صفحات الحوار

المصوّر مظفر سلمان: هكذا نجوت من داعش

 

 

حاوره: محمد حجيري

مظفر سلمان من المصورين البارزين في خلال الأحداث في سوريا، خصوصاً في منطقة حلب، نشرت صوره في العديد من الصحف الأميركية والأوروبية، يبحث في صوره عن السيمياء التعبيرية والخاصة، لكن اشتداد جحيم الأحداث أجبر المصور المولود في حمص على المغاردة الى فرنسا. وكان لـ”المدن” معه هذا الحوار..

– هل من إطار قانوني يجعلك ترفع دعوى قضائية على صحيفة “تلغراف” البريطانية التي حاولت التضليل الاعلامي من خلال صورة لك؟

* بالطبع يوجد اطار قانوني، إذ أن الصورة منشورة من قبل وكالة “رويترز” منذ اكثر من سنة ونيف، وهذا كافٍ لرفع دعوى.

– كيف كانت ردة فعلك على توظيف الصورة في غير محلها؟

* هذه لم تكن المرة الأولى، لقد تكرر هذا الاستخدام الخاطئ خلال العام الماضي من قبل الكثير من المواقع الالكترونية، لكنها كانت تستخدم الصورة من دون اللجوء إلى شرح الصورة المرفق، وفي هذه الحالة لا مأخذ قانونياً ضد الوسيلة الاعلامية، لكن المشكلة تبدأ بتغيير الشرح المرافق للصورة ومن ضمنه المكان والتاريخ وصاحب الصورة، وهذا ما قامت به صحيفة “التلغراف”، وهو يعتبر خطأ قاتلاً بالنسبة إليهم، ورغم استفزازي بشكل كبير، إلا أني شعرت بالرضا عندما قاموا بتغيير الصورة على الموقع خلال 24 ساعة واضافة ملاحظة في نهاية المقال تفيد بأن الصورة الأصلية تم تغييرها بسبب خطأ، وهذا يعتبر تصرفاً مهنياً. استخدام الصورة في سياق مختلف لم يتوقف، لكني لست مهتماً لهذا الأمر، إذ غالباً ما يقوم بعض المواقع الرديئة بذلك مع الكثير من الصور، ولا توجد في الشرق الاوسط قوانين لمحاكمة من يضلل.

– متى توقفت عن التصوير في سوريا وما السبب؟

* خرجت من سوريا في تشرين الأول/اكتوبر 2013، من مدينة حلب باتجاه بيروت، ولم أعد لأسباب عدة، أولها محاولة اعتقالي من قبل داعش في حلب، وكان ذلك قبل أن تبدأ حملتهم ضد الاعلاميين، واستطعت أن أنجو لأني سوري من حمص وأتكلم العربية أفضل منهم، وهذا فاجأهم، إذ اعتقدوني صحافياً أجنبياً بسبب مظهري والكاميرات التي بحوزتي، وعندما حاولوا ان يتحققوا من كوني صحافياً قلت لهم أنا مجرد مصور هاوٍ، وساعدني في ذلك عناصر من الجيش الحر الذين كنت بقربهم، بالاضافة الى أنني اظهرت لهم الترحيب والابتسام والسرور بلقائهم وهذا منحهم شعوراً بأني لست خائفاً، وكنت على استعداد لمواجهة هذا الأمر، لكن مجرد حصوله شكل صدمة لي، بعدها صورت عدة مرات حيث كنت أخفي الكاميرات في السيارة ولا تظهر إلا على خط الجبهة مع الجيش الحر، لكني لم أعد استطيع التجوال بحرية بكاميراتي في الأسواق والشوارع كما في السابق، وهذا غيّر كل شيء بالنسبة إلي، فأنا لست مصور حرب، صور القتال والقصف والنار والموت، أي انسان يستطيع تصويرها وإرسالها، كنت أهتم اكثر بالخط الثاني، وليس خط الجبهة.

وحدث ان خرجت الى بيروت للراحة بعد ذلك والتفكير بأفضل حل وكيف يمكن متابعة العمل، وخلال إجازتي بدأت داعش حملتها في حلب ضد الاعلاميين والنشطاء، في تلك الفترة أصبحت امام خيار صعب، فلم يعد جواز سفري صالحاً سوى لبضعه اشهر، فإما ان اذهب الى سوريا وابقى هناك وهذا مستحيل مع وجود داعش، واما ان أخرج الى أوروبا وأطلب اللجوء، وهذا ما حصل.

– ما هي أكثر اللحظات الحرجة التي عشتها خلال الحرب السورية؟

* في كل مرة كنت أعتقد أني أعيش أكثر المواقف الحرجة على الإطلاق، منذ بداية التظاهرات وتهديدي من قبل رئيس التحرير المؤسسة التي أعمل فيها بالفصل من العمل وتسليمي للأمن إذا لم أتوقف عن التصوير ونشر صور لا تخدم النظام السوري، وذلك بسبب صور تظاهرة خرجت من الجامع الأموي وانتهت في ساحة المرجة ونشرت صورها في وكالة “اسوشيتد برس” باسمي الحقيقي، وبعدها اعتقلت خلال تظاهرة المثقفين، وطردت من العمل بعد الافراج عني، وبعدها عشت ستة أشهر من الضغط النفسي بسبب استمرار محاكمتي مع آخرين، ثم طلبي للتحقيق في فرع أمن الدولة بكفرسوسة بدمشق حول صور نشرتها أيضاً. موقف حرج آخر حصل غداة المعركة التي حصلت قرب منزلي وقصف دبابة النظام على البناء الذي اقطن فيه مباشرة في منطقة (عين ترما في الغوطة الشرقية) وخروجي من المنزل بكاميرتي وكومبيوتري المحمول فقط، وبعدها طلبت للاحتياط وغادرت إلى بيروت قبل نشر اسمي على الحدود، وسرعان ما ذهبت الى حلب وصورت تحت القصف، ونجوت في هذه المدينة عدة مرات ولم يكن آخرها محاولة داعش اعتقالي، واضطراري للجوء لاحقاً. لا استطيع أن أعرف حداً لدرجة الاحراج الذي وصلت إليه في كل مرة، لكن في النهاية شعرت ان اقصى درجة إحراج وصلت إليها هي اقل بكثير مما وصل له ملايين السوريين، فأنا بكامل جسدي الآن وفي أوروبا!

– صورك المميزة هل هي نتاج الصدفة أم المهارة في التصوير؟

* لا أعرف ان كانت صوري مميزة، لكني استطيع أن اقول لك أنني قرأت مرة خرافة تقول: هي ان المصور يحتاج إلى الصدفة، لكن الصدفة لا تأتي الا للمصور الموهوب! لقد اختبرت هذه الخرافة واستطعت فهمها على عدة مستويات خلال سنوات طويلة. أما المهارة فيملكها ملايين المصورين حول العالم.

– اثناء تصويرك الحرب أي شيء كنت تفكر فيه في لحظة الخوف؟

* في لحظات الخوف لا شيء سوى الخوف، والذي هو رغبة شديدة في البقاء في هذه الحياة بعيون مفتوحة على اتساعها، رغبة برؤية كاملة للأشياء لاحتضانها والتمسك بها بشدة، أما في اللحظات الأقل خوفاً كنت أفكر بأن أهم شيء هو ألا تضيع الصورة، ألا تمضي دون أن ألاحظها وأقبض عليها، كان هذا خوفي الاكبر. ففي واحدة من المرات نجوت من صاروخ طائرة ميغ ضرب البناء المجاور لبنائنا، نجوت وقتها لأني كنت في الحمام، وكما أن الحمام ينقذني دائما بأفكار جهنمية، أنقذني في تلك المرة من الموت، حيث سقط زجاج النافذة فوق المخدة التي كنت نائماً عليها قبل دقيقة واحدة، ومن الجهة المقابلة دمرت واجهة الصالون بالكامل وخلعت الأبواب من مكانها والنوافذ، خرجت أبحث بخوف عن الكاميرات تحت الركام وانا انظر من النافذة المخلعة وأرى الصور تعبر وتمضي من دون رجعة. ولم أفكر في أني على قيد الحياة إلا بعدما انتهيت من إرسال الصور وأصيبت قدمي بشظايا زجاج أعاقني عن الركض أمام القناص مدة أسبوع كامل.

– هل عشت لحظات الحيرة اثناء الحرب بين ان تكون مصوراً وان تكون مسعفاً لجريح أمامك؟

* لم أعش هذه الحيرة أبداً، رغم أني حسمت هذا الموضوع سابقاً بحيث أني استطيع التقاط الصورة بلحظة واحدة وبقية اللحظات يمكن أن اساعد جريحاً، الا أني لم أضطر لذلك ابداً، فدائماً كان هناك مئات الناس قد سبقوني للمساعدة ولم يكن لي أي فائدة سوى التقاط الصور وإرسالها للنشر بأقصى سرعة ممكنة، اما هذه الحيرة فهي حيرة كاذبة استعملها بعض المراسلين الحربيين تحت اسم الحيادية والمهنية، لكنهم يخفون وراءها انعدام الانسانية، هم موجودون فقط كمغامرين يبحثون عن المجد وتسجيل أسمائهم كأبطال، الحيادية والمهنية تكون بألا تصطنع حدثاً غير موجود وألا تلغي أحداً، وليس أن تتفرج على شخص يموت وأنت تصوره. فأي مراسل حربي يستطيع أن يلتقط صورة الواقع الحقيقية وبعدها بثانية واحدة يستطيع ان يقدم مساعدة انسانية كبيرة ان لم يكن أحد موجوداً لتقديمها، فالمصور هو جزء من هذا الصراع الانساني بمجرد وجوده بمكان الصراع ونقله لصورة معاناة انسانية فكيف يكون تفسير وجود نقيضين في آن واحد في اللحظة نفسها، ان تكون انسانياً لنقلك معاناه انسان وفي اللحظة نفسها، لاإنسانياً بتركه يموت، ان ذلك لا يفسر الا بكذب احداهما، فإما الصورة كاذبة وإما إنسانية المصور كاذبة.

– على أي دلالات سيميائية تركز في تصويرك؟

* الصورة الفوتوغرافية نسق سيميائي غير دال بنفسه، وأنا معجب جداً بالافكار الأولى التي طرحها رولان بارت حول الصورة، فرغم أن الصورة تقدم مفهوماً، وتخبرنا عن حال المصور وهذا ما يتطابق مع اللغة، الا أنها لا تملك عنصراً منفصلا يمكن أن ندعوه علامة، يقول رولان بارت إن التصوير يحدث انزياحاً في مفهوم الفن لذلك فالتصوير يأخذ دوره في عملية تقدم المجتمع.

– لماذا التركيز على الإنسان في صورك؟

* أعتقد أني أعمل على تصوير ما أشعر به، لا أهتم للأفكار، الافكار لا تملك اي خصوصية وهي ملك للجميع، لكن المشاعر تملك خصوصية كبيرة. إن علاقة الحب التي تربط بيني وبين من أصور هي من تعطي للصورة خصوصيتها وتميزها، لا يكون التميز ابداً بالمهارة ولا بتصوير اشياء لم تصور سابقاً، بل ان استطيع تصوير ما أشعر به، من هنا اعتقد اني أركز على تصوير الانسان لانه يمنحني شعوراً يشدني لتصويره، وهذا الشعور الذي لا يقال ولا يمكن التعبير عنه باللغة إلا بكلام سطحي، استطعت اختبار وصوله للمشاهد فالصورة تحمل الطاقة التي تضعها فيها وتصل بنفس الاحساس للمشاهد اينما كان.

– هل تشعر بفقدان هالة التصوير الصحافي أو حتى نهايته في زمن الهواتف النقالة؟

*لا، لم تذهب هالة التصوير الصحافي ابداً، على العكس تماماً، استخدمت الهاتف النقال وصورت به سراً ونشرت الصور في “اسوشيتد برس”، واستعملته في عدة صحف منها “واشنطن بوست” و”وول ستريت جورنال”. التصوير الصحافي اصبح يملك مصداقية اكبر بوجود مصادر عدة للتصوير من أطراف مختلفة ووسائل مختلفة ومن مصورين وهواة، اذ ان ذلك يمنح امكانية التأكد من مصداقية الحدث. التأثير السيء على التصوير الصحافي أتى من المصورين الصحافيين أنفسهم بالدرجة الثانية ومن الوسائل الاعلامية بالدرجة الأولى، وذلك من خلال السعي لتحقيق سبق صحافي ومحاولة الاستئثار به، وكأنه ملكية شخصية، هذا التنافس الذي أدى الى الكذب والتزوير في أحيان كثيرة يتم كشفها بعد فترة وجيزة، وبالتالي يتم الطعن بهالة التصوير الصحافي من قلب مجتمع الصحافيين انفسهم، أما الهواتف النقالة فهي تساهم الآن في عودة الهالة من خلال الهواة وتنوع المصادر.

– هل ستعود الى سوريا أم ستبقى في المنفى؟

* نعم سأعود، وانتظر ذلك بفارغ الصبر وأرجو ألا يكون ذلك بعد عشرين عاماً كما حصل مع الأجيال التي سبقتنا.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى