صفحات سورية

المعارضة السورية بين الزهد والمشاركة في جرائم النظام


وليد الحاج

لم يكن المرء يتصور أن يصل الحال بالمعارضة السورية الى ما وصلت إليه من تشتت وفرقة وصراع على المناصب والكراسي، كما صرّح بذلك المعارض البارز هيثم المالح حين خرج غاضبا من مؤتمر أنطاليا، في الوقت الذي تشير فيه الأخبار المسربة من الداخل الى أن السلطات السورية تعمل ومنذ فترة، استعدادا في ما يبدو للمرحلة القادمة، على تشكيل أحزاب سياسية وتقوم بتعيين رؤساء لهذه الأحزاب واختيار أسماء براقة لها، والهدف منها وكما تشير المصادر، هو تقسيم الشارع المعارض لمجموعة أحزاب كثيرة وتقسيم المواطنين بين هذه الأحزاب، بالمقابل يقوم النظام بتجهيز حزب جديد يضم وجوه النظام القديمة، بحيث يستطيع هذا الحزب من خلال قواعد حزب البعث السابقة ومؤيديه من الطوائف والعشائر والمنتفعين خوض غمار أية انتخابات مقبلة والفوز فيها بكل يسر وسهولة.

الجمعة ما قبل الأخيرة حملت تسمية (وحدة المعارضة) مطالبة بضم جميع القوى تحت لواء واحد يقوم بالتعبير عن تطلعات الشعب ورغباته ونقل مطالبه للرأي العام العالمي ومخاطبته باللغة التي يفهمها ويحب أن يسمعها.

ولكن هذه الجمعة تحديدا وبدلا من توحد المعارضة كشفت عن حجم الخلافات في صفوفها وتباين الرؤى والتوجهات بين تياراتها المختلفة، حتى أن بعض أطرافها بدا متناغما مع النظام ويتبنى وجهة نظره، وهذا ما حصل في مؤتمر حلبون في ريف دمشق بلاءاته الثلاث التي خرج بها (لا للعنف ،لا للطائفية، لا للتدخل الخارجي)، حيث ضم المؤتمر مجموعة من قوى المعارضة التقليدية الليبرالية منها واليسارية في الداخل، مع شخصيات معارضة من الخارج سمح لها النظام بحضور المؤتمر في خطوة مفاجئة عللّها منظموه بتزامن انعقاده مع زيارة وفد البرلمان الروسي، الذي أراد النظام من خلاله توجيه رسالة للروس بأنه بات ديمقراطيا ومنفتحا بشكل أكبر على قوى المعارضة وتقبل الرأي الآخر، في حين فسّرها البعض بأنها موافقة ضمنية على المؤتمر ونتائجه المتوقعة والمعروفة سلفا من قبل النظام.

وحقيقة الأمر فإن التصريحات التي سمعها الشارع السوري بُعيد انفضاض المؤتمر من بعض الأعضاء المشاركين فيه تشير الى أن شيئا ما قد تغير، ففضلا عن اللاءات الثلاث للمؤتمر التي لاقت انتقادات حادة من قبل اتحاد تنسيقيات الثورة السورية الذي يعتبر المحرك الحقيقي للشارع السوري على الأرض، فإن تلك التصريحات شكلت صدمة حقيقية، خاصة أنها صدرت عن معارضين كانوا الى وقت قريب من أشد المؤيدين للثورة والمطالبين بإسقاط النظام. أحد تلك التصريحات عبر عنه سمير العيطة أحد أعضاء المؤتمر لصحيفة ‘الأهرام’ صبيحة جمعة وحدة المعارضة (23-9-2011) قال فيه (لم تعد المعركة في سورية بين الشعب والسلطة، ولكن هناك معركة أخرى تقودها قوى إقليمية وغربية وخليجية على سورية) بل وحاول عيطة في حديثه ذلك إحداث بلبلة ونوع من الفرقة والشقاق بين ناشطي مواقع التواصل الاجتماعي والمتظاهرين على الأرض بقوله: (نجح بعض منظمي أسامي الجمعات في رفع شعار جمعة الحماية الدولية وطالب البعض بحظر جوي ولكن هذه الدعوات قوبلت بانتقاد واسع من التنسيقيات السورية الموجودة بكل مكان، فأغلبية الناس في سورية يرفضون التدخل الأجنبي ولا يؤيدون قراراً من مجلس الأمن) وهو أمر مخالف للواقع ومجاف للحقيقة بشكل تام، فالجميع شاهد كافة اللافتات المرفوعة وسمع الشعارات المطروحة في جمعة الحماية الدولية، التي طالبت المجتمع الدولي صراحة بالتدخل لحمايتهم من النظام السوري وآلته القمعية.

وفي لقاء مع المعارض حسين العودات على شاشة قناة الجزيرة في منتصف نهار جمعة الوحدة الوطنية، وهو أحد أعضاء مؤتمر حلبون، فاجأ العودات أيضاً مشاهديه السوريين بالقول بأن ما تتفق عليه المعارضة اليوم هو (الضغط على النظام حتى يتغير نحو الديمقراطية ويصبح ديمقراطيا) من دون تطرقه للمطلب الرئيسي للشارع السوري وهو إسقاط النظام.

لؤي حسين عضو بارز آخر في هيئة التنسيق الوطنية المنظمة لمؤتمر حلبون هو الآخر صدم الشعب السوري في حديث أدلى به لصحيفة ‘نيويورك تايمز’ ونشر في اليوم التالي لجمعة وحدة المعارضة أشار فيه الى (استعداد المعارضة السورية للتصالح مع الرئيس بشار الأسد إذا كان ذلك ضروريا لمنع حرب أهلية في البلاد).

هيثم مناع الناطق باسم اللجنة السورية لحقوق الإنسان كان أشار أيضا قُبيل جمعة وحدة المعارضة في اتصال مع قناة روسيا اليوم إلى (وجود توجه يأتي من الخارج، من دول الخليج بحسب اعتقاده، يسعى بأي شكل من الأشكال لتشكيل هياكل للمعارضة السورية على وجه السرعة)، أما المعارض ميشيل كيلو فربما كان من السباّقين، وذلك في مرحلة مبكرة جدا من عمر الثورة السورية للحديث عن جماعات مسلحة تقاتل النظام، في الوقت الذي لم يكن يسمع فيه الشعب السوري والعالم بأجمعه سوى أصوات طلقات وقذائف دبابات النظام وأسلحته الثقيلة.

في الحقيقة لابد من الإشارة الى أن تصريحات أعضاء هيئة التنسيق الوطني جاءت رد فعل على الاعتراف الصريح من اتحاد تنسيقيات الثورة السورية بـ(المجلس الوطني السوري) الذي أُعلن عن تشكيله في 15 أيلول (سبتمبر) باسطنبول، وهذا الاعتراف أثار حفيظة هيئة التنسيق الوطنية وبعض المحسوبين على قوى المعارضة لدرجة أن بعضهم أطلق عليه (مجلس قندهار) في إشارة الى سيطرة الإسلاميين عليه، في حين أن الإسلاميين لم يشكلوا أكثر من 25 بالمئة من المجتمعين (إذا افترضنا أن كل من أدى الصلاة خلال أيام انعقاد المجلس وكان من ذوي اللحى من أتباع التيار الإسلامي).

ولكن وللإنصاف فإن تنسيقيات الثورة السورية لم تعلن اعترافها بالمجلس مجانا ومن دون ثمن، بل طالبت المجلس الوطني لكي يحظى باستمرار دعم التنسيقيات والشارع السوري بأن يتحاور مع كافة قوى المعارضة ويحاول ضم أحزابها وتجمعاتها الى صفوفه، ولكن العقبة التي حالت وتحول اليوم دون توسيع المجلس وضم أحزاب جديدة إليه هو تشتت تلك الأحزاب واختلاف أيديولوجياتها وتصوراتها لحل الأزمة السورية، فضلا عن تكاثرها العجيب في الآونة الأخيرة حتى بتنا نسمع في كل يوم تقريبا عن تأسيس لتجمع أو حزب سياسي أو عقد لمؤتمر في هذه العاصمة أو تلك، فهنالك هيئة التنسيق الوطني لقوى التغيير الوطني الديمقراطي، وإعلان دمشق، وجبهة الخلاص الوطني، و14 حزبا للأكراد الذين لا يتجاوز عددهم الثلاثة ملايين. وهذه مجموعة من المعارضة تؤسس ‘ المجلس الوطني الانتقالي السوري ‘ وأخرى تشكل ‘المؤتمر السوري للتغيير’. في 6 سبتمبر تم في قطر الإعلان عن تشكيل قيادة سياسية من بعض أطراف المعارضة في الداخل والخارج تحت مسمى (التحالف الوطني السوري)، وفي الحادي عشر من سبتمبر عقد حوالي أربعين معارضا سورية مقيمين في المنفى اجتماعا في فيينا وانشأوا حركة جديدة هي ‘اتحاد السوريين في الخارج’، وفي الرابع عشر من الشهر ذاته لؤي حسين يعلن من دمشق إطلاق تيار بناء الدولة السورية قال انه (يسعى إلى بناء دولة ديمقراطية مدنية تحقق العدالة الاجتماعية ورفضه لأي مجلس انتقالي).

وفي السابع عشر من سبتمبر التقى في باريس ممثلون لحركات وهيئات علمانية سورية معارضة لنظام الرئيس بشار الأسد أعلنوا فيه ولادة (ائتلاف القوى العلمانية والديمقراطية السورية) وذلك في خطوة – كما وصفها المنظمون- تأتي لإبراز الحيثية التي يتمتعون بها أمام حركة ناشطة للتيار الإسلامي في صفوف المعارضة السورية، خصوصا في الخارج. وفي جمعة وحدة المعارضة (لاحظوا التوقيت) محمد حبش عضو مجلس الشعب السوري المقرب من السلطات يعلن عبر شاشة الجزيرة مع صديقه طيب تيزيني إنشاء حزب الطريق الثالث، وفي 27 سبتمبر معارضون سوريون يؤسسون تكتلاً جديداً في العاصمة البريطانية لندن تحت اسم ‘التجمع من أجل الثورة السورية’، قالوا إنه يعتبر التدخل العسكري في بلادهم غير مرفوض بالمطلق.

لاشك أن المعارضة السورية باتت تعد وبرأي الكثير من المراقبين للحدث السوري من أكثر المعارضات العربية انقساما واختلافا، وهذه الانقسامات لم تعد خافية على أحد رغم كل هذه اللقاءات التشاورية والمؤتمرات والتجمعات، حتى بات يعدها الكثيرون شريكة للنظام بجرائمه ضد الشعب، عذرهم في ذلك عدم اتفاق المعارضة فيما بينها على توحيد صفوفها وتقديم رؤية موحدة لحل الأزمة في البلاد والسعي نحو دعم دولي يسرّع بالإطاحة بنظام الأسد.

لقد حسم الشارع السوري أمره وحدد خياراته وأيد المجلس الوطني السوري باعتباره الممثل الحقيقي له لكونه يضم أكبر عدد من الأحزاب والقوى الوطنية وأعضاء التنسيقيات في الداخل، وعلى أحزاب المعارضة الأخرى الانضمام إليه فورا وإعلانها دعمه، وأما ما تطرحه من مبررات وتخوف من الإسلاميين المنضوين تحت لواء المجلس إنما يصب في مصلحة النظام ويبعث رسائل سلبية لعواصم القرار الدولي ويثير تخوفاتهم وشكوكهم، وعلى المعارضة الاعتراف بأن من تطلق عليهم صفة (الإسلاميين) هم وقود الثورة وهم من أشعلها، ولمن نسي أو أراد أن يتناسى فإن المظاهرات انطلقت من المسجد العمري بدرعا وهي تخرج اليوم من مساجد سورية كافة حتى باتت بعض المساجد رمزا للثورة السورية كمسجد الحسن في الميدان والرفاعي في كفرسوسة وآمنة في حلي وقاسملو في القامشلي، وهي لم تخرج من أمام مقرات أحزاب هيئة التنسيق الوطنية، كما أنها لم تخرج من أمام صالات السينما ودور الأوبرا، ومن يطلق عليهم اليوم انتقاصا بالإسلاميين هم من حرّك المتظاهرين ودب في نفوسهم الحميّة والعزيمة بدءا بشيخ القراء كريم الراجح مرورا بشيخ الثورة أحمد صياصنة والشيخ أسامة الرفاعي وأنس عيروط وغيرهم.

إن أحزاب وقوى المعارضة السورية باتت اليوم أمام خيارين لا ثالث لهما فإما أن تعلن انضمامها الى المجلس الوطني الذي أيدته تنسيقيات الثورة السورية أو تجلس في بيتها وتترك الشارع ليقرر مصيره ويحسم خياراته بنفسه، وكفى بزعماء المعارضة تذكير الشعب السوري ليل نهار بماضيهم الثوري ووقوفهم في وجه النظام وتعرضهم للسجن والاعتقال، واليوم فإن عشرين بالمئة من الشعب السوري أصبحوا سجناء حاليين أو سابقين لدى النظام.

أنتم حوكمتم في محاكم مدنية وبحضور ممثلين عن منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الحقوقية وسفراء دول الاتحاد الأوروبي، أما بقية أبناء الشعب فيحقق معهم في أقبية المخابرات السورية، بعضهم نزف داخل السجن حتى الموت وبعضهم اقتلعت عيناه والآخر انتزعت أحشاؤه ومنهم من بترت أعضاؤه التناسلية وآخرون سرقت أعضاؤهم وبيعت بالسوق السوداء، ومنهم من اختطف من المشافي الحكومية أثناء العمليات الجراحية في وضح النهار.

إن ما يثير الدهشة أكثر لدى الشارع السوري هو تصريحات بعض قادة المعارضة حول زهدهم في السياسة والمناصب الحكومية، فميشيل كيلو يعلن بأنه لا يريد أن يركب على ظهر جيل الشباب الذين قاموا بالثورة وبعد نجاحها عليهم هم أن يكملوا مشوارهم، أما برهان غليون فقد أعلن صراحة أنه راغب بالعودة لعمله الأكاديمي بعد انتهاء المهمة، وهيثم المالح الذي بلغ من العمر عتيا (تجاوز الثمانين) لا أعتقد أن عاقلا في سورية كلها لديه أدنى شك بأن هذا الرجل الثمانيني قد هجر أهله وبلده وعرّض نفسه للتهلكة طمعا في كرسي أو منصب.

لكن وما دام الحال، وبما أن المعارضين السوريين البارزين (وقد ذكرنا نماذج لآراء البعض منهم) غير راغبين بتولي أية مناصب حكومية بعد الإطاحة بالنظام، فإن التساؤل المشروع اليوم هو حول أسباب اختلافهم وتشرذمهم، سؤال هو برسم المعارضة السورية والإجابة عليه ربما ستحملها الأيام القليلة القادمة.

‘ صحافي سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى