صفحات الرأي

المصاحف العثمانية.. قصة الدين والسلطة في تركيا

 

 

ترجمة وتحرير شادي خليفة – الخليج الجديد

إذا حاول أي شخص في واشنطن فهم العلاقة اليوم بين الدين والسياسة في تركيا، فلن يكون الأمر سيئًا أن يبدأ بزيارة معرض ساكلر بمتحف سميثسونيان. ويظهر على الشاشة هناك، حتّى 20 فبراير/شباط، «فنون القرآن: كنوز من متحف الفنون التركية والإسلامية». ويضم المعرض عددًا من المصاحف المزخرفة تم جمعها عن طريق الإمبراطورية العثمانية خلال حكمها لمدّة 6 قرون لغالبية العالم الإسلامي. أحدها تمّت مصادرته على يد «سليمان القانوني» من مقبرة حاكم مغولي غابر، وتظهر أطرافه المسطّحة من الذهب، مع خطوط كتابة متعدّدة الألوان. وآخر للقراءة على روح «سليم الثاني»، ويضمّ أشكالا تشبه أوراق الشجر على خلفية من اللازورد.

لكن وراء الجمال في المصاحف المعروضة في المعرض، يلقى الضوء على تاريخها أيضًا. وفي حين كثيرًا ما يصف المعلّقون تركيا الحديثة كدولة ممزّقة بسبب التنافس بين العلمانية والإسلام، يكشف المعرض عن غير قصد الطرق المعقّدة لكيفية تعايش الأيديولوجيتين معًا طوال الوقت. وفي تركيا، كما في أي مكانٍ آخر، كان الدين دائمًا هامًا حتّى لأكثر الحكومات علمانية، وتبقى السلطة مهمّة حتّى لأكثر الحكومات الدينية.

ويعرض الموقع الإلكتروني لمتحف سميثسونيان مجموعة من الخرائط التفاعلية التي تظهر «رحلات التنقّل الطويلة» للمصاحف في المعرض، بدءًا من طباعتها وتنقّلها بين المدن المختلفة، وكيف وصلت إلى مقرّها النهائي الدائم حاليًا بمتحف الفنون التركية والإسلامية. ويوضّح القيّمون على المعرض كيف «حاز السلاطين والملكات والوزراء العثمانيون على بعض من أثمن المصاحف،من خلال الشراء أو كهدية أو غنيمة حرب. ثمّ قاموا بمنحها للمؤسّسات العامة والدينية، تعبيرًا عن التقوى والسلطة ولكسب الهيبة».

ولأي شخص يهتم بالتقوى والسلطة في تركيا المعاصرة، فإنّ التاريخ الأحدث لتلك الكتب المقدّسة، يخبر بذلك. ففي القرنين العشرين والواحد والعشرين، كما هو الحال في الإمبراطورية العثمانية، فإنّ امتلاك ونقل وعرض المصاحف الشهيرة لا يزال طريقة لإظهار الولاء والحداثة والفخر الوطني.

وفي أواخر القرن التاسع عشر، رأى القادة العثمانيون أراضي إمبراطوريتهم الواسعة تتآكل أمام ناظريهم على يد الثورات القومية والزحف الأوروبي. وللحدّ من هذه الخسائر، سعى السلطان «عبد الحميد الثاني» لتعزيز الإمبراطورية من خلال الجمع بين المركزية والحداثة والتقوى الإسلامية. وفي نفس الوقت الذي بنت فيه الدولة خطوط السكك الحديد وخطوط التلغراف لربط الإمبراطورية معًا، أبرز «عبد الحميد» دوره كخليفة لكسب ولاء رعاياه المسلمين. وفي بعض الأحيان، كان العمل على بناء دولة قوية وتعزيز الشرعية الدينية يسيران جنبًا إلى جنب.

في بدايات العقد الأول من القرن العشرين، على سبيل المثال، بدأ «عبد الحميد» إنشاء خط السكة الحديد الذي يمتدّ من إسطنبول إلى مكّة. وفي الخطاب العثماني، تمّ الترويج للمشروع كوسيلة لتسهيل نقل الحجّاج إلى المدينة الإسلامية المقدّسة. لكن كما تعلم الأمريكيون من لورانس العرب، فإنّ السكك الحديدية كان يقصد بها أيضًا مساعدة الإمبراطورية في ممارسة القوّة العسكرية في المقاطعات البعيدة والمتمرّدة كذلك.

في عام 1908، سيطر الضباط الثوريون في الجيش العثماني، والمعروفون باسم «تركيا الفتاة»، على الإمبراطورية. وتركوا السلطان في السلطة كرئيسٍ صوري، واستمرّوا على سياساته في بناء الدولة، لكن مع زيادة التركيز على القومية التركية والحداثة العلمانية. وبعد عدّة سنوات من صعودهم إلى السلطة، عمدت الحكومة الجديدة إلى جمع أفضل نسخ المصاحف في الإمبراطورية، من المساجد والمقابر والمؤسّسات الدينية التي تبرّع إليها السلاطين، لعرضها في متحف جديد في عاصمة الإمبراطورية.

وكان تجميع هذه المجموعة التي تعرض الآن في متحف سميثسونيان، عملًا في إطار بناء الدولة العلمانية والتقوى العامة على حدٍّ سواء. وبالمعنى الحرفي، كانت الدولة تسحب السيطرة على المشاريع الدينية الهامة من أيدي المؤسّسات الدينية. وكان جمع الأغراض المهمّة من كل الأنواع في المتاحف الوطنية نوعًا من الفهم لما يجب أن تفعله الحكومات إذا أرادت أن تصبح حديثة ومتحضّرة وأوروبية. لكن في الوقت نفسه، تمّ إظهار ذلك كاحتفاء بالهوية الإسلامية للإمبراطورية، وتمّ افتتاح المتحف الجديد باسم متحف الأوقاف الإسلامية بحضور شيخ الإسلام «خيري أفندي الأركوبي»، رئيس المؤسّسة الدينية التركية.

وبعد هزيمة العثمانيين في الحرب العالمية الأولى، أعاد «مصطفى كمال أتاتورك» بناء ما تبقّى من الحكومة والأراضي الإمبراطورية وشكّل جمهورية تركيا. وركّزت أيديولوجية «أتاتورك» في الدولة الجديدة على الهوية القومية وليس الدين، لكن استمرّ نهج الحكومة في عرض الفنّ الديني رغم التغيير.

وقد استخدمت المصاحف بشكلٍ روتيني كهدايا دبلوماسية في أنحاء العالم الإسلامي، لترسيخ التحالفات السياسية والعسكرية. وسرعان ما تحوّل متحف الأوقاف الإسلامية بإسطنبول إلى متحف الفنون التركية والإسلامية. وجاء الاسم الجديد كتأكيد على القومية التركية، لكنّ الإسلام كان لا يزال موجودًا بشكلٍ حرفي. ومع سعي «أتاتورك» لجعل تركيا أكثر علمانية، أصبحت المصاحف العثمانية المزخرفة، في الخطاب الرسمي، دليلًا على العبقرية الفنية التركية بدلًا من التقوى الإسلامية. لكن في نفس الوقت، وفّرت هذه اللغة الجديدة على الرغم من ذلك سبيلًا للنظام الجديد، وبعض أعضائه الأقرب للتقوى والصلاح، لاستمرار إجلال الدور الذي يلعبه الدين في هوية الدولة الجديدة.

ومع تخطّي الزمن والوصول للحاضر، يبقى معنى المصحف العثماني أكثر مرونة مما قد يبدو. وفي يناير/كانون الثاني، عام 2002، وصل أحد هذه المصاحف إلى واشنطن في ظروف فريدة من نوعها إلى حدٍّ ما. فقد جلب رئيس الوزراء التركي، «بولنت أجاويد»، صاحب الفكر اليساري والملتزم بالعلمانية، مصحفًا صغيرًا يرجع إلى القرن السادس عشر للرئيس «جورج دبليو بوش». وفي أعقاب 11/9، بدت الهدية لمحة مميّزة من زعيم علماني في بلدٍ أغلبها من المسلمين الحريصين على فصل الدين عن «الإرهاب». وبالنسبة لـ«أجاويد»، كان ذلك تذكيرا للأمريكيين في سياقٍ آخر أنّ الأتراك، «سواء كنّا نحبّ ذلك أو لا»، مسلمون، وأن القرآن كان اعترافًا بالحقيقة، كما هو دليل احتفاء بالإيمان.

وليس من المفاجئ، أنّ معرض سميثسونيان اليوم، والذي أصبح ممكنًا بفضل حكومة الرئيس «رجب طيب أردوغان» الإسلامية، يأتي بقدرٍ أكبر كمظهر احتفال واحتفاء بالإيمان، مع التأكيد على المحتوى الإسلامي للمصاحف بجانب قيمتها كإرثٍ فنّي. وأكثر ما يثير الاهتمام والفضول، أنّ المعرض قد أعطى منافسي «أردوغان» من العلمانيين فرصة المشاركة في الاحتفال. فبجانب مشاركة وزارة السياحة التركية في المعرض، تشارك مجموعة «دوغان» كراع للمعرض. ويمثّل «أيدين دوغان» ومجموعته جزءًا تقليديًا من مجتمع الأعمال العلماني في تركيا، كما يملك «دوغان» عددًا من الصحف التي دأبت على انتقاد «أردوغان» بشدّة. ومن خلال سلسلة من الإجراءات القانونية ذات الدوافع السياسية، تتراوح من الغرامة الضريبية البالغة 2.5 مليار دولار إلى إلقاء القبض على موظفين ذوي مستوى رفيع، استطاعت الحكومة كسر شوكة صحف «دوغان». وتأتي مشاركة مثل تلك المؤسسات العلمانية في مثل هذه المعارض الدينية بهذا الحماس، دليلًا على نجاح «أردوغان» في دمج منافسيه في نظامه الجديد.

واستخدمت المصاحف، كما تعلّم زوار معرض سميثسونيان، بشكلٍ روتيني في أنحاء العالم الإسلامي كهدايا دبلوماسية لتعزيز التحالفات السياسية والعسكرية. وساعدت المصاحف التي تظهر في العرض اليوم على بناء العلاقات بين العثمانيين والصفويين والعباسيين والإسماعيليين والمغول والمماليك. ونظرًا لمجموعة التحدّيات التي تواجه التحالف الثنائي بين الولايات المتّحدة وتركيا اليوم، فقد تستخدم بالتأكيد لغرض التعزيز للتحالف. وإذا كان تاريخ هذه المصاحف يلمح إلى علاقة أكثر تعقيدًا بين الإسلام والعلمانية ممّا يبدو للبعض في واشنطن، فمن المحتمل أنّها بطريقةٍ ما، قد تلعب دورًا جزئيًا في المساعدة.

فورين أفيرز

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى