صفحات الحوار

المسرحيان محمد وأحمد ملص قبل اعتقالهما في دمشق: فوجئنا بالرقابة اللبنانية.. وتعرضنا لحملة تخوين على ‘فيسبوك’


  بيروت ـ ‘القدس العربي’ ـ من مازن معروف: ‘الثورة غدا تؤجل إلى البارحة’ كان اول عروض الاخوين التوأم السوري محمد وأحمد ملص في غرفة صغيرة خلف خشبة مسرح دوار الشمس في بيروت.

لم يمر النص عبر الرقابة اللبنانية، تملص منها، ليصب مباشرة في وعي المتفرجين اللبنانيين، الذين حدد عددهم وفقا لما تستوعبه الغرفة. حاكى مناخ غرفة العرض، مناخ المسرحية، وقتامتها في الدقائق الاولى، بحيث تبدأ محملة بالتوتر، ومن ثم ينكسر ذلك الخوف الذي يمثله الأخوان، لينفتح النص على حوارات سياسية واجتماعية بين شخصيتي العمل: متظاهر معتقل ورجل شرطة يحقق معه. كتب الأخوان ملص العمل وأخرجاه، بأسلوب ذكي، مقتضب، لا تطويل فيه ولا نعي، لا بكائيات ولا تكريس لمشاهد الشهداء والدم. كان حوارا مُسائلا في الواقع السوري، والمكون الاجتماعي في تلك البلاد، وقد نجح ملص في رفع النص إلى مستويات درامية متوازنة في الكثير من أجزاء العرض. بعد انتهاء المسرحية، كان علينا انتظار الأخوة ملص، ريثما يخرجان من ‘غرفة التحقيق’ لإجراء هذا الحوار معهما.

(هنا، كان يفترض أن تنتهي هذه المقدمة، لأبدأ بكتابة الأسئلة التي طرحتها على الأخوين ملص، ومن ثم إجاباتهما. لكن، وللمفارقة المرة، فإن الاخوين ملص اعتقلا في سورية بينما كنت اعمل على تفريغ هذه المقابلة، وهما يقبعان الآن بشكل فعلي، لا ادبي، ولا مسرحي، ولا مجازي، في غرفة التحقيق):

* هل كان عملكما ليحظى بفرصة عرضه في بيروت، لو مر على الرقابة اللبنانية؟

* كنا نعتقد أن الرقابة اللبنانية جيدة، لكننا احسسنا انها ليست بهذا المقدار من الليونة. لكنها قياسا بالرقابة السورية، نستطيع أن نعتبر الرقابة اللبنانية مرنة، لكنها في حقيقة الأمر ليست مرنة على الإطلاق هي الأخرى. عرضنا العمل في سورية بدون إمراره على الرقابة. جهاز الأمن في سورية سيئ جدا، والمعالجات الامنية في سورية غير حكيمة بالمرة، وهي المشكلة الاولى والأخيرة لما يحصل الآن في سورية، إلا أن هذا الجهاز لم يتعرض لنا هناك. المؤكد أنهم عرفوا بوجودنا وبعرضنا، وقد تعرضنا لحملة شعواء على فيسبوك، تضمنت اتهامات بالتخوين والإهانات والشتائم والسباب. عرضنا العمل في بيتنا في دمشق، في الغرفة التي نقيم. الكثير من الناس خافوا أن يأتوا لمشاهدة المسرحية، إلا أن البعض ممن يؤيدون الثورة، تحلوا بجرأة أعلى من أولئك وأتوا. طبعا نحن نتفهم موقف أولئك الذين خافوا حضور العرض. لكن بعض هؤلاء اتي في مرحلة لاحقة، فيما البعض الآخر لم يجرؤ على حضور المسرحية حتى الآن. هناك من يصدق أن كل من يدخل منزلنا لمشاهدة المسرحية يتم تصويره بالفيديو، ليعتقل في مرحلة لاحقة. نحن لا نلوم الخائفين، لكننا نلومهم في نفس الوقت. فاولئك عاشوا حياة كانوا فيها خائفين، وإذا استمروا في الخوف، وخافوا الآن، واكملوا في حالة الخوف مستقبلا، إذن، متى سنشهد الحرية؟ هل علينا انتظار غودو؟ كلا، هو لن يأتي لو كنا سنجلس وننتظره.

* فلنتحدث عن المسرحية، كي لا ننكر ابعادها الفنية لمصلحة الخطاب السياسي او انعكاس الحالة الراهنة في سورية من خلال النص. هناك ميلودراما، وتراجيديا، وكوميديا. هناك أكثر من مناخ مسرحي في العمل، وكلها موظفة بصورة مقتضبة، ومدروسة وحادة بلا زوائد. احسسنا اليوم باننا في غرفة تحقيق سرية تحت الأرض، وهو المناخ الذي تقاطع مع مناخ العمل المسرحي، حيث هناك مواطن معتقل لمشاركته في إحدى التظاهرات، ورجل امن في الغرفة نفسها. مناخ العمل مقفل إلى حد كبير، وهناك شخصيتان حادتان. تنفصلان عن بعضهما وتنعتقان في قناعتهما في بعض اجزاء المسرحية، ومن ثم تتقاربان في أجزاء اخرى تزكية للمكون الإنساني النهائي الذي يجمع بينهما.

* هناك اشتغال إذن على المسافات في النص. ما مدى أهمية أن يكون المناخ الذي يهبه المخرج للجمهور متصلا بروح النص المسرحي؟

* لا شك أن ذلك يساعد جدا. المخرج المسرحي البولندي ييجي غروتوفسكي كان يشتغل على الطقس، فيؤدي عملا في الكنيسة، ويختار احيانا جمهورا قليل العدد إلى حد بالغ، كي لا يؤثروا على الجمهور. وهو ما يمد العمل بأبعاد طقوسية، مشدودة وقوية. أردنا إدخال الجمهور في هذه الحالة، لهذا لم نقدم العمل على خشبة مسرح عريضة، بل ضمن حيز مغلق ومحدد. دائما نقدم عروضنا في سورية بهذه الطريقة. لدينا غرفة هناك مربعة الشكل. اشتغلنا في تلك الغرفة أربع تجارب. في كل تجربة كنا ننطلق من زاوية، وكان الشكل يخضع للمتغيرات باستمرار. كان يدخل الناس ليروا الغرفة مرارا بصورة مختلفة. الطقس يلعب دورا مهما، والربط بين المناخ الداخلي و’الخارجي’ أساسي في مثل هذه العروض. يصبح الجمهور متفرجا على تحقيق ‘حقيقي’ بين ضابط شرطة ومتظاهر، لا ممثلين يؤديان دورين محددين. العمل مشغول بأسلوب واقعي، لم نعتمد مثلا في الموسيقى تقنية البلاي باك. كنا نشغل المسجلة ونطفئها أمام الجمهور. نحن فعلا سعينا لهذه الطقوسية في العمل، ونأمل ان نستطيع الاستمرار لنحقق تجارب جديدة في هذا الموضوع.

* أريد لو نتحدث عن المسافات الدرامية بين الشخصيتين. كل شخصية تبدو أحيانا متطرفة في قناعاتها، ومتمسكة بها إلى حد الموت من أجلها. لكنهما أحيانا أخرى، ينعتقان في مسوغات اجتماعية وإنسانية توحد بينهما، وتقربهما إلى دور يوشكان فيه ان يصبحا صديقين. هل كان واقعيا أن تكتبا هاتين الشخصيتين بهذه المرونة مقابل التعنت الذي يواجهه المتظاهرون السوريون من قبل رجال الأمن؟

* هذا العرض، يختلف عن العروض الباقية التي كتبناها. ليس الموضوع متعلقا بالصعوبة او السهولة، بل بما تختزنه في عقلك الباطني بشكل مباشر. إنك ترى كل تلك المشاهد في الشارع يوميا، عن القمع والقتل وملاحقة المتظاهرين. لن يكون امامك سوى أن تمسرح هذه الحالة المعقدة، والصعبة. وليس بالضرورة أن يصبح كل ما تمسرحه مسرحا، بل أن تضخ فيه الحياة، وان تمده بابعاد اجتماعية يكون قابلا للحياة فيها، ومتحركا، وطيِّعا امام الجمهور. الصعوبة التي واجهناها فعلا تمثلت في كيفية كتابة النص من دون أن يؤدي ذلك إلى اتهام أحدهم لك بأنك خائن، أو متملق للنظام في نفس الوقت. كان علينا أن نكون متوازنين، وان نحكي كلمة الحق أيضا. نحن مسرحيان، لسنا بخائنين، ولا بمؤيدين للنظام. كنا نشتغل على خط رفيع جدا، وكان علينا أن نكون حذرين، فالجمهور يستطيع إطلاق الأحكام بسهولة علينا. وقد يسهل للنظام تصنيفنا بالخونة بعد مشاهدة العرض.

* لكنكما في المقابل، حاولتما، وبصورة حيادية، أن تُبيِّنا أيضا وجهة نظر الرئيس السوري بشار الأسد لجهة قوله بأنه أجرى إصلاحات في السابق؟

* تماما. نحن استندنا إلى كلمته حين خاطب الشعب قائلا بأنه أجرى إصلاحات عام 2000. نحن استندنا أيضا إلى الإرث التاريخي والسياسي لسورية الحديثة. ما نقوم به ليس تعليقا على الفيسبوك بل هو مسرح. كتبنا النص خلال شهر مكثف، واجرينا تمارين لشهر أيضا، ومخاض كبير. كان هناك تصميم على عدم الانزلاق إلى الخطابية المتهورة مسرحيا. لذلك، استندنا الى تاريخ السنوات العشر الأخيرة من عمر النظام السوري في عهد الرئيس بشار الأسد، وما تطرقنا إليه لم يكن وجهة نظر خاصة بشابين سوريين، بل وجهة نظر عامة يتفق عليها معظم السوريين. وهي وجهة نظر الشباب للشباب. الشعب السوري احب فعلا بشار الأسد، الرئيس الشاب، إلا أن شعبيته هذه تدهورت كثيرا، بحكم مسؤوليته كرئيس لسورية إزاء ما يجري. لا يمكنك أن تلوم شخصا قتل أحد أقربائه او عذب لأنه كان مشاركا في إحدى التظاهرات السلمية. الامر لا يخلو من وجود بعض الأخطاء الفردية، لكن لا يمكنك أن تأتي وتناقش أهل القتيل في خطأ فقيدهم.

* ألم تخافا من تقديم هذا العمل في سورية؟ ولو لم تكن الثورة السورية قد حدثت، هل كنتما تفكران في إنتاج هذه المسرحية وبهذه الحدة تجاه النظام السوري؟

* نحن بالفعل لدينا تجربة سابقة في هذا الموضوع. إذ قدمنا مرة عملا مسرحيا بعنوان ‘أنا وحالي لحالي’ وقد تعرضنا لمضايقات جمة. لكن في هذا العمل، نحن نتحدث عن الأحداث الفاقعة، وهناك ما يمس الرئيس مباشرة في هذه المسرحية. في ‘أنا وحالي لحالي’ تطرقنا إلى الموضوع الامني ومشاكل المخابرات السورية، لكن ذكر الرئيس في هذا العمل، يعتبر قفزة إيجابية، فانت لم تكن لتتوقع أحدا يجرؤ على ذكر الرئيس في عمل مسرحي، سواء إيجابا أو سلبا. إنها كلمة الحق. مهمة المسرح ان يكون كلمة حق في النهاية. لذلك، لم نخف.

* لعبتما أيضا على المعطى الطائفي في العمل، بحيث رسمتما خريطة لتعقيدات التعددية، ومرونتها وقبول الواحد للآخر في المجتمع السوري. إنها معطيات ماثلة وواقعية. ألم يكن هناك أيضا خطورة في أن ينزلق النص إلى الخطابية والكليشيه الإخباري، لوصف واقعي محدود؟

*صحيح. اعتمدنا المعطى الطائفي لسورية في العرض. هناك طوائف عديدة تعيش إلى جانب بعضها البعض، وتتآلف وليس هناك من مشاحنات طائفية أو إشكالات بسبب هذا الموضوع. النص أساسا كان سبع صفحات. وخضع لتعديلات كتابية مسرحية. اردنا للعمل ان يقف بين مستويين: ألا يكون خطابيا من جهة، وألا يكون عرض بوليفار أو كباريه سياسي ‘تنفيسي’. حاولنا أن يقيم عملنا بين هذين المستويين.

* لكن، ماذا اردتما أن تقولا من خلال هذه المسرحية؟ هل من المعقول أن يتضامن رجل الأمن مع المتظاهر أثناء التحقيق، كما أظهرتماه في المخفر؟

* دعنا نقول لك بأن رجال الشرطة والجيش متورطون جدا في مسألة التصدي للمتظاهرين. نحن لا نتحدث عن رجال الامن، أولئك الذين يضربون الناس في الشوارع كمعالجة غبية جدا لقمع التظاهرات. عنينا في المسرحية رجال الشرطة والجيش وليس رجال الأمن. لو كان المحقق في المسرحية رجل أمن او من ‘الشبيحة’، لكان قتل المواطن المتظاهر خلال خمس دقائق او أقل ولانتهت المسرحية هنا. اردنا إظهار رجال الشرطة والجيش الذين بعضهم دراويش جدا وهم محرومون من حقوقهم ويريدون الحرية كذلك. رجل الأمن نختصره في المسرحية في قصة سائق سيارة الأجرة اذ يتصدى له رجال أمن على الطريق ويسألونه إذا كان يحب الرئيس، فيقول ‘نعم’ فيأمرونه بأن يعلق صورته على السيارة، فيرفض قائلا ‘أنا أحب الرئيس لكنني لن أعلق صورته’ فيضربونه ويعتقلونه. إذا كنت تحب الرئيس ولم ترد أن تعلق صورته، فسيعتقلك رجل الامن او يقتلك. لكنك إذا علقت صورة الرئيس وأنت لا تحبه، فيدعونك تمضي في سبيلك. هناك عقلية ساذجة. هي ليست عقلية عسكرية، لأن العقلية العسكرية تشتمل على استراتيجيا وذكاء. هي عقلية خاصة بتربية هؤلاء السياسية البعثية. سورية تصبح بلدا حقيقيا وحرا يوم يسمح فيه بعرض أفلام عمر اميرالاي. تصور ان افلامه ممنوعة. مدير مؤسسة السينما رجل أمني حرمنا من افلام عمر اميرالاي ونحن نطالب باسقاطه أيضا. مات عمر اميرالاي، ولم نحظ بأفلامه. وهو مخرج ذو فكر سينمائي عظيم. لكن المركز الثقافي الفرنسي في دمشق تجرأ وتحدى وعرض الأسبوع الفائت فيلم اميرالاي ‘الحياة اليومية في قرية سورية’.

* تطرقتما أيضا إلى الصعوبات اليومية التي تعانيها سورية الآن، كغلاء المواد التموينية والخضار والتردي الاقتصادي، كما ذكرتما في المسرحية قصة أخوين توأم، أحدهما ينتمي لجماعة الأخوان المسلمين، والآخر شيوعي، لكنهما يعتقلان من قبل رجال الأمن. هل هي قصص حقيقة، أو أنها صنعت لضرورات رمزية ومسرحية؟ كيف يقرأ الأخوان ملص الوضع في سورية، بأبعاد الواقع وليس الدراما الممثلة على الخشبة؟

* هي صحيحة، لكن ليس بالشكل الكامل. تمت مسرحة هذه القصص بشكل يعبر عن واقع الأمر، وفي نفس الوقت، يكون رمزيا كما قلت في العمل. لا فرق بين الشيوعي الملحد والمصلي في المسجد بالنسبة لرجال الامن، فكلاهما عرضة للاعتقال. تصور ان مؤيدي الرئيس السوري يقفون على باب المسجد ويقولون ‘يا الله حلّك حلّك.. بشار يقعد محلك’. هذه موجودة، ويقولونها بعد صلاة الجمعة. إنها قمة الاستفزاز للمصلين. هذا امر قاس جدا. تصور، يقولون هذا لأناس فور خروجهم من صلاة الجمعة. ماذا تتوقع بعد؟ بالنسبة إلى مستقبل سورية، نرى ان النظام الذي سيسقط لا محالة هو نظام المخابرات السوري، وحزب البعث. اما بالنسبة للرئيس، فلا يمكن توقع أي شيء. اما جهاز المخابرات وحزب البعث، فقد استنفدا كل وسائلهما. الناس تخرج لتقول ‘الشعب يريد إسقاط النظام’ ويكسرون تمثالا. لكن الناس في قرارة أنفسهم، يريدون رحيل جهاز المخابرات وحزب البعث. هم طبعا يطالبون برحيل الرئيس أيضا، لكن الاهم هو رحيل نظام المخابرات. الاهم بالنسبة لنا ليس رحيل نظام الرئيس السياسي، بل نظامه الامني. الامر مشابه لما في مصر. تنحى مبارك، لكن هناك رجال أمنيون كانوا في عهده ولا يزالون. أية حياة علينا ان نتوقعها في ظل أن وزارة الثقافة مثلا، تقوم بمعاجة شؤونها باسلوب أمني. النص المسرحي يمر عبر المخابرات، والمشاركون في المهرجانات الثقافية والأدبية خارج سورية يتم اختيارهم من قبل المخابرات.

*إذا حصل التغيير في سورية، هل سيشهد المسرح السوري أفقا أرحب برأيكما؟

*المسرح السوري من زمان، يتميز باتساع أفقه. صحيح أنهم عملوا على تغييبه وتضعيفه، لكنه ذو أفق. هناك عروض ممتازة فعلا كمسرحية ‘المهاجران’ مثلا للمخرج سامر عمران، وهي مسرحية غيرت الكثير بالنسبة لاعتبارات المسرح. كما ان هناك عرضا سورية قدم منذ مدة لشخصيتين هما رأفت الزرقوط وزهير العمر. هناك عروض مسرحية مذهلة حقا. نحن نظن ان المسرح في سورية قوي، لكنه سيصبح عظيما.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى