صفحات سورية

المعارضة السورية حين ترهن الثورة بالخارج


طلال النجار

لعل السمة الغالبة لدى المعارضة السورية في الوقت الحالي هي الخلافات المتزايدة بين أطرافها. فقد أعلن منذ مدة قريبة عن تفاهم بين المجلس الوطني وهيئة التنسيق، الممثلان المعلنان للمعارضة في الخارج والداخل، تمهيداً للتوحيد الذي طال انتظاره إلى حد أنه صار شرطاً وضعته دول عديدة للإعتراف بالمعارضة السورية رسمياً. كما أنه فيما يفترض الهدف الأسمى الذي قد يتوقف عليه مسير الثورة السورية المستمرة منذ قرابة السنة. وقد كان واضحاً أن الخلافات لم تزل، ولكن بدا أن هناك بعض الأمل في أن أقطاب المعارضة قد وضعتها جانباً في سبيل أهداف أسمى. إلا أن الإعلان الذي أثار ارتياحاً لم يصمد لأكثر من ساعات، ثارت بعضها الاعتراضات والاتهامات من جانب المجلس الوطني تحديداً، الذي لم يستطع حتى الآن أن يقدم صيغة متجانسة تتجاوز الخلاف الظاهر بين اتجاهات متنافرة فيه.

نقطة الخلاف الرئيسية كما هو معلن هي مسألة التدخل الأجنبي. فالمجلس الوطني يجيزها، بل وبعض أعضاءه يدعون إليها علناً، أما الهيئة فترفضها من حيث المبدأ. والتباين في المواقف فيما يبدو مستمر وأساسي، بحيث لا يبدو أن شقة الخلاف يمكن أن تضيق قريباً، رغم اتفاق الطرفين على باقي الأهداف الأخرى، وأهمها إسقاط النظام ورفض الطائفية وإقامة نظام ديمقراطي. وإلى ذلك الحين تحكم المعارضة السوري على نفسها بالانقسام والتشتت، مع ضياع أية فرص في إمكانية تحقيق مكاسب دبلوماسية ملموسة، بل إنها تسمح للنظام بإطالة أمد عمره ومحاولة إقناع النظام الدولي أنه قد لا يكون البديل الأمثل ولكنه الوحيد الصالح، وهو منطق مرفوض أخلاقياً ولكن لا يستبعد أن يجد صداه لدى مجتمع دولي لا يعترف إلا بالواقع الفعلي، وأمام حكومات، وخصوصاً الغربية منها، كثيراً ما قبلت مبدأ “الشر الذي تعرفه خير من الشر الذي لا تعرفه”. ويبقى الضامن الوحيد لاستمرار قضية الحرية في سوريا هي التظاهرات التي تتواصل كل يوم، ولو ربما بزخم أقل عن ذي قبل، وإن توقفت أو تراجعت بشكل واضح فلن يجد النظام العربي أو الدولي نفسه ملزماً بالكثير. ولذلك فلابد من الاعتراف بأمانة ووضوح بأن كل يوم تضيعه المعارضة السورية دون الاتفاق على أجندة موحدة ليس من شأنه إلا أن يضعف فرص الثورة بالنجاح.

والسؤال هنا هل الخلاف بين الجانبين مما يستحق الانقسام، إلى حد تبادل الاتهامات الذي بدأنا نراه؟ وهل التدخل الأجنبي مسألة مطروحة للنقاش أصلاً؟ فالقوى التي يفترض أن تمتلك القدرة أو النية على القيام بأي تحرك عسكري فعال قد أعلنت صراحة، وأكثر من مرة، أن لا نية لديها في ذلك. بل أن تركيا، التي كانت صاحبة أصلب المواقف في إدانة وحشية النظام، والتي يفترض أن تكون المنطلق الأساسي لأي عمل عسكري خارجي في سوريا، قد نصحت المعارضة أخيراً ودون أي لبس بالتزام الحل السلمي.

ولابد أن يكون واضحاً هنا أننا نتحدث عن الحل العسكري الشامل تحديداً، والذي يتضمن تدخلاً برياً مع دعم جوي مكثف، وهو عملياً التدخل الوحيد الممكن والمؤثر. أما ما يردده بعض أطراف المعارضة عن تدخل عسكري محدود لإقامة ممرات آمنة لعبور اللاجئين أو فرض منطق عازلة تكون منطلقاً لعمليات عسكرية داخلية، فليس إلا أضغاث أحلام. بل من المشكوك فيه أن يكون أصحاب تلك الدعاوى قد حاولوا التمعن فيما يدعون إليه بأي عناية. إذ كيف يمكن أن تفرض ممرات أرضية دون مواجهة شاملة مع الجيش السوري الذي سيتدخل بكل وحداته؟ هل سيقف النظام مكتوف الأيدي وهو يرى قوات أجنبية تتوغل في الأراضي السورية وتفرض ممرات داخلية؟ وبفرض أقيمت هذه الممرات بالقوة، فهل يمكنها البقاء؟ هل تصمد في وجه الهجمات بالمدفعية والصواريخ، بفرض تم تحييد الطيران؟ أما فكرة المنطقة العازلة فتبدو أقل خيالية، ولكنها في المحصلة ليست أكثر قابلية للتطبيق. فمن الواضح أولاً أن إقامة منطقة كهذه يعني مواجهة مع جيش نظامي كبير العدد وجيد التسليح، مما يتطلب قدرات عسكرية وتقنية لايبدو أن هناك من يملكها سوى الناتو. ومرة أخرى، حتو لو فرضنا أن هذه المنطقة قد أقيمت فعلاً، فمن غير الواضح إن كانت ستنفع الثورة في سورية بشكل حاسم. فمالذي سيفيد المتظاهرون في درعا مثلاً، أو حتى في حمص، من منطقة عازلة في شمال سوريا؟ والمشكلة نفسها تنطبق على المنشقين من الجيش. هل نتوقع مثلاً أن تسمح قوات النظام للجنود المنشقين في دمشق أو حمص أو حماة مثلاً بالوصول إلى منطقة تبعد عنهم مئات الكيلومترات؟ وقد رأينا المناطق العازلة والحظر الجوي تفرض في العراق دون أن تفيد الشعب العراقي بشيء. المسألة باختصار أنه في حالتنا هذه لا يوجد تدخل عسكري محدود أو “نظيف”، يقتصر على مناطق محددة أو على مجرد فرض حظر جوي. فالسيناريو الليبي، كما أوضح الكثيرون، مختلف تماماً. فنصر الشعب الليبي تم بقوة السلاح المنتشر لدى القبائل منذ البداية، وفي مواجهة تحولت عسكرية منذ انطلاقها ونجح فيها الثوار في السيطرة على نصف ليبيا على الأقل، ثم جاء التدخل الأجنبي على شكل ضربات جوية حيدت السلاح الضارب للقذافي ومكنت الثوار من حسم المعركة بأنفسهم على الأرض. والواضح أن الوضع السوري مختلف تماماً، فمقومات المواجهة العسكرية (حتى لو ترافقت مع دعم جوي) غير متوفرة بأي شكل. فحتى لو فرضنا أن هناك من هو على استعداد لتحمل الخسائر البشرية المخيفة (والتي تصل في ليبيا إلى 30000 قتيل في أقل التقديرات) والكلفة المادية الباهظة (والتي لن يعوضها نفط ولا أموال مجمدة)، فالظروف على الأرض مختلفة تماماً. التدخل العسكري لن ينجح إلا في صورة غزو عسكري شامل على غرار ما حدث في العراق، مواجهة لابد فيها من تحطيم القوة الأساسية للجيش السوري، وهي مهمة أصعب بكثير مما كانت عليه في العراق، الذي كان الجيش فيه منهكاً بعد حرب مع إيران استمرت أكثر من عشر سنوات. والواضح طبعاً أن قوات الأطلسي هي الوحيدة القادرة على هذه المواجهة، ولكن من الواضح أيضاً لأن لا نية لديها بذلك، ولأسباب كثير تبدأ بحجم الخسائر وغياب التعويضات المتوقعة ولا تنتهي بغياب الدعم الدولي، من مجلس الأمن تحديداً، والأزمة الإقتصادية العالمية. هذا كله إذا قبلنا أن نرى حرية الشعب السوري تتحقق بمساعدة أكبر داعمي إسرائيل ومؤيديها، ممن يضعون على رأس أولوياتهم في الشرق الأوسط، ليس فقط “أمن” إسرائيل وبقاءها، بل وهيمنها العسكرية والاقتصادية في المنطقة.

ذلك كما نراه السيناريو الوحيد الفعال لتدخل عسكري أجنبي. وإذا كان لدى بعض أقطاب المعارضة رؤية أقل كارثية من هذه، فلابد أن يعرضوها بشكل مقنع وواضح، وبالاستعانة بخبراء عسكريين يعرفون ما يتحدثون عنه، بدلاً من شعارات للإستهلاك الإعلامي يطلقها أناس قد يكونوا أصحاب خبرة في مجال النشاط السياسي والحقوقي، ولكنهم في الشؤون العسكرية فهم مجموعة من الهواة. فأمامنا مستقبل بلد كامل وقرارات قد تتوقف عليها حياة آلاف، بل ومئات الآلاف من البشر، ولا يمكن أن تترك للإرتجال والشعارت الإعلامية.

ولا نظننا نبالغ إذا قلنا أن سيناريوهات التدخل الأجنبي التي تطرحها بعض أطراف المعارضة هي العامل الأساسي الذي يبقي معظم السوريين حتى الآن في جانب الأغلبية الصامتة. وتلك حقيقة أخرى لابد من الإعتراف بها رغم إنكار الكثيرين. فالتظاهرات في سوريا لم تصل حتى الآن إلى مستوى من الشمولية والاتساع يكفي لإسقاط النظام. وإذا كان ذلك يعود في جزء كبير منه إلى بطش القوى الأمنية، فلا يمكن أن نتجاهل أن قطاعاً كبيراً من الشعب قلقون من المسار الذي يمكن أن تتطور إليه الثورة ومن توابع سقوط النظام عن طريق تدخل أجنبي، والتي رأوا آثارها المأسوية المستمرة في العراق. وهو شعور حقيقي وموجود لدى كثير، مهما بدا غير منطقي ومهما جادلنا في بعد المقارنة بين سوريا والعراق واختلاف طبيعة التغيير في كل منهما. والشعارت المرفوعة حالياً عن حتمية التدخل الأجنبي، وأنه السبيل الوحيد لضمان نجاح الثورة، وأن إسقاط النظام غاية تهون في سبيلها كل التضحيات البشرية والمادية، كل ذلك ليس من شأنه إلا أن يزيد من المخاوف القائمة ويضع الناس أمام خيارات قد يرونها انتحارية. ولا يمكن الإنكار أن كثيراً من السوريين لو خيروا الآن بين تدخل أجنبي عسكري، حتى بتلك الصيغة الخيالية للممرات والمناطق الآمنة، وبين أن يسعوا للتغيير في داخل سوريا من خلال ما هو موجود وما يمكن إيجاده من وسائل مقاومة سلمية، لاختاروا الحل الثاني. ذلك قرار اتخذه الكثير من السوريين الرافضين للنظام، وعددهم غير قليل، بل ربما يمثل الأغلبية. والأجدر بالمعارضة أن تحاول كسبهم إلى صفوف العمل الفعلي ومواجهة النظام سلمياً عن طريق التظاهرات المتزايدة، الأمر الذي لن يتحقق بشعارات إسقاط النظام بأي ثمن، وبدعوات تدخل أجنبي ليس هناك إمكانية لتحققه أصلاً.

إلا أنه مما يثير قلقاً حقيقياً للمتابع لعمل المعارضة، وخصوصاً في المجلس الوطني، هي حدة اللهجة في الخلاف مع غيرهم من المعارضين، والتي لا يمكن أن نرى فيها إلا محاولة لمصادرة الرأي والإستئثار بحق تمثيل المعارضة بكاملها، وذلك من قبل الأطراف نفسها التي تدعو للديمقراطية وحرية التعبير. فهل من المنطقي أن يصبح من العادي اتهام “هيئة التنسيق” بالتواطئ مع النظام؟ وكيف نتقبل أن نرى أناساً لم نسمع بهم قبل أشهر معدودة، أو آخرين لم يتجرأوا من قبل على مواجهة النظام صراحة، كيف يمكن أن نتقبل هؤلاء وهم يصفون حسن عبد العظيم وهيثم مناع، وغيرهم من الذين يواجهون بطش النظام منذ سنوات طويلة بالفعل وليس بالقول، ومن داخل سوريا وليس من خارجها، والذين أقاموا مؤتمراً داخل سوريا شعاره إسقاط النظام، أنهم ينفذون أجندة الأسد وأعوانه؟ هل هذه هي الديمقراطية التي يطلبون من الشعب التضحية في سبيلها؟ لقد وصلنا إلى حد صار معه التدخل الأجنبي معياراً لتقييم المعارضين، وصار رفضه معادلاً لخيانة التظاهرات الشعبية. وهذا المنطق الانفعالي لن يقود إلا إلى مزيد من التشتت في المعارضة والانقسام لدى الشارع السوري، والذي سيتردد الكثيرون منه ألف مرة قبل الانسياق وراء هكذا شعارات. فالطريق الوحيد لنجاح الثورة السورية هو الطريق السلمي الذي يتمثل في زيادة حجم التظاهرات إلى مرحلة حاسمة، مما يستوجب إقناع قطاعات أكبر من الشعب السوري بجدوى الثورة، أو معنى أصح تخفيف مخاوفهم من تبعاتها. وهو الأمر الذي لا يبدو أنه سيتحقق في ظل ما تسير إليه بعض الأطراف من رهن كل الخيارات بتدخل لا تتوفر مقوماته العملية (حتى على مستوى الإدانة في مجلس الأمن)، حتى وإن كان مقبولاً أخلاقياً، ورفض كل الأطر المتاحة للعمل السلمي الداخلي وأولها مبادرة الجامعة العربية. يقول المثل الإنكليزي، “احذر مما تتمناه، لأنه قد يتحقق”. وقد وصلنا إلى وضع تجد فيه المعارضة نفسها أمام خيار صعب. فأما أن تفشل جهودهم في تدويل الأزمة، فتجد الثورة السورية نفسها في طريق مسدود بعد أن رُفضت كل خيارات المقاومة لصالح التدخل الأجنبي. أو أن تنجح جهودهم في إسقاط النظام بتدخل خارجي، وعندها فأكثر ما يخشاه أن نجد نفسنا أمام وضع تنجح فيه العملية ويموت المريض.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى