صفحات العالم

“المعارضات” السورية على الانتفاضة!


أمجد ناصر

‘الربيع العربي’ الذي هلَّ من تونس حقيقيٌّ. شآبيبه حقيقية. اقحوانه، شقائق نعمانه، أشواكه، حقيقية أيضاً. هذه الأرض العربية التي تكالبت عليها كل أشكال التصحّر، البيئي والسياسي والفكري والتنموي والروحي، كانت على موعد، طال انتظاره، مع ما ‘يخُرجُ الليلك من الأرض الموات، يمزج الذكرى بالرغبة، يستثير الجذور الخاملة بأمطار الربيع’ على حد قول تي. إس. إيليوت. هذا الربيع الذي شبَّ في الأرض اليباب هو الشباب العربي الذي قرَّر أن يشقَّ عصا الطاعة على نظم بطريركية عاتية أوردت شعوبها مورد الهلاك أو كادت. ما نراه مذ أطاح شباب تونس بالديكتاتور حقيقيٌّ. ما صنعه الشباب المصريون، بما يشبه المعجزة السماوية، حقيقيٌّ كذلك حتى وإن لم نر حسني مبارك، البطريرك الركيك، وراء القضبان حتى الآن. وما حدث بعد ذلك في الفضاء العربي القاحل حقيقيٌّ بكل المقاييس. لا شكَّ عندي في ما أرى. لا شكَّ عندي في حاجتنا إلى ما حصل وما يحصل ولم تنته فصوله زهوراً وندى حتى هذه اللحظة، لكن لـ ‘الربيع العربي’، الطالع من قلب الحاجة والشوق والدم والسلاسل، مصدَّاته. هناك جدران عالية من القهر والخوف والرصاص لم تتحطم ولا هي في سبيل أن تفعل ذلك تلقائياً. النظام العربي المنهار لا يزال يقاوم بأشكال ظاهرة وخفيِّة. قوى الثورة المضادة الداخلية والخارجية تعمل، من دون كلل، على وأد هذا الربيع قبل أن يعطي ثماره. التشكيك في هذه الرغبة العارمة بالتغيير وربطها بـ ‘أجندات’ خارجية على قدم وساق.. بيد أن ما نعوّل عليه هو دينامية التغيير في مجتمعاتنا التي اشتغلت، بعد عطالة طويلة، ولا أظن أن بوسع محاولات الجذب العكسي وقفها في منتصف الطريق.

‘ ‘ ‘

دعونا نلاحظ التالي: من أشعل فتيل هذه الثورات والانتفاضات العربية هم القوة الفتيِّة في مجتمعاتنا: الشباب. هناك أسباب كثيرة، ذاتية وموضوعية، دفعتهم إلى ذلك وليس هنا مجال حصرها وتعدادها. فوجىء النظام العربي بهذه القوة الثورية وهي تسحب بساط الاستبداد من تحت أقدامه. فوجئت المعارضات العربية التي دُفِعَتْ الى الهامش وارتضت به. لم تكن المعارضة التونسية، العلنية والسرية، هي التي فجَّرت الثورة ضد بن علي ولا كانت المعارضة المصرية هي التي اطاحت بعرش حسني مبارك ووأدت التوريث الى غير رجعة. لم تكن المعارضة البحرينية هي من أقام نصباً معنوياً إلى ‘دوار اللؤلؤة’ ولا خيَّمت المعارضة اليمنية، بصبرٍ وتحضّرٍ، في ميادين التغيير شهراً بعد شهر، أما في سورية، التي فاجأ شبانها الجميع، نظاماً ومعارضة، عرباً وأجانب، بانتفاضتهم التي يعرفون أنها ستكون الأصعب بين شقيقاتها العربيات، فقد جرَّف النظام البوليسي فيها كل أشكال الاعتراض السياسي والفكري والثقافي، ولم تكن لأشباح المعارضة الداخلية والخارجية، والحال، يدٌّ طولى فيها. إنها هِبَةُ شبان مدن وبلدات الأطراف والأرياف والدساكر المعزولة إلى الشعب السوري المأسور في قبضة نظام الاستبداد العائلي منذ أربعين سنة.

كلامي اليوم مخصص للوضع السوري ولكنه، بسبب قواسم عربية مشتركة لا تخفى، يصحُّ على معظم البلدان العربية التي هبَّت عليها رياح التغيير.

اسمحوا لنا أن نتحدث، نحن الذين نشاطر السوريين شوقهم إلى الحرية والكرامة والغد الأفضل، بلا مجاملة، لأن المجاملة، في وضع كالذي عليه ‘الحالة السورية’، هدرٌ لدم الذين يسقطون صرعى، كل يوم، برصاص النظام، ونوعٌ من ‘خيانة الوصايا’. هناك معضلة مُركَّبة تواجه الانتفاضة السورية تتمثل في النظام والمعارضة على السواء. أمر النظام الممعن في الحلول الأمنية الصرف والكذب الإعلامي المكشوف مفهوم ولكن من غير المفهوم أن تشكل المعارضة السورية عبئاً على انتفاضة شعبها، إن لم أقل أنها ترتكب جناية، في رابعة النهار، بحق واقعها وآفاقها.

نعرف، كلنا، أن النظام حال، بعنفه المفرط، دون تشكل معارضة سورية تتوافر على شيء من الصلابة الذاتية والقاعدة الاجتماعية. لقد احتكر النظام الحيِّز العام كله. حزبه هو قائد الدولة والمجتمع. ‘جبهته الوطنية والتقدمية’ هي شاهد الزور، الصامت، على ‘تحالف الشعب العامل’ وائتلاف قواه في اطار جبهوي. أي فعل سياسي سوري خارج ‘الحزب’ و’الجبهة’ مصيره أقبية السجون وعتماتها. لا أحد بمقدوره أن يحدد عدد سجناء الرأي والضمير في سورية. فليست هناك أرقام محددة وإن كان البعض يتحدث عن آلاف قبل أن تلحقها آلاف جديدة بعد اندلاع الانتفاضة، عدا آلاف مؤلفة من المنفيين قسراً وطوعاً إلى الخارج. هذا يعني أن الحديث عن معارضة سورية فاعلة ‘على الأرض’ في غير محله، ولكن، مع ذلك، هناك معارضة سورية مكونة من شخصيات سياسية وثقافية وفكرية وقوى تعرضت لضربات أمنية متلاحقة لها وجود رمزي في داخل سورية وتملك امتدادات في المنافي.

إن كان للانتفاضة فضل على المعارضة السورية (وهناك أكثر من فضل واحد) فهو يتمثل، بالدرجة الأولى، في مدّها بالأمل بعد أن كادت تلهج بقول ‘حكيم’ الثورة التونسية المكلل بالشيب: هرمنا، هرمنا. غير أن المعارضة السورية هذه لم ترد الجميل لمن أحياها وهي رميم. فبدل أن تسارع إلى لملمة أطرافها ورصّ صفوفها ازدادت تفرّقاً وراحت تتناسل مؤتمراتها واحداً بعد الآخر من دون أن تتمكن من الاتفاق على برنامج وطني في حدّه الأدنى. من مؤتمر ‘أنطاليا’ إلى مؤتمر اسطنبول مروراً بمؤتمر بروكسل شخصت أنظار كثيرين إلى توافق المعارضين السوريين على إطار جبهوي عريض يشكل مظلة سياسية للانتفاضة ويرسم خارطة طريق لإخراج البلاد من أزمتها الكبرى ويقدم للسوريين، والعالم، بديلاً وطنياً يمكن الركون إليه، غير أن ذلك، للأسف، لم يحدث.

دعونا نقول إنه لم يعد مقنعاً كلام كثير من المعلقين السوريين عن كون هذه المؤتمرات ‘بروفات’، أو تمرينات، أولية لعمل جبهوي معارض قادم. كما لم يعد مقنعاً الكلام عن ‘معارضات’ سورية تعكس تعددية في الخطاب والرؤى واعتبار ذلك دليل صحة وعافية. ولا عاد مقنعاً، أو مبرَّراً، القول إن هذه المؤتمرات ‘تكمل بعضها بعضاً’، فهي، كما نلاحظ، ليست كذلك. كان الاجدر بالمعارضة السورية في الخارج التي تملك حرية الحركة أن تتداعى، سريعاً، إلى عمل يتواكب مع مسار الانتفاضة. أمام الرصاص المنهمر على المتظاهرين لا مجال لترف التدرّب على وحدة الموقف، وأمام محاولات حرف الانتفاضة عن أهدافها الوطنية الكبرى الى اقتتال أهلي (واقعة حمص الأخيرة مثالاً) تشتد الحاجة الى توافق بين قوى المعارضة الرئيسية على برنامج انقاذ وطني. إنه أمر مزعج أن يرى المرء الوقت يمر والشهداء يتضاعفون والمعتقلين يزحمون السجون ولا ينعكس ذلك إحساساً حقيقياً بالمسؤولية على المعارضة. لا أعرف كيف لا يشعر بالقلق العميق اولئك الذين جعلتهم انتفاضة الشبان السوريين نجوماً تلفزيونيين، بين عشية وضحاها، حيال مرور الوقت وحجم التضحيات؟ لا أفهم، في الواقع، حساسياتهم الشخصية إزاء بعضهم البعض، بل وريبة بعضهم حيال الآخر، (وقد لاحظت ذلك شخصياً) فيما يواصل النظام عنفه ضد المحتجين وتعلو أصوات الشجب الدولية ضده.

هذه ليست دعوة لطي الخلافات السياسية والايديولوجية بين قوى المعارضة كأنها لم تكن. كلا، ولكن التنادي الى عمل جبهوي واسع والتوافق على برنامج انقاذ وطني يلحظ القاسم المشترك بين هذه التنظيمات ليس قفزاً عن الخلافات التي لا بدَّ أن تكون موجودة بين قوى تصدر من مراجع سياسية وفكرية متباينة.

إن لم يكن هذا الأمر ممكناً، وبسرعة، فليس على شبان الانتفاضة سوى أن يصنعوا بأنفسهم مظلتهم السياسية وأن ينتجوا قيادتهم القادرة على تشكيل البديل السياسي للمعارضة ورموزها الباحثة عن زعامة مثلما صنعوا، بأنفسهم، هذه الانتفاضة التي لم تكن تحلم المعارضة بحدوثها في أعالي أحلامها. هذا، في كل حال، سيحدث. المثال المصري الذي طوَّر قيادات شبابية من داخل الثورة خير دليل على ذلك. وفي الأثناء لا ينبغي للمعارضة السورية ورموزها التلفزيونية نسيان خذلانها للانتفاضة وشبانها.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى