أنور بدرصفحات الثقافة

المسرح السوري اليوم: بين خشبات العرض وغياب الجمهور

 

أنور بدر

 عطلت الثورة الحياة الطبيعية للسوريين، أم أنه قمع النظام ووحشية الحرب ضد المتظاهرين هي التي عطلت حياتنا؟ ليس مهماً البحث عن أسبقية الدجاجة أم البيضة؟

المهم أننا منذ عامين نعيش حياة استثنائية، حياة مليئة بالأزمات المعيشية، أزمة مواصلات، أزمة وقود وتدفئة، أزمة كهرباء وإضاءة، أزمة انترنيت مقطوع واتصالات سيئة، وصولاً لأزمة رغيف الخبز في كثير من المناطق، والذي تجاوز سعره فيها 300 ل.س للكيلو غرام الواحد. فكيف هو حال الثقافة من كل ذلك؟

أعتقد أن السؤال يخفي الكثير من التفاصيل في عموميته، لذلك سنتوقف مع حال المسرح في سوريا باعتباره أبو الفنون جميعاَ، وهو فن جمعي، يحتاج إلى نص ومخرج وممثلين وفنيين لإنجاز العرض أولاً، وفي مستوى آخر هو يحتاج إلى عرض وجمهور لمشاهدته والتفاعل معه، وبالتالي يحتاج المسرح إلى جهد مؤسسات حقيقية للنهوض به.

المشكلة أن المؤسسة الرسمية المعنية بهذا الموضوع ‘مديرية المسارح والموسيقا’ كانت ولا تزال تعاني الكثير من الأزمات قبل الثورة وبعدها، أزمات في مستوى الأجور، في مستوى البنية التحتية وصالات العرض، في مستوى الادارة الثقافية، وفي علاقة المؤسسة مع الفنانين والفنيين عموماً، مؤسسة بيروقراطية كباقي مؤسسات الدولة، وظيفتها خدمية بالأساس، لكنها ابتعدت عن وظيفتها الأساسية في رعاية المسرح والمسرحيين لترعى مصالح إدارتها والموظفين، وقد جاءت الأحداث في سوريا لتمنحها تبريرا للعجز، وتعفيها من أية مسؤولية، فألغي مهرجان دمشق المسرحي كما ألغيت باقي المهرجانات الفنية والثقافية، وتقلص عدد العروض فيها باستثناء تلك التي حملت توقيع وزير الثقافة مؤلفاً أو معداً بالحد الأدنى. واستمرت في وهم الانتاج المسرحي، لكنه انتاج بلا جمهور وبلا وظيفة تفاعلية.

مع ذلك تُصرْ مديرية المسارح على تقديم بعض العروض، ففي العام المنصرم تابعنا عرض ‘كلهم أبنائي’ تأليف آرثر ميلر وإعداد وزير الثقافة حينها رياض عصمت من إخراج مأمون الخطيب، عرض ينقل أحداث المسرحية من زمن الحرب العالمية الثانية إلى زمن الحرب في العراق، لينتهي بإدانة الولايات المتحدة الأمريكية في رمزية انتحار الأب بعد محاكمته في صفقة أسلحة وقطع غيار غير صالحة. ويبدو أن هاجس الحرب شكل دافعا للسيد الوزير كي يشتغل على مسرحية أخرى للمسرح القومي، لانها حملت بصمته كاتباً هذه المرة، وجاءت بعنوان ‘ماتا هاري’ وبتوقيع هشام كفارنة مخرجاً، دون أن نعرف سبب اختيار المؤلف لشخصيات وأماكن أجنبية في عرض حمل صفة النص المكتوب وليس الاعداد، فنتابع ‘ماتا هاري’ التي تركت زوجها الهولندي وجاءت باريس لتعمل احتجاجا على خيانته، ثمّ تنزلق إلى العمل الجاسوسي في ألمانيا ضد فرنسا التي أحبتها، ماذا يريد السيد الوزير بذلك؟ كما قدم المخرج مانويل جيجي عرض مس جوليا المعاد أكثر من مرة من إعداد سيادة وزير الثقافة أيضاً.

هنالك عرض كان يمكن أن يكون مهما، فنص ‘هملت’ لشكسبير غني عن التعريف، فكيف إذا حمل توقيع وزير الثقافة معداً، ومن إخراج عروة العربي، فقط لو اكتشف المخرج حقيقة أن ‘هملت’ يمكن أن يستيقظ متأخراً، لكن وزير الثقافة لم يستيقظ، حتى بعد أن غادر منصبه في آخر تعديل وزاري بهدف الاصلاح!

وفي جعبة الموسم الفائت أيضاً بعض العروض الأخرى، فالدكتور.منتجب صقر قدم كمخرج عرض ‘أناتولد فيلد’ للكاتب السويسري هيرفيه بلوتش، وكفاح الخوص قدم عرض من كتابته وإخراجه باسم ‘حكاية بلاد مافيها موت’، ربما قاربت هموم السوري الذي يهرب بلا جدوى من الموت الذي يحاصرنا في كل لحظة، دون أن يعمق العرض هذه المقولة. وأخيرا لدينا مونودراما ‘ليلة الوداع’ للكاتب جوان جان ومن إعداد وإخراج سهير برهوم وتمثيل فيلدا سمور، التي مرت بنا على حيواتها مع الزوج والأولاد والأحفاد لتعود إلى وحدتها التي يخرقها مواء قطة، تستأنس بها قليلاً قبل أن تهرب من النافذة، لكنها تُشكل دافعا لها للخروج من المنزل، لتقطع مع الوحدة والعزلة التي عاشتهما.

في الموسم الحالي 2013 لدى مديرية المسارح مشاريع أقل، لكنها تبدو أكثر تذاكيا، كلها ترغب بمقاربة الحالة السورية، فالمخرج فايز قزق يستعيد عرض ‘وعكة صحيّة’ الذي سبق وقدمه في أكثر من موسم سابق، لكنه سيقودنا هذا العام إلى موقعه مما يجري في سوريا، لا أحد من الورثة يهتم لمصير الأب المريض، الكل يقاتل على حصته من التركة فقط، فإلى أي درجة ينجح قزق في إقناع الجمهور بالتعاطف مع ذلك المريض؟ وهل ستسمح له الأحداث باستكمال قراءته للمأساة السورية؟ خاصة وأن البروفات قد توقفت مؤخراً لأكثر من سبب.

كذلك الأمر يستعيد عروة العربي نص ‘المرود والمكحلة’ لعدنان العودة، الذي سبق وقدمه المخرج عمر أبو سعدة، ليطرح إشكالية الهوية السورية ضمن كثافة التلوينات الاجتماعية والأثنية في سوريا، عبر ثلاثة أجيال يعيشون زمن الأزمة الراهنة، فهل ينجح العربي في قراءة الإشكالية بجرأة وواقعية تناسب حرارة المعاش في هذه الأزمة، أم أنه سيردد علينا معزوفة بلاد العرب أوطاني؟

العرض الوحيد الذي قدم حتى الآن في هذا الموسم تحت عنوان ‘ليلي داخلي’ لسامر اسماعيل في أول تجربة إخراجية له، إذ سبق أن لعب كممثل دور الرجل الصامت في ذات العرض الذي قدمته مها الصالح قبل وفاتها باسمه الأصلي ‘خطبة لاذعة ضد رجل جالس’ عن نص لماركيز، والسؤال لماذا اختيار هذا النص حالياً، ولماذا التركيز على إدانة المثقف والثوري واليساري والفيسبوكي وكل المعارضة؟ ولصالح من تتم هذه الادانة؟.

ليس المهم سوية بعض العروض التي أنتجتها المديرية خلال العامين الماضيين، فالمهم أن الحياة الاستثنائية للسوريين في ظل الحرب والدمار والقتل اليومي، ألغت من اهتماماتهم ترف الثقافة، خاصة وأن كل العروض المسرحية ليلية، ولمن شاء الحضور من بقايا الجمهور المثقف والمهتم، عليه أن يُغامر بالوصول إلى صالات العرض، ومن يصل منهم عليه أن يُغامر بالعودة إلى بيته، إذا توفرت له وسيلة نقل، فالمواصلات بين دمشق وريفها شبه مقطوعة ليلاً، ومقطوعة في النهار بعض الأحيان، وحتى بين أحياء دمشق العاصمة يمكن للحواجز أن تعيق الحركة لساعات، لكن الأهم من كل ذلك أن العرض العسكري المستمر منذ عامين في سوريا أخذ الجمهور إلى منصات أخرى وعروض شوارع أكثر حيوية، وحتى من لم يتمكن، أو من لم يشأ، مشاهدة هذه العروض الجديدة والتفاعل المباشر معها، تتكفل الموسيقا التصويرية التي تمتد ليلاً ونهاراً في تجسير العلاقة معهم، في إجبارهم على التفاعل، فلم يعد لدينا مساحة للحياد في معركة الموت المستمر، موت نكاد نتنفسه مع الهواء، ونحس بنكهته مع القهوة الصباحية لمن تتوفر لديه القهوة، موت يطل من عيون الأطفال الذين يفترشون حدائق دمشق مع بقايا عائلاتهم، موت ينادينا بلا صوت، يحيلنا إلى مونولوجات داخلية تذكرنا بالمونودراما التي نعيشها كأفراد، ونحولها إلى حوارات في بعض الأحيان بيننا كسوريين.

هناك بعض العروض لفرق خاصة في المحافظات، ومشروع جديد للورشة المسرحية التي اشتغل عليها د.أسامة غنم سابقاً في عرض ‘المهاجران’ و’حدث ذلك غدا’، العرض الجديد لهارولد بنتر بعنوان ‘العودة إلى الديار’ وينتج بدعم من ‘الصندوق العربي للثقافة والفنون’ وبالعامية أيضا، وبانتظار أن يختار كباقي عروض الورشة المكان البديل عن المنصة في العلبة الايطالية.

فإذا تركنا هذه التجارب على أهمية بعضها، يبقى السؤال عن الجمهور الغائب، أي مسرح بلا جمهور؟ وكيف للجمهور إن وجد أن يتفاعل مع هذا المسرح؟ وأي مسرح نقدم له؟ يكفي زيارة واحدة لأي من العروض السابقة في مسارح القباني أو الحمراء، لنكتشف غالباً بعد يوم الافتتاح أن العاملين في العرض يوازون من حيث العدد الجمهور الذي تجشم عناء الحضور في هذا الظرف الصعب. وفي هذا الظرف وفي هكذا شروط يفقد المسرح وظيفته، بينما تستنر مديرية المسارح في تسجيل حضورها وتسجل فعالياتها، وتأكيد بعض المقولات التي تصبّ في حقل السياسة فقط.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى