صفحات العالم

المشهد الايراني وتأثراته على المنطقة –مجموعة مقالات-

الثمن الإيراني مقابل تحرير تكريت: التهام العراق كلّه/ مشرق عباس

فجأة، ينفعل النظام الإيراني، ويتهور، ويطالب سريعاً بثمن تكريت، حتى قبل أن تحرَّر!. يتحدث عن حقوقه التاريخية في أرض جيرانه، فيختصر التاريخ والمسافات والدماء والهويات، ما دامت ثمة هوية فارسية عميقة يريد علي يونسي، مستشار الرئيس روحاني الذي ينحدر من أصول إصلاحية، أن تكون بغداد عاصمتها، مقابل هوية مذهبية شيعية يطالب بتزعّمها حسن هاني زاده، الصحافي المقرّب من المحافظين. وأمام هاتين الهويتين، لا معنى لوجود بلد كالعراق.

للأمر أصول وجذور، وحتى عندما يصل الاختلاف الإيراني الى حدّ التقاتل داخلياً، ووضع كبار قادة «الإصلاح» في الإقامات الجبرية، فالاتفاق على الموقف من العراق يبدو محسوماً، وستدعمه دائماً عبارة «لولا إيران لسقطت بغداد» لتتحوّل الى دين ثقيل، أكبر بكثير من البلايين التي تطالب بها إيران تعويضاً عن حرب السنوات الثماني، والتي حصلت عليها مضاعفة منذ 2003.

المرجع الديني الأعلى علي السيستاني أدرك، وسط خجل معظم القيادات السياسية والحكومية العراقية وترددها، أن تصريحات مستشار الرئيس الإيراني لشؤون الأقليات علي يونسي، تقف خلفها أجندة مريبة. تعامل مع توقيت التصريح بحساسية بالغة، عندما ربطه في خطبة الجمعة على لسان الشيخ أحمد الصافي، بدور إيران في المعارك الأخيرة، فـ «المساعدة الإيرانية لا تعني غضّ الطرف عن سيادة العراق واستقلاله».

بالطبع تصريحات يونسي، التي لعبت على وتر الإمبراطورية الإيرانية، كانت بمثابة الحجر الذي حرّك الماء الراكد، ولهذا من الصعب قراءتها كرأي فردي جامح، بل بالون اختبار، على الإيرانيين والعراقيين تداول أبعاده مطولاً قبل التوصّل الى الخطوة التالية.

عندما انبرى السيستاني الفارسي الجذور، بصراحة للدفاع عن هوية العراق، صمت بعض العراقيين الذين لا شك في أنهم من أحفاد قبائل قدمت الى العراق من الحجاز خلال القرن الثامن عشر، ومنهم من أيد يونسي وزاده سراً وعلناً.

وهناك عراقيون وجدوا في تجليات الإمبراطورية الإيرانية، الأخيرة، مبرراً لتأييدهم الطائفي لـ «داعش» نكاية بالشيعة، وربما صفقوا لأبي محمد العدناني وهو يستنهض السنة في كل مكان في المعمورة، ويخصّ سنة العراق لحرب «الرافضة».

في الأوساط الشيعية المتديّنة، كانت الحساسية في أقصاها، فالنجف رائدة التشيع العربي، تدرك مغزى تلك التصريحات، وتعرف أنها مستهدفة في جوهر وجودها، عندما يراد لها أن تكون تابعة لنظرية ولاية الفقيه، وهي التي احتفظت على امتداد قرون برؤيتها المستقلّة عن السياسة، والمتسامحة مع التعايش مع المذاهب والأديان، والجاذبة لتقليد ملايين الشيعة عبر العالم، يتقدّمهم الإيرانيون أنفسهم.

«لولا إيران»، عبارة تستدعي تأويلات كثيرة، فبعض أهم السياسيين ورجال الدين الشيعة الذين عايشوا كل مكابدات حكم العراق منذ 2003، كانوا يحاولون تغيير مجرى العبارة وإعادتها الى أصول أعمق.

فلولا إيران، لكان بإمكان شيعة العراق إدارة تجربة سياسية ناجحة، تتحوّل مع مرور الزمن الى نموذج بديل للحكم، ليس فقط للعرب «الذين يكرهون الشيعة» كما يرى زاده، وإنما لشيعة إيران أولاً.

ولولا إيران، لكان الفساد أقل استشراءً، ولكانت الديموقراطية أكثر تجذراً، ولكان بالإمكان على الأقل إجبار واشنطن على تأمين البلاد بشكل مناسب كجزء من ثمن الاحتلال.

يكاد معظم شيعة العراق يحمّلون العرب مسؤولية «داعش»، فالتساهل العربي أمام التنظيمات والأفكار الإرهابية، كان سمح، وربما ما زال، بدعم التطرف.

ولكن في النسخة العراقية تحديداً، يقول بعض العارفين إنه «لولا دعم إيران لأخطاء حكومة المالكي، لكان بالإمكان معالجة أزمة المناطق السنية مبكراً وسحب البيئة التي أنتجت داعش».

ولكن، الى ماذا يرمي الجار الذي يراه هاني زاده، متسامحاً، ومحباً، ومستعداً دائما لدفع جنرالاته للدفاع عن العراق عندما يفشل العرب في ذلك؟

يعرف زاده ويونسي بالتأكيد، أن الحديث عن الوحدة التاريخية مع العراق محض «هلوسة نووية»، فالأول يحاول أن يستغفل حتى البديهيات حين يطالب شيخاً من بني كعب في مدينة العمارة، بنزع عقاله وهو رمزه وتاريخه وشرفه، فيما لم تنجح بلاده في نزع عقال شيخ بني كعب في الأحواز طوال قرون مضت!، ويتحايل الثاني على التاريخ عندما يلغي اعتزاز العراقيين بإرث سومر وبابل واكد وآشور كمكامن هوية تسبق الدولة الساسانية، ويصل الأمر أن تصادر قناة «العالم» الإيرانية دماء مئات العراقيين الذين سقطوا على تخوم الدور والعلم والبوعجيل وتكريت، بإطلاق هاشتاغ عبر تويتر باسم «رجالنا في تكريت».

واقع الحال، أن جلد العرب لشيعة العراق الذين يمثلون جوهر عروبته، ونعتهم إعلامياً وسياسياً بالصفويين والفرس، والطعن بهويتهم العراقية الأصيلة والممتدة، كان أنتج جروحاً، لا يمكن أن تندمل بسهولة. وزاده، وهو يكتب مقاله في وكالة «مهر» المقرّبة من المرشد الإيراني، عن «العروبة المزيفة»، يستحضر بدوره كل هذه الجروح، ويحاول إبقاءها مفتوحة.

غالباً، تسعى طهران الى إنتاج نصر في العراق بيد العراقيين أنفسهم وبالطبع بدمائهم، على أن يتيح لها ذلك الحديث عن زعامة إقليمية معترف بها، تكون الثمن الأميركي لتجميد برنامجها النووي.

ويؤيد بعض العراقيين في الأوساط السياسية والدينية هذا المنحى، حيث يعتبر قيادي شيعي بارز أن إيران بلد صاعد بقوة لتصدّر الإقليم، على أساس اتفاق متوقّع مع واشنطن يضع أرضية لحل الأزمة السورية، واليمنية أيضاً، وأن القبول بالانخراط تحت ظلّ إيران قد يسمح لشيعة العراق مستقبلاً بإنتاج حكم ناجح ومزدهر بحماية إيرانية، بعدما فشلت واشنطن في توفير مثل هذه الحماية.

وعلى رغم أن من مفارقات التاريخ أن يسعى بلد نصف شعبه من المقاتلين، وتغفو صحاريه على بحور من الآبار النفطية والغازية، الى حماية خارجية للمستقبل، فهذا الطرح قد يكون واقعياً على المستوى النظري، ما عدا أنه ينكر الإجابة عن اللعبة التحليلية الأولى: فإيران التي لم تسمح لشيعة العراق بإنتاج حكم ناجح خلال عشر سنوات، لأن مثل هذا الحكم يقوّض حلم الإمبراطورية العابرة على أجساد شيعة العالم، كيف يمكن أن تسمح لهذه التجربة بالنجاح اليوم وغداً؟

كل ما تقدّم لا يروق لكثير من العراقيين المقتنعين بأن إيران وقفت معهم عندما تركهم الجميع يواجهون غول «داعش»، وهؤلاء محقّون أيضاً، فالمساعدة الإيرانية يجب أن تقابل بالشكر العراقي، لكن ليس على طريقة من يقول مازحاً: «ساعدنا الإيرانيون في تحرير تكريت، وكمكافأة لهم سنمنحهم العراق بأكمله»!.

* كاتب وصحافي من أسرة «الحياة»

الحياة

 

 

عند الاتفاق على ملف إيران النووي … بيان الإيجابيات والسلبيات/ سام منسى جون بل

مع اقتراب المفاوضات النووية الأميركية – الإيرانية من نهايتها، وتنامي احتمال التوصل إلى اتفاق إطار أو ربما تسوية نهائية لملف إيران النووي، يخطر في البال المثل الذي يحاكي قصة إيران والنووي: أنها تمكنت من «بيع جلد الدب قبل اصطياده»، ذلك أن نشاط إيران النووي سمح لها بالحصول على مكتسبات ونفوذ نتيجة تمددها في الإقليم، لم تكن قادرة على تحقيقه من دون التلويح بذلك النووي.

لسنا في صدد تقويم السياسات التي أدت إلى ما وصلت إليه الحال مع إيران و في الإقليم، بمقدار ما تهدف هذه السطور إلى مناقشة النتائج التي قد تترتب نتيجة التوصل إلى نتائج إيجابية لمحادثات إيران والولايات والمتحدة ومجموعة الـ5 + 1.

والأوضاع في المنطقة عشية انتهاء المفاوضات يمكن اختصارها بالمشهد الآتي:

الانطباع الأكيد لدى المراقبين والمتابعين هو تمكّن إيران من تحقيق ما سعت إليه منذ وصول الملالي إلى الحكم بأن تلعب دور قوة إقليمية رئيسية إن لم تكن القوة الإقليمية الأهم. حققت مبتغاها على خلفية تجاذب مذهبي غير مسبوق تعبر عنه نزاعات مسلحة وتوترات سياسية حادة في غير مكان، بدءاً من العراق حيث بدأت أصوات تعلو من أكثر من جهة تحذر من تمادي النفوذ الإيراني وتحذّر من أخطار التقسيم. وفي سورية تستمر الحرب وينشط النظام في حملته على المعارضة المعتدلة على أكثر من جبهة مدعوماً كذلك بالميليشيات الشيعية وعلى رأسها «حزب الله» اللبناني والخبراء الإيرانيون. وفي اليمن الأبواب مشرعة على أكثر من يمن واحد.

أما لبنان فلا يزال ينتظر في ثلاجة اعتاد الركون إليها، وهي معدة سلفاً لمثل حالته.

هذا بالنسبة إلى ساحات النزاعات المسلحة، أما في السياسة فحال الحلفاء، أو المفترض أن يكونوا في خندق واحد، لا تبعث على الاطمئنان.

العلاقات بين أطراف الحلف الواحد في الإقليم متباينة وغير مستقرة، وبين هذا الحلف والحليف الأكبر، نعني الولايات المتحدة، تتراجع على وقع تقدم العلاقة الأميركية – الإيرانية. والصورة الأكثر تعبيراً عن هذا الواقع الجديد هو مضمون خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو أمام الكونغرس الأميركي والمستوى غير المسبوق، لعلاقاته بالإدارة الأميركية. ويمكن اختصار حال القوى المناهضة للمشروع الإيراني في المنطقة بالالتباس وانعدام الرؤية وضياع الهدف، في مقابل إشهار التدخل والنفوذ الإيراني القديم – الجديد، على خلفية الانخراط في الحرب على «داعش» خصوصاً والإرهاب عموماً، عبر ميليشيات شيعية وفي أشكال مختلفة.

في ضوء ذلك، ما هي النتائج التي قد تترتب نتيجة تسوية أميركية – إيرانية للملف النووي؟

النتائج الإيجابية

الأولى، هي تجنب وقوع حرب في منطقة حبلى بنزاعات مستمرة وقديمة، ظاهرة وكامنة. إن مراجعة نتائج الحرب في العراق وحروب إسرائيل مع «حماس» و «حزب الله» في لبنان وقطاع غزة، كلها لم تسفر عن نتائج حاسمة باستثناء سقوط ضحايا بريئة وخسائر جسيمة وغرق المنطقة في المزيد من الفقر والتخلف والتراجع. بالطبع، الشرق الأوسط لا يحتاج إلى المزيد من هذه المآسي.

الثانية المحتملة، هي رفع منسوب الاعتدال والمعتدلين في الحياة السياسية في إيران. يعتبر العارفون بالشأن الإيراني أن تسوية الملف النووي وتطبيع العلاقة مع واشنطن ورفع العقوبات من شأنه ترجيح كفة الاعتدال في إيران على حساب المتشددين، لا سيما الحرس الثوري. إن التسوية ونتائجها قد تساعد في دينامية تروض هؤلاء المتشددين، باتجاه التطبيع مع الوقائع الجديدة.

النتيجة الثالثة المحتملة أيضاً، هي أن التسوية ستنعكس على الإيرانيين في أنحاء العالم، بحيث تفتح السبل أمام الجاليات الإيرانية في بلاد الاغتراب للمساهمة باقتصاد البلد الأم وتنميته، إضافة إلى ضخ المزيد من الليبراليين والممولين والمستثمرين إلى المعادلة الإيرانية، ما يعزز كفة الاعتدال أيضاً.

النتيجة الرابعة والمحتملة أيضاً، شفاء الجرح النازف منذ عقود بين أميركا، القوة العظمى، وإيران، القوة الإقليمية، ما قد يترجم ثماراً إيجابية على الساحتين الإقليمية والدولية.

النتائج السلبية

أولى النتائج السلبية للتسوية، أنها ستسعّر التكبر والغطرسة التي ميزت أداء النظام الإيراني منذ وصول رجال الدين إلى السلطة عام 1979.

يعتقد حكام هذا البلد أنهم القادة الطبيعيون والمهيمنون على دول المنطقة. إن ممارسات النظام على مدى أكثر من 35 سنة تشي بانطباع أن إيران راغبة أولاً ومقتنعة ثانياً بقدرتها على ترويض دول المنطقة وحكامها حين تشاء أو عندما تعتقد أنهم في حاجة إلى الترويض.

إيران تعترف عشية هذه التسوية وعلى لسان مسؤولين كبار فيها أنها تسيطر على 4 عواصم عربية.

النتيجة الثانية المرجحة، هي أن التسوية النووية إذا لم تقترن بلجم التمدد الإيراني ووضع حد له، ستؤدي إلى مزيد من التوتر بين السنّة والشيعة بعامة، وبين السعودية وإيران بخاصة.

هذا التوتر يكاد يشكل الوصفة الأمثل لحروب أهلية ونزاعات طويلة بين السنّة والبيئات الشيعية في غير دولة عربية، ما يعني المزيد من الاضطراب أو اللااستقرار في المنطقة.

النتيجة الثالثة، وملامحها بادية للعيان، هي أن إسرائيل ودول الخليج وغيرها من دول المنطقة بدأت بخطوات لإعادة التوازن والرد على التوسع الإيراني.

وبتسوية أو من دونها، سترد إيران على ذلك، على رغم تفاهم إيراني – أميركي ينمو سريعاً. ما يعني أن المنطقة مقبلة على مزيد من الفوضى والاضطراب. إن تموضع دول المنطقة نتيجة التغيير الجذري الحاصل في العلاقات الأميركية – الإيرانية لا يبشر بمرحلة من الاستقرار والهدوء والثقة والتعاون بين تلك الدول.

وسط هذا المشهد، وتأسيساً على ملامح سياسة الإدارة الأميركية الحالية يظهر التبشير بترك الأطراف الإقليمية تقلع شوكها بأيديها.

كما تبدو غير مهتمة بأكثر من نزع فتيل يضطرها يوماً للانخراط بحروب جديدة، لا سيما في الشرق الأوسط، هذه الإدارة لن تلعب دور الراعي الصالح أو الوسيط العادل لتسويات أو حلول للنزاعات المتدفقة.

اللااستقرار

إن الموضوعية تحتم عدم تحميل واشنطن وحدها وزر مآسي المنطقة، فهناك أكثر من عامل سلبي يساعد على استمرار حالة اللااستقرار:

العامل الأول: ما من دولة في الإقليم أو خارجه على استعداد لتجاوز مصالحها الآنية باتجاه إطار أوسع يحتوي الديناميات المعقدة في المنطقة.

الولايات المتحدة غير مهيأة حتى الآن للضغط على إسرائيل للقبول بحل الدولتين اليهودية والفلسطينية، كما للضغط على إسرائيل للقبول بشرق أوسط خال من السلاح النووي. وعلى رغم أفول القضية الفلسطينية والنزاع الإسرائيلي – الفلسطيني، يبقى الانحياز الأميركي لإسرائيل عائقاً أمام مبادرات أميركية جدية وفاعلة على أكثر من صعيد.

وإيران غير مستعدة أيضاً للحد من جشعها لتحقيق مصالحها، حتى باستمرار السعي في صدير أهداف الثورة الإسلامية، أو عدم التخلي عن «حزب الله» مثلاً.

هذه المصالح المتناقضة كلها كما غيرها الكثير، لن تؤدي إلى استقرار أو حتى إلى توازن قوى. وإن تحقق ذلك لفترة، لن يلبث أن يضعف بحيث لا يمكن البناء عليه لتوفير مستقبل واعد للأجيال الصاعدة.

العامل الثاني، هو أن المنظمات الإقليمية والدولية تتهاوى أمام مصالح كل دولة على حدة. إن ضمور أدوار الأمم المتحدة، لا سيما مجلس الأمن، كما الجامعة العربية، هو نتيجة لما ورد أعلاه.

أما العامل الثالث، فهو دور وسائل التواصل الاجتماعي السلبي وأثرها في المستويين الفردي والجماعي، ومن دون مبالغة باتت المشاهد القاسية والعنيفة توجه القرار السياسي. وأصدق مثال على ذلك ما يقوم به «داعش» من بث مشاهد الإعدامات والفظائع لجذب الانتباه واستدراج ردود الفعل.

وفي الوقت نفسه، فإن استخدام نظام بشار الأسد البراميل المتفجرة التي قتلت الآلاف حرقاً أو خلافه لم تصل صور ضحاياه الممزقة أو المحترقة أو المشوهة إلى الجمهور.

اهتمام أقل، يعـــني ردود فـعل أقل. والنتيجة فرصة إضافية لإمعان النظام السوري في ممارسات العنف الممنهج، بـيـنما ردود الفـعل ليــست بـحـجم الجريمة.

العنوان العريض للمرحلة المقبلة «حروب صغيرة واضطرابات»، لن يحول دونها إلا رؤية أميركية استراتيجية تعترف بأن الرهان على إيران وحدها غير كاف. سياسة قادرة على الوقوف بوجه إيران ناشطة، متماسكة وهجومية، بينما العالم العربي مشوش وضعيف الرؤية.

* إعلامي لبناني

** ديبلوماسي كندي سابق. مدير برنامج الشرق الأوسط والبحر المتوسط في مركز توليدو – مدريد.

الحياة

 

 

 

كيف سنوقّف جنون التوحش هذا؟/ هيفاء زنكنة

اليكم هذه اللقطة. سبعة رجال يلتفون حول جثة مشوهة، وقد ربطوا الساقين بالحبال، وهم على وشك اما سحلها او تمزيقها. في خلفية الصورة، هناك رجل ينظر بلا مبالاة وكأن ما يقوم به رفاقه امر عادي جدا. في لقطة ثانية : ثلاثة رجال يرتدون أزياء وأقنعة باللون الأسود وهم يضطجعون في عربة عسكرية. يضعون احذيتهم على جثة شاب وهم يرفعون أصابعهم باشارة النصر. الأنطباع الأولي السريع هو لابد ان الرجال ينتمون إلى تنظيم داعش الأرهابي. لكن الحقيقة هي انهم ينتمون إلى «الفرقة الذهبية» العسكرية الخاصة، الملحقة بمكتب رئيس الوزراء العراقي باعتباره قائدا للقوات المسلحة. ومن يزور موقع الفرقة على الفيسبوك سيرى هذه «الانتصارات» معروضة بافتخار بينما لا يكف ساسة النظام عن التطبيل لأنسانية القوات المسلحة وميليشيا الحشد الشعبي.

اذا كان التعذيب في معتقل أبو غريب، باشراف جلادين أمريكيين، وفي معتقل الجادرية، ببغداد، بأشراف بيان جبر، وزير الداخلية السابق وهو من قياديي المجلس الإسلامي الاعلى، وفي معتقلات أخرى من بينها أقليم كردستان، قد أثار حملة استنكار وادانة، واذا كانت جرائم تنظيم «داعش» قد دفعت إلى تشكيل تحالف دولي لمحاربة التنظيم والقضاء عليه، فما الذي سيفعله العالم، عموما، والتحالف الدولي بقيادة أمريكا، خاصة، ازاء الجرائم التي ترتكبها قوات الجيش العراقي ومليشيا الحشد الشعبي ضد المواطنين في المناطق التي يسيطرون عليها، والتي لا تقل بشاعة وانتهاكا لحقوق الانسان من انتهاكات داعش؟

في تقرير تلفزيوني، من بين العديد من التقارير الصادرة عن المنظمات الحقوقية العراقية والدولية، بثته شبكة «أي بي سي» الأمريكية، نرى أشرطة فيديو قام بتصويرها جنود ينتمون إلى فرقة الخاصة العسكرية «الفرقة الذهبية». وهي الفرقة التي تضم مجموعة من العراقيين ممن قام الجيش الامريكي بتدريبهم منذ أيام الغزو الاولى عام 2003، في معسكر بالاردن، ليكونوا اداة لحماية المحتل والنظام من المقاومة. واشتهرت باسم « الفرقة القذرة»، تباهيا، بما نفذته من عمليات خاصة واغتيالات باشراف العقيد جيمس ستيل الذي أشرف مع السفير الامريكي جون نغروبونتي على تأسيس وتدريب قوات عمليات خاصة مماثلة للقضاء على الحركات الثورية في أمريكا اللاتينية في فترة الثمانينات. تفتخر الفرقة، بقيادة اللواء فاضل البرواري، بشعارها «ان لم تعش الحياة العسكرية، اعلم انك لم تعرف الرجولة الحقيقية»، وانها تحتل المرتبة الثانية عشرة من بين اكثر الفرق العسكرية اثارة للرعب في العالم، حسب موقعها الالكتروني.

فما الذي يقدمه افراد هذه الفرقة « الذهبية»، فخر الجيش العراقي، ومعهم مليشيا الحشد الشعبي، من «انجازات» يفتخرون بها، هذه الايام، بحيث يقومون بتصويرها ووضعها على شبكات المواقع الاجتماعية ؟

يبين فيلم الشبكة التلفزيونية، بالتفصيل، تعذيب واعدام شابين. هناك، أيضا، تعليق رجل من برج مراقبة عسكري ومن ثم رمي جثته. هذه الصور والافلام الموثقة للجرائم تم تجميعها من مصادر عدة، من بينها مواقع افراد في الجيش والحشد الشعبي. ويبين التقرير أنه بحسب إشارات الطريق الظاهرة في بعض الصور، فإنها تظهر أن الرجل الذي وضعها يقاتل مع قوات الحشد الشعبي والقوات العراقية في تكريت، مثلا.

يظهر التقرير صورا لمقاتلين من الحشد وجنودا وهم يتباهون بوقوفهم بلقطات تذكارية متنوعة، أما بجانب رؤوس مقطوعة، أو وهم يحملونها، أو يدوسون عليها، أو وهم يعلقونها على مقدمة الدبابات الأمريكية الصنع. ولم يسلم حتى الاطفال من «احتفال» الجنود بالنصر. حيث نراهم وهم يعذبون، وسط هرج جماعي، صبيا مرعوبا تم تعليقه على باب بيت، ثم قتله قرب بيته.

بالأضافة إلى التحقيق التلفزيوني ومواقع الفرقة الذهبية والفيسبوك المزدانة بصور القتل، كشفت صحيفة «التايمز»، البريطانية، عن تفاصيل جرائم بشعة أخرى، يقوم جنود بنشر صورها وعرض اشرطة تصويرها، من بينها لقطات تظهر سحل جثة بواسطة عربة «همفي».

لماذا هذه الافعال الوحشية وما يحيطها من احتفالات بالتعذيب وتشويه الجثث وسحلها؟ هل صحيح انها جزء من حملة اعلامية مضللة لتشويه انتصارات الجيش العراقي والحشد الشعبي؟ لكن الصور واشرطة الفيديو معروضة على مواقع الجيش والحشد وبامكان الجميع التأكد منها. هل هي ممارسات بضع تفاحات فاسدة كما قيل لنا عن تعذيب المعتقلين في أبو غريب وغيره بالاضافة إلى المذابح التي هي ببساطة جرائم ضد الانسانية ؟ واذا قبلنا بهذه المحاججة الواهية، أليس من المعروف ان وجود تفاحة واحدة فاسدة في سلة، يؤدي إلى فساد كل التفاح بسرعة قياسية ؟ أليس من البديهيات ان غياب المحاسبة القانونية عن جريمة ما، وافلات المجرمين من العقاب سيؤدي، بالضرورة، إلى خلق أفراد/ حشود/ ميليشيات يطبقون قوانينهم الخاصة بهم؟

وهذا هو ما يجري في العراق اليوم. حيث باتت سياسة « الحرب ضد الإرهاب»، أفضل غطاء لطرفين : المحتل الأجنبي من جهة وللنظام القمعي من جهة ثانية. ومما يزيد تعلق المحتل والانظمة المحلية بهذه السياسة انها ذات أمد غير محدد، وانها ذات طبيعة غير محددة بحكم خضوع مصطلح الإرهاب لتفسيرات مختلفة، حسب قوة الجهة الراغبة بتبني هذه السياسة. فالأدارة الامريكية، مثلا، لا تعتبر اسرائيل دولة إرهابية، مع ان ممارساتها الإرهابية ضد الشعب الفلسطيني تفقأ العيون، بل بالعكس تساندها وتدعمها ماديا وسياسيا. كما لم تشر إلى انتهاكات النظام العراقي لحقوق الانسان قبل وصول داعش، بل وشجعتها بشكل مباشر.

تشير وثائق ويكيليكس إلى ان الأدارة الامريكية شجعت على اثارة الفتنة الطائفية وتدريب القوات الكردية والشيعية (قبل ان يبدأوا استثمار قوات الصحوات) لحماية القوات الامريكية من هجمات المقاومة. وقد أطلق على الأمر العسكري الصادر بهذا الخصوص اسم « فراجو 242 « الذي يتضمن، ايضا، الاوامر المشددة بوجوب تجاهل تعذيب المعتقلين من قبل النظام العراقي.

هذا التنكيل أوالتوحش هو ما يصنع الإرهاب والتوحش المضاد يوميا وفي كل مكان. وقد ذكرنا الكاتب و البرلماني الألماني يورغن تودنهوفر بذلك في مقابلته الأخيرة مع قناة الجزيرة. فقال مستخلصا تجربة رحلاته ومقابلاته في غزة وأفغانستان والعراق وسوريا مستشهدا بالأرقام : كان عدد الإرهابيين الحقيقيين قبل إستهداف البرجين في نيويورك وغزو أفغانستان يعدّ بالمئات، وعددهم الآن، بعد الحروب ومعتقلات غوانتنامو وابو غريب والحرب ضد غزة حوالي المائة ألف.

هذا الفهم المتوارد بين الكثيرين من عقلاء العالم، من الفاتيكان إلى الليبراليين واليسارين والمنظمات الإنسانية كلها، يتوجه إلى الرأي العام والسياسيين الواعين بقيمة حياة الناس ومستواهم الحضاري، وليس إلى تجار الأسلحة وشركائهم في الجيوش والدول، والشركات الأمنية العالمية التي تشكل بمجموعها، وبالحروب المستمرة التي تغذيها بصرف النظر عمن يغلب أو يباد، أحدى أهم النشاطات الإقتصادية في العالم. كما لا يتوجه إلى الحكومات، في بلداننا، ومعظمها عصابات نهب عائلية تحت ستار الدين أو الممانعة الكاذبة، أو المذهب والمظلومية العتيقة، أوسيادة القانون الوهمية. هذه العصابات الحاكمة هي التي صنعت و تصنع الإرهاب بما تخلقه من ظلم يومي متوحش ضد أبناء بلدها، ولا تعبأ بما سيحل في البلد كونها ضمنت ثرواتها خارجه.

ان طائفية وفساد النظام الحالي وسكوته على جرائم وانتهاكات حقوق الانسان، التي لم تعد مثار جدل بل حقيقة موثقة، سبب رئيسي في مأساة العراق. ولن يتوقف تصاعد التوحش في العراق وسوريا و بقية بلداننا الا بمحاسبة المجرمين وتحقيق العدالة. فلا سلام أهلي، أو وطني، أو إقليمي ،أو عالمي، بدون العدالة، أو الأمل بتحقيق العدالة على الأقل.

٭ كاتبة من العراق

القدس العربي

 

 

 

إيران ونصيحة السيستاني/ غسان شربل

لا يكفي أن تنتزع لنفسك دوراً في الإقليم مستفيداً من انهياراته. الأهم أن يعترف الآخرون لك بهذا الدور، وأن يعتبروه طبيعياً ومتناسباً مع حجمك، وأنه ليس مؤسَّساً على حساب أدوار يستحقها الآخرون. وأن دورك ليس مشروع تهديد دائم. وأن برنامجك ليس تغيير ملامح جيرانك وإعادة صياغة بلدانهم بما يتناسب مع مصالحك وحساباتك الاستراتيجية. وتقول التجارب أن أطول الأدوار عمراً هي تلك التي لا تُبنى على ركام أدوار الآخرين، بل تترك لهم فسحة للتنفس والعيش، وأن الأدوار التي تُنتزع بالقوة معرّضة لتلقّي مفاعيل القوة المعاكسة، فضلاً عن احتياجها الدائم إلى لغة القسر للدفاع عنها.

من التسرّع الاعتقاد بأننا في ختام معركة الأدوار في هذا الشرق الأوسط الرهيب. في المنطقة المدجّجة بأفخاخ الجغرافيا والتاريخ معاً. منطقة تتّسم حدود الدول فيها بهشاشة تعززها الولاءات العابرة للحدود. منطقة تشكو ضعفاً صارخاً في ثقافة التعايش، وقبول الآخر. ثم إن الأدوار الكبرى تحتاج إلى قاعدة صحية لضمان ديمومتها… إلى لغة جذّابة واقتصاد قوي وحسن إدارة والتفات دائم إلى مشاعر أبناء المسارح التي تمارس فيها هذه الأدوار.

«إننا نعتزّ بوطننا وبهويتنا وباستقلالنا وسيادتنا. وإذا كنّا نرحب بأي مساعدة تُقدَّم إلينا اليوم من إخواننا وأصدقائنا لمحاربة الإرهاب، ونحن نشكرهم عليها، فإن ذلك لا يعني في أي حال من الأحوال أن نغضّ الطرف عن هويتنا واستقلالنا، كما ذهب إليه بعض المسؤولين في تصوراتهم». هذا ما قاله أحمد الصافي ممثل المرجعية في خطبة الجمعة في كربلاء، نقلاً عن المرجع الأعلى علي السيستاني. وأكد أن «العراق سيكون كما كان دائماً، منيعاً إزاء أي محاولة لتغيير هويته وتبديل تراثه وتزييف تاريخه». وواضح أن هذا الكلام الصريح جاء رداً على تصريحات علي يونسي مستشار الرئيس حسن روحاني الذي قال أن بغداد «عاصمة الإمبراطورية الإيرانية، ولا خيار بين البلدين إلا الاتحاد أو الحرب».

يجدر بالمسؤولين الإيرانيين التوقُّف طويلاً عند هذا الكلام، سواء اعتبروه نصيحة أم تحذيراً. إنه كلام الرجل الذي لعب دوراً بالغ الأهمية في عراق ما بعد صدام حسين، ولا مبالغة في القول أنه جنّب البلاد ما هو أدهى مما تعيشه. والحقيقة أن غياب الواقعية هو أهم ما ميّز سياسات القوى العراقية البارزة بعد سقوط صدام. افتقرت سياسات القوى الشيعية التي اعتبرت نفسها منتصرة، إلى الحد الضروري من الواقعية، لحفظ شيء من هذا الانتصار. وافتقرت سياسات القوى السنّية التي اعتبرت نفسها مهزومة، إلى الحد الضروري من الواقعية، لضبط الخسائر وترميم شيء من الموقع.

لنقترب من التفاصيل. ليس غريباً أن يكون لإيران دور على أرض العراق الذي يعيش في ظل انقسام عميق بين مكوّناته، وفي ظل مؤسسات مريضة فضحها انهيار الجيش أمام هجوم «داعش». ولكن، هل من الطبيعي أن يصل الدور الإيراني هناك إلى حد ظهور تصريحات من قماشة تصريحات يونسي؟ وهل طبيعي أن يشعر قسم من العراقيين بأن بغداد تُدار من طهران؟ وهل يؤسّس مثل هذا الشعور لقيام علاقات دائمة ومستقرة بين البلدين؟

لنذهب إلى سورية. لم يكن سراً أن النظام السوري أقام علاقة تحالف عميقة مع إيران تحت راية الممانعة. وأن إيران اعتبرت محاولة إسقاط هذا النظام بمثابة انقلاب شديد الخطورة على استثمارها الطويل الذي أدى إلى وصولها إلى المتوسط عبر «حزب الله» اللبناني. ولكن، هل من الطبيعي أن يقول مسؤول إيراني أن بلاده هي التي منعت سقوط دمشق؟ وهل طبيعي أن تصبح إيران صاحبة الكلمة الأخيرة على أرض سورية وأقوى من النظام السوري هناك؟

لنذهب إلى لبنان. يقول قادة حركة 14 آذار أن ما منعهم من بناء وضع مستقر في لبنان هو اصطدام برنامجهم الذي أُعلِن بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري بالبرنامج الإيراني الكبير للمنطقة. ويضيفون أن ممارسات عنفية وسياسية شهدتها هذه السنوات، كانت ترمي بالدرجة الأولى إلى منع إخراج لبنان من حلقات السلسلة الإيرانية.

ليس بسيطاً أن تستخدم جهات عراقية عبارة «الاحتلال الإيراني»، وأن تقتدي بها جهات في المعارضة السورية، وأن تقترب قوى لبنانية ويمنية من استخدام العبارة ذاتها. وإذا أخذنا في الاعتبار أن مستخدمي هذه العبارة هم في الغالب من السنّة، نُدرك حجم التوتر في بلدان المنطقة وهو توتُّر يؤسس لموجة جديدة من النزاع والتطرف.

يجدر بالمسؤولين الإيرانيين التمعُّن في نصيحة السيستاني. تنامي المشاعر ضد الدور الإيراني يُنذِر بتحويله عامل عدم استقرار أو تهديد لتماسك الخرائط. إننا في خضم معركة الأدوار ولسنا في ختامها.

الحياة

 

 

 

 

“داعش” عزَّز جمع الصفوف الأميركية والإيرانية/ راغدة درغام

للصفقة الأميركية – الإيرانية المنتظرة بُعدٌ فلسطيني وإسرائيلي ضمني سيجبر طهران على تغيير خطابها السياسي نحو كل من فلسطين وإسرائيل وسيعدّل في السياسة الإيرانية الإقليمية القائمة على التعويض –شفوياً على الأقل– عن التقصير العربي نحو المسألة الفلسطينية. وضوح عزم رئيس الوزراء الإسرائيلي المنتخب مجدداً، بنيامين نتانياهو، على عدم السماح بقيام دولة فلسطينية، يضع فلسطين والدول العربية أمام مفترق مهم يضطرها إلى التفكير بالبديل عن «حل الدولتين» الذي ترفضه الأكثرية الإسرائيلية– كما بات جلياً الآن. إلا أن الأولوية العربية ليست فلسطينية في هذا الوقت، بل منذ بضع سنوات، فذلك الـ «داعش» بات محرك سياسات وتحالفات ملفتة، من بينها «التحالف الدولي» الذي تقوده الولايات المتحدة ضد «داعش» ويضم دولاً خليجية مهمة، مثل المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية، ومن أبرزها تحالف الأمر الواقع بين الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية الإيرانية، في الساحة العراقية وأبعد. تطوّر العلاقة الاستراتيجية بين السعودية والإمارات وبين مصر لم يكن «داعش» محركه وإنما «الإخوان المسلمون» في مصر ببعدهم التركي، والإيرانيون في الشرق الأوسط ببعدهم العربي. إسرائيل هي الساق الثالثة في موازين القوى المختلة، التركية– الإيرانية– العربية– الإسرائيلية، وهي اليوم تزيد من زج الدول العربية في الزاوية حيث حشرتهم إيران فيها، وكذلك تركيا.

القاسم المشترك بين القوى الثلاث هو فرض الدين على الدولة. الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي أنشأتها ثورة الخميني قبل 35 سنة أتت بفرض الدين على الدولة في الوقت الذي كانت المنطقة العربية تتوجه بعيداً من الدين لاستطلاع القومية الوطنية وغيرها. الحكم «الثيوقراطي» في طهران دام إلى الآن، وأوحى لكثيرين في المنطقة العربية المجاورة بالتحوّل إلى الدين وسيلة للوصول إلى السلطة، كما في إيران.

إسرائيل ازدادت تمسكاً بفرض الدين على الدولة بإصرارها على أن تكون «دولة يهودية» بالمعنى الثيوقراطي، تمهيداً «لتنقية» إسرائيل من الفلسطينيين لتكون دولة يهودية «صافية». الكل كان يعرف المغزى من وراء الإصرار على استصدار اعترافات بـ «الدولة اليهودية»، متظاهراً بأن ذلك مجرد تعريف ليهودية إسرائيل، وليس تمهيداً لدولة إسرائيل لليهود فقط. المهم أن الدين هو أساس الدولة اليهودية في إسرائيل، تماماً كما هو أساس الجمهورية الإسلامية في إيران.

الشبه بين الدولة اليهودية والجمهورية الإسلامية بدا واضحاً للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي وجد لنفسه وسيلة للمنافسة الدينية عبر «الإخوان المسلمين»، ليس فقط داخل تركيا وإنما في المنطقة العربية، وبالذات مصر. أردوغان عمل على الإطاحة الناعمة بالعلمانية التي ميّزت تركيا بعد أتاتورك، وسعى وراء الإقحام الخشن لـ «الإخوان المسلمين» في السلطة، بالذات في مصر.

ما أتت به الثورة الثانية في مصر هو الرفض الشعبي لمبدأ فرض الدين على الدولة. مصر ميّزت نفسها عن الثلاثي اليهودي– الشيعي– السنّي في إسرائيل وإيران وتركيا، بإصرارها على رفض حكم «الإخوان المسلمين» الذي قوامه فرض الدين على الدولة.

مصر اليوم تحتل موقع الأولوية لدى الأكثرية العربية، لأنها المؤهلة لإصلاح الخلل في التوازن الإقليمي ليكون فيه وزن عربي كي لا تبقى موازين القوى إيرانية إسرائيلية تركية حصراً. مؤتمر «مصر المستقبل» الذي عُقد الأسبوع الماضي وضم 120 دولة ومؤسسة إقليمية ودولية نتج عنه إقرار 130 بليون دولار لمشاريع اقتصادية إنمائية تضع مصر على عتبة التعافي الدائم وتمكنها من استعادة الثقة والوزن الإقليمي.

أولى الخطوات كانت بـ12 بليون دولار من السعودية والإمارات والكويت لتواجه مصر التهديدات الأميركية بمعاقبتها لأنها أسقطت حكم «الإخوان»، وهذه الخطوة الآن في ما يسمى بـ «مشروع مارشال» المصري– العربي، إنما هي أساسية في بناء الوزن العربي في موازين القوى الإقليمية. كما أنها استثمار مهم في منع التسلط الديني على الدولة، إن عبر مشروع «الإخوان المسلمين» أو مشروع «داعش». وحسناً فعلت السعودية والإمارات والكويت وغيرها من الدول الداعمة لإحياء مصر كاستراتيجية ثابتة بعيدة المدى.

مصر لن تتورط ميدانياً في ليبيا مع أنها ستواجه «داعش» وأمثاله في هذا البلد الممزق بجوارها. قيادة مصر تدرك أنها تحت المجهر محلياً وإقليمياً، وهي تعي أهمية الاستثمار فيها سياسياً وليس فقط الاستثمار اقتصادياً في مصر.

فلسطين تشكل تحدياً مهماً لمصر في هذا المنعطف، سيما أن إسرائيل تريد لمصر أن ترث غزة، بل تريد الدفع بغزة في أحضان مصر لتصبح مشكلة مصر لا مشكلة إسرائيل. هذا في ما يتعلق بغزة، أما ما يتعلق بالموضوع الفلسطيني برمته، فإن التحدي لمصر هو التحدي الدول العربية كافة، وقوامه: ما العمل الآن بعدما أصبح واضحاً وجلياً أن إسرائيل لا تريد «حل الدولتين»، وأن لا مجال لقيام دولة فلسطين حتى على مجرد 20 في المئة من الأراضي الفلسطينية، وأن إسرائيل غير راغبة بـ «المبادرة العربية» التي أعربت عن الاستعداد للاعتراف بإسرائيل والتعايش معها مقابل إنهاء الاحتلال؟

خيار الحرب مستبعد جداً، كما يبدو من قراءة عاجلة للأولويات العربية، فلا أحد منها راغب في «تحرير» فلسطين. خيار المقاطعة يبدو وارداً أكثر بصيغ جديدة، على نسق ما يعرف بـBDS، إنما هذا يحتاج أيضاً قرارات حكومية عربية وغير عربية ترفع قليلاً سقف المقاطعات. ثم هناك خيار محاكمة الاحتلال الإسرائيلي والإجراءات الإسرائيلية في المحكمة الجنائية الدولية، وهذا يتطلب استثماراً خليجياً كبيراً في فلسطين لتمكينها من الصمود في وجه إجراءات عقابية أميركية وإسرائيلية ستشملها ما لم تتلقّ الدعم العربي.

الجديد أن الصفقة الأميركية– الإيرانية المتوقع لها أن تتعدى الاتفاق النووي ستؤدي بإيران إلى الكف عن المزايدة فلسطينياً لإحراج الدول العربية والخليجية بالذات، فطهران لها أولوياتها المختلفة الآن، وهي العلاقة الجيدة مع إدارة أوباما، وكذلك محاولة إرضاء الكونغرس الذي يحكم على أفعال إيران أيضاً عبر مواقفها من إسرائيل.

الرئيس باراك أوباما لن يقفز إلى التصدي لإسرائيل نتيجة ما هو -عملياً- إلغاء حل الدولتين، الذي يشكل أساس السياسة الأميركية والإجماع الدولي على السواء، بل إن المراقب للساحة الإعلامية الأميركية يجد أن هناك إلغاء لكلمة «الاحتلال» الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية واستبدالها بكلمة «تنازع» على الأراضي.

لم يعد النقاش جدياً حول ما إذا كانت إسرائيل ستختار أن تكون ديموقراطية أو تختار إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية. الناخب الإسرائيلي اختار وعود نتانياهو بعدم السماح بقيام الدولة الفلسطينية، فالرأي العام الإسرائيلي بأكثريته يريد إسرائيل دولة يهودية محضة، ويعتبر أن لا حل للمعضلة الديموغرافية سوى بنقاء الدولة اليهودية. وفي الواقع، لطالما أكدت إسرائيل لسنوات وسنوات أنها تعتبر الأردن «الوطن البديل» للفلسطينيين وقد تصرّفت على هذا الأساس عملياً، على رغم كل الوعود.

الأردن اليوم يحتمي بالوعود الأميركية التي تجعل منه شريكاً ضرورياً في محاربة «داعش»، وهو يأمل أن تمنع الولايات المتحدة حليفها الإسرائيلي من إجراءات تصب في وعوده التاريخية. إنما الاعتماد على الولايات المتحدة بات مغامرة خطيرة والاطمئنان إلى وعودها بات مقامرة، فالرئيس أوباما لن يفعل أكثر من التعبير عن القلق، فهو منصب تماماً على صنع تاريخه عبر صفقة مع إيران.

هكذا -في رأيه- يمكن إلغاء «الشيطنة» في العلاقة الأميركية– الإيرانية، إذ كلاهما وصف الآخر بالشيطان الكبير، وهكذا -في رأيه أيضاً- يمكن الولايات المتحدة سحق «داعش» عبر التحالف الأميركي– الإيراني قبل أي تحالف آخر.

«داعش» عزَّز جمع الصفوف الأميركية والإيرانية لأنه العدو «الطبيعي» للاثنين بصفته تنظيماً بخلفية سنّية هي نفسها التي قامت بالإرهاب المستوطن الذهنَ الأميركي، وهو إرهاب 9/11. «داعش» تحوّل إلى هدية لإيران في مرحلة حاسمة من العلاقة الأميركية- الإيرانية نتيجة المفاوضات النووية والمباركات الأميركية لأدوار «الحرس الثوري» الإيراني في العراق وسورية.

ذلك الـ «داعش» بات أداة الإلهاء عن الصعود الإيراني في الأولويات الأميركية وعن الهبوط الفلسطيني والسوري في الأولويات العربية. ذلك الـ «داعش» بات الأولوية الأميركية الموازية للأولوية الإيرانية لدى ادارة أوباما.

الدول العربية، وفي مقدمها السعودية ومصر، يجب أن تعود إلى طاولة رسم السياسات لاستكشاف الخيارات بواقعية وبشفافية على ضوء صعود نجم إيران أميركياً، وانحسار المزايدة الإيرانية فلسطينياً، ووضوح الخيار الإسرائيلي ضد قيام الدولة الفلسطينية، وبقاء «داعش» أداة الهاء ووسيلة تفاهمات. تفاهمات على نسق ما دعا إليه وزير الخارجية الأميركي جون كيري عندما تكلم عن ضرورة التحدث مع الرئيس السوري بشار الأسد– الرجل نفسه الذي اغدق كيري عليه المديح والإطراء قبل 5 سنوات، ثم الكيل منه بوصفه سفاحاً قبل 3 سنوات، ويريد التفاهم معه الآن بمناسبة دخول المأساة السورية عامها الخامس.

ما حدث في مؤتمر «مصر المستقبل» مشجّع لأنه انطلق إلى جديد نوعي في مواجهة التحديات لهذا البلد المهم عربياً– بقرارات ومعونات خليجية ذات أبعاد والتزامات استراتيجية. مهم إعطاء مصر الأولوية في الاستثمار فيها استراتيجياً واقتصادياً، إنما من الضروري أيضاً توسيع هذا التفكير البنّاء إلى مواقع التحديات الكبرى الأخرى مثل فلسطين واليمن والعراق وسورية ولبنان.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى