر اللعب على وتر الغرائزية الانتقامية لدى هؤلاء البسطاء، وإن كان الفارق بين الاثنين، أن بربرية الأخير كانت كفيلة بإدبار الكثيرين عنه، فيما سماحة الأول كانت كفيلة بتوسيع الحاضنة الشعبية التي تتقبله بامتياز.

أظن أن أحمد منصور لم يكذب حينما قال بأنه لاحظ ل “النُصرة” حاضنة شعبية كبيرة، فماذا نتوقع من شارع يغلب عليه العامة والبسطاء، بوجدان ديني نابض، خابت آمالهم بالغرب وبالجيران والأهل أكثر من مرة، ليتصدى لمأساتهم ثلة من المقاتلين، يرفعون شعار “الجهاد” بما له من رمزية في وجدان هؤلاء. ماذا نتوقع من جمهور يتم برمجة عقله على أن تصفية “الأغلبية” مُباح في نظر المجتمع الدولي، فيما النيل من “الأقليات” جُرم لا يُغتفر. كيف يمكن لهذا الجمهور ألا يصبح مُتطرفاً، وأن يقبل التطرف، وكيف يمكن لجمهور كهذا ألا ينتكس إلى الماضي بغيبياته، ما دام الحاضر غير مُحتمل، والمستقبل يلوح بالأسوأ.

في نهاية المطاف، يجب على النخب من الكتاب والمثقفين أن يُدركوا أن الشارع منفصل عنهم، وملتصق بمن هو أقرب لمآسيهم، وما دام الفاعلون الدوليون والإقليميون لم يتخذوا قرارهم بعد لوضع حدٍ لمأساة بسطاء وعامة هذا الشارع، فعليهم أن يتوقعوا أن يكون هؤلاء حاضنة حصينة للنُصرة وشقيقاتها، وعليهم يومها أن يُدركوا أن المستقبل سيرتسم بقبضة أمثال الجولاني، مهما كانت مقدرات الرجل هينة في أنظار النخب ومحترفي السياسة.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى