صبر درويشصفحات الناس

المشحم… مدرسة حياة وموت/ صبر درويش

حلّ الموت ثقيلاً على بلدات الغوطة الشرقية هذا الأسبوع. مئات المصابين دفعة واحدة كان يتوجب اسعافهم ولاحقاً تجهيز جثامين الضحايا منهم لدفنها في النقاط الطبية الموزعة في الغوطة.

الحمّام، وفي ما بعد المشحم، هو الاسم الحركي الذي يطلقه الناشطون على إحدى النقاط الطبية في إحدى بلدات الغوطة الشرقية. هنا تجري الاسعافات السريعة للجرحى كي ينقلوا في ما بعد إلى المشافي الطبية الأخرى، وهنا أيضاً يكفن الشهداء قبل البدء في رحلتهم إلى مثواهم الأخير.

أبو لؤي، المسؤول عن طاقم المشحم، كان يمتلك في ما مضى محلاً لبيع الحلويات، ووجد نفسه فجأة أمام مهمة مقدسة ضمن إطار الثقافة السائدة، إلا أن الجميع يهرب منها. “لا شيء جميلاً في عملنا”، يقول ابو لؤي. ويتابع “إلا أن طمعنا بالأجر العظيم من رب العالمين”.

كل يوم يدخل المشحم عشرات الجثامين التي قضت بسبب قصف الهاون والصواريخ، قسم كبير منها يأتي مقطع الأوصال، وغالباً ما يعمل فريق المشحم على تحسين وضع الجثامين، فيقومون بتنظيف ما أمكن، يكفنون الجثامين ومن ثم يمددونها في نعوشها، ويرسلون وراء أهالي الضحايا كي يستلموا أبناءهم.

يتحدث أبو لؤي بكثير من المرارة والحزن حول تجربته هذه، التي حولت حياته وقلبتها رأساً على عقب، قائلاً: “لقد اعتدت الموت، هذا ما أردده دائماً، ولكنني أعلم في قرارة نفسي أنني لم أعتد، إذ لا تمر عليّ لحظة لا تزورني فيها أطياف الضحايا وصورهم، ولا تمر لحظة لا أفكر فيها بالرحيل إلى أي مكان في العالم بعيد عن هنا، إلا أن شيئاً ما في داخلي يمنعني من الرحيل”.

قساوة التجربة تنسحب أيضاً على أم مازن، المرأة المسؤولة عن تكفين النساء والأطفال. تروي ما مرّ عليها، فتقول: “رأينا مناظر يقشعر لها البدن، رأينا الجثث كيف حولتها القذائف إلى أشلاء، ورأينا في بعض الأحيان كيف عجزت الأم عن التعرف إلى جثة ابنها، إلا أن أكثر ما كان يشعرني بالحزن الشديد، جثث الأطفال، ما ذنبهم؟”.

لا يكتفي طاقم المشحم بتكفين الجثامين، بل يعمل ابو لؤي على تسجيل كل ما يكون بحوزة الضحايا من ممتلكات كي يسلمها في ما بعد لأهاليهم. كما عمل ابو لؤي على جمع ارشيف ضخم يضم أسماء الضحايا وصورهم وظروف استشهادهم، وهو عمل يحتاج عادة إلى فرق مختصة، إلا أن ابو لؤي تمكن حتى الآن من إنجاز المهمة بنجاح من خلال قضائه جلّ الوقت في المشحم.

“المشحم” عبارة عن مدرسة، تم تحويلها إلى نقطة طبية ميدانية، بعدما فرضت الأمر ظروف الحرب الدائرة في المدن السورية المختلفة. اضطر العاملون في المشحم إلى الانتقال مع عائلاتهم للسكن فيه، فخصص قبو المدرسة لسكن العائلات بينما الطابق الأول يتم انجاز العمل فيه.

بالرغم من طغيان الموت في المشحم، نشأت مع الوقت علاقات بين هذه العوائل وأطفالهم الذين ملأوا المكان بضجيجهم، لتنبعث من هذا المكان المخصص للموت قدرة على الحياة قلّ نظيرها. فالعائلات والأفراد التي تقطن المشحم لا يمت بعضها إلى بعض بأي قرابة، إلا أنهم نجحوا في أن يكونوا أسرة كبيرة يشدون من خلالها من أزر بعضهم، ويعينون بعضهم البعض في الاستمرار في الحياة.

أم لؤي انتقلت هي وأطفالها للسكن في المدرسة، كي تكون بالقرب من زوجها. تتكلم وغصة في حلقها “أنا هنا كي أساند زوجي، وأعينه على عمله، رغم أنه لا يمرّ يوم ولا أقترح عليه أن نغادر المكان، وننقذ أرواحنا وأرواح أطفالنا، وفي كل مرة كان ينهي ابو لؤي كلامي بنظرته الصامتة”.

لا يوجد في المشحم أي شكل من أشكال الملكية، هنا كل شيء للجميع، والجميع يأكلون سوية ويجلسون على مائدة واحدة، يمزحون ويضحكون، ويتشاحنون كأي مجتمع صغير فيه كل شيء.

وبخلاف الدور المحافظ الذي تلعبه المرأة السورية في أغلب مدن وبلدات الغوطة الشرقية، سنجد المرأة في المشحم قد تحولت إلى ناشطة على غرار الرجال. والمدهش هنا أن ذلك تم بدعم من الأزواج؛ فأم مازن، والتي تحولت بفعل الثورة إلى ممرضة في المشحم تعمل وتتلقى الدعم من زوجها وحتى من أبنائها. تقول إنها لم تتعرض لأي ضغط من زوجها كي تترك عملها، وهي –كما تقول- مؤمنة بما تفعله، فهو عمل يشعرها بأن الثورة لا تزال مستمرة، وأن لها دور في استمرارها.

المشحم اقتطاع للزمن خارج سياقه، هو شيء أشبه بفنتازيا من نوع ما؛ لا شيء هنا عجائبي او يدعو للدهشة، كل شيء هنا بسيط حتى التداعي، لا شيء سوى علاقات انسانية تربط الأفراد إلى بعضهم وتشدهم إلى رغبة في الاستمرار في الحياة.

“أبطال” المشحم أشخاص عاديون، فقدوا كل شيء. فقدوا أحبتهم وممتلكاتهم، فقدوا أعمالهم وما ادخروه عبر سنوات عمرهم، بيد أنهم حافظوا على شيء واحد ووحيد: رغبتهم في الحياة.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى