صفحات الرأي

المســـتقبل يبـــدأ الآن


عباس بيضون

نحن الآن في المستقبل. منذ أكثر من عام بدأ في تونس وفي مصر وليبيا واليمن وسوريا. لقد تغيرت منذ ذلك الحين وجهة الزمن. أيا كان الأمر فقد بات إلى الأمام. بل بتنا نحن في الزمن. خرجنا أخيراً من ماض ظل رابضاً على صدورنا قروناً كاملة. خرجنا وباشرنا الخروج، خطونا الخطوة الأولى الضرورية. قد نكون خبطنا فيها خبطاً. قد نكون تعثرنا. إن قروناً من الركود لن تنجلي في لحظة. الماضي الذي تكدس لن يزول بدون مقاومة. إنها أعراف وتقاليد وتركة ثقيلة وأساليب وردود وتصورات وعادات متأرثة. عداك عن فساد غير محدود ودول ناقصة ومجتمعات ملوثة حتى اللب. كل ذلك لن ينتهي بالأمل ولا بالتمني ولا بالشعارات وهو بالتأكيد محبط وسيرتد علينا غير مرة وسينقلب علينا باستمرار. مع ذلك فإن الخطوة الأولى، الخطوة العرجاء ربما، قد حدثت والتاريخ بدأ يعمل. لم نعد كمّا مهملاً ولسنا بعد مجرد لعبة لغاصبي سلطات ولطغم حاكمة. التاريخ بدأ يعمل. ليست تظاهرات اليوم حشوداً للسلطة. إنها واعية بذاتها وبقوتها وتنزل إلى الشوارع لتسحب توكيلها للسلطات القائمة. تنزل إلى الشوارع لتفك ارتباطها بهذه السلطات ولتؤكد استقلالها عنها.

لم نقع إلى الآن على تضييق طبقي للثورات ولو ردها البعض إلى شبان الأحياء الفقيرة. الأكيد أنها حركات شبابية. ينزع البعض إلى تصنيفها خارج مجتمعات المثقفين. لم تنشأ هذه الثورات بالقطع عن مجتمعات المثقفين. لم تنشأ عن نقاش نظري وعن تيارات فكرية. لم تصدر عن مجالس المثقفين وعن أولئك الذين يبرر انشغالهم الفكري وربما نتاجاتهم أو مهنهم وسمهم بهذه التسمية: المثقفين. لكن الحركات الثورية نشأت عن قطاع واسع من الشبان لم يغرق في الجدل النظري لكنه رغم ذلك ليس بعيداً عن عالم الأفكار. إنه لا ينتجها لكنه يتلقاها ويتأثر بها. لا يجدها في الكبت والندوات فحسب لكنها تتسرب إليه من الميديا الجديدة ومن الإنترنت ومن القرية الكونية التي هي عالم اليوم. ليس هذا الشباب متضلعاً في الأفكار لكنه ليس بعيداً عن الأفكار. إنها تصل إليه وقيم الاستقلال والحرية تتحول إلى دين عالمي. الشبان ليسوا حشرات كتب، لكنهم نمط جديد من المثقفين قد لا نجده في مقاهي المثقفين وأنديتهم، لكنه أكثر معاصرة منهم. بل هو في اندفاعه وجرأته أكثر حماسة منهم وأكثر مطابقة بين الأفكار والأفعال. نمط جديد من المثقفين الذين تلقوا تقريباً هذا الوعي العالمي. إن ثوراتهم لا تحتج بشيء بقدر ما تحتج بهذا الوعي وبقدر ما هي طموح مشروع للدخول إلى العصر والسوية مع أهله. إن من يقومون بها هم من الشبان الذين تهمشهم الطغم الحاكمة أكثر وتبعدهم عن الفضاء العام وتحسهم داخل مؤسساتها العقائدية وتفرض عليهم نمطاً من اللباس والتحرك وتستغلهم في مناسباتها وأعيادها، لا يعني القول إن الحراك الحالي خلو من المثقفين. إنه بالتأكيد يصدر عن قاعدة عريضة من مثقفين نشأوا خارج مؤسسات المثقفين التقليدية وانتشروا بعيداً عنها. ثمة مثقفون ولدوا عبر الاحتكاك بالعصر وبالعالم. إنهم أحدث وأكثر معاصرة من دعاة التحديث الذين سبقوهم. المعاصرة بالنسبة لهم دعوى بديهية وهم يعتنقونها كعقيدة كونية، ويعتنقونها بدون تردد كدين عالمي. إن نشوء هذا النمط من الشبان والمثقفين هو ما فاتتنا ملاحظته وما قصرنا عن الانتباه إليه.

إلى أين إذن، ليس لدى الشبان مطالب خاصة وليس بينهم أي رابط فئوي. إنهم نوع من طليعة عريضة. إذا لم يجدوا آباءهم بين المثقفين السابقين عليهم فإنهم سينتجون، وبسرعة نسبية، مثقفيهم الخاصين لكنهم ليسوا حزبا ولو توزع بعضهم على أحزاب. حتى أحزابهم ليس لها مطالب خاصة بها. ليست شهوة الحكم هي التي تسيرها ولا الطموح السياسي. أحزابهم مثلهم. إنها إطار تحرك مجرد إطار بالنيابة عن الشعب. بقيت غالبية هذه الأطر في ميدان التحرير فيما كانت الانتخابات قائمة على قدم وساق لكن الشبان لا يتعبون. إنهم هم الذين لم يتحدروا من تصورات مثالية ويملكون قدراً من الاحتكاك بالشارع والناس وقدراً من روح عملية. لم يتعبوا رغم الإغارات عليهم. لم يتعبوا لا من حملات مبارك ولا من حملات المجلس العسكري. لم يتعبوا ولم يحبطوا. لقد فهموا فوراً أن قوتهم في تحركهم. إنهم بلا تراث يؤهلهم للنجاح في الانتخابات أو قيادة حركات جماهيرية لكنهم يملكون الطاقة الهجومية والاندفاع والحركة وهي جميعها عناصر تستقطب وتستنفر وتجمع. لقد تصرفوا كطليعة تنادي ناسها وتنادي جماهيرها. وقد أثر نداؤها وأثر كثيراً والتحق بها أناس كثيرون ليسوا مستعدين للذهاب إلى صناديق الاقتراع بحسب قرارها. لقد أحبطوا الانتخابات تقريباً وهذا الاحتساب الذي يملك جذوره في العلاقات الاجتماعية المتأرثة وفي مواصفات ليس الشبان طرفاً فيها ولا يملكون سلطة عليها وفي سياقات معروفة ومسلوكة ومحسوبة. هذا الاحتساب ليس للشبان قِبَلٌ به لذا تكلموا عن شرعية ثورية. شرعية المستنفرين في الميدان وفي الساحة والشارع. تكلموا على احتساب من نوع آخر هو احتساب الطاقة والاندفاع والطليعية الفعلية. لم يخرج الشبان من الميدان بعد أن أخلاه الجيش بل عادوا إليه. لم يتوقفوا عن الحراك بل دعوا إلى مليونية جديدة. إنهم هكذا ينغرسون أكثر فأكثر في الشارع ويؤلفون طليعة لا بد أن يلتحق بها قسم أكبر فأكبر من الشعب. فهم الشبان أن هجوميتهم واندفاعهم يمكن أن يعوضا عدم تجذرهم ولا تراثهم. لقد حافظوا على لحظة الثورة ولم يخرجوا من الشارع. حتى حين أخرسوا بالدم وبالسلاح.

إلى أين؟ إلى دولة إسلامية. الانتخابات حملتهم (الإسلاميين) إلى السلطة. لكن الشبان في الشارع لا يخيفهم أن ينزلوا إلى الميدان كل حين. إن شرعيتهم الثورية قادرة على التحرك عندما يتطلب الأمر. لا يستطيع المجلس العسكري أن يحشد في العباسية سوى آلاف. أما هم فيسيرون بعشرات الآلاف. إنهم أقلية عريضة لكنهم أقلية دينامية وشجاعة وهجومية وذات حس علمي وقادرة على التدخل في أي وقت. إنهم أيضاً أصحاب عقيدة عالمية لا بد ستنغرس مع الوقت في قطاعات أوسع. إنهم مثاليون لكنهم أيضاً يعرفون كيف يتصرفون وكيف يأخذون الأمور على عاتقهم وكيف ينخرطون في مواجهة عالمية. سيصل الإسلاميون إلى السلطة. سيكون هذا انتصاراً لهم ولعل من الأفضل أن يجتازوه. سيبقى الشبان في الشارع وسيواجهونهم فالمواجهة بدأت من الآن. ستكون هذه مواجهة بين العلاقات التقليدية والشرعية الجديدة. مواجهة ستطول في الغالب لكن الشبان وهم أقلية لن يغدوا أقل فيها. سيتراجع التقليديون وستتراجع معهم العلاقات التقليدية كلها وسينخر الواقع لكن ما سينخر فيه سيكون أسوأ ما يكونه. التاريخ بدأ يعمل، والمستقبل يبدأ الآن.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى