صفحات سوريةعلي العبدالله

المعارضة السورية.. خطوط متداخلة وأخرى متعارضة

                                            علي العبدالله

بين الثورة والمعارضة السوريتين هوة غير قابلة للجسر، فالثورة تدفع الدم، والشعب يقدم التضحيات الجسام، والمعارضة السياسية تبدد الوقت وتصرف من نجاحات الثوار على معاركها الصغيرة والرديئة.

لم ؟ لأنها تفتقر إلى الحس الإستراتيجي، وتعمل وفق تكتكات وعنعنات، ناهيك عن افتقارها إلى شخصيات تمتلك حس القيادة من خيال، وجرأة تقتحم المشهد بأفكار وخطط تحدث نقلة في المعارضة والثورة على حد سواء.

لم تكتف المعارضة السورية بالقفز إلى عربة “قيادة” الثورة، بل بدأت بالاشتباك مع بعضها بعضاً من الخطوة الأولى لتحركها بالتوازي مع انطلاق الثورة الشعبية على خلفية تشكيل “هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي” أولا، ثم “المجلس الوطني السوري” تالياً. فقد قفزت أساليبها القديمة في التعاطي مع الاستحقاقات إلى السطح، كاشفة عن غياب فاضح لحس اللحظة، والقدرة على التكيف مع المتغيرات، قبل أن تنفجر قضايا خلافية أكبر، تعكس مواقف الأطراف من الثورة والنظام، وتكتيك وإستراتيجية المواجهة.

أول هذه القضايا قضية التدخل الخارجي التي طفت على السطح منذ اللحظة الأولى لتأسيس المجلس الوطني السوري 2/10/2011 حيث انبرت “هيئة التنسيق” للتشنيع على المجلس بدعوى تبنيه للتدخل العسكري الخارجي، وراحت تتوسع بشرح مخاطر هذا التدخل: ضرب الدفاعات الجوية، تدمير الجيش الذي دفع الشعب من قوته للصرف على تشكيله وتسليحه، واعتبار مجرد المطالبة بالتدخل الخارجي موافقة على ضرب الدولة التي “أمضينا سبعين سنة حتى ثبتناها”، على حد تعبير عضو مكتب تنفيذي للهيئة، فرض الهيمنة والتبعية من جديد… إلى آخر المعزوفة.

واللافت أن الحديث -من أوله إلى آخره- مختلق فلا “المجلس الوطني” تبنى التدخل العسكري الخارجي، ولا دعا إليه، بل لقد رفضه في بيانه التأسيسي. استمر هذا الاتهام يطارد المجلس الوطني حتى غدا كعب آخيل بالنسبة له. وقد حصل نقّاد المجلس على نقاط استناد لنقدهم هذا عندما تبنى بعض قادته شعارات المتظاهرين المطالبة بالحظر الجوي والمنطقة الآمنة، مع أنه موقف شخصي للقائلين به، لأنه لم يتحول إلى موقف رسمي للمجلس، باستثناء الدعوة لحماية المدنيين وما تنطوي عليه من احتمالات من بينها تدخل عسكري.

ثاني هذه القضايا قضية “إسقاط النظام” التي أثارها موقف “هيئة التنسيق” بصيغته الملتبسة: “إسقاط النظام الأمني الاستبدادي الفاسد” كما أعلنها مؤتمرها الأول في حلبون 15/9/2011. كان هدف إسقاط النظام قد غدا أسّ مطالب التظاهرات، دون ان يُشفع بمحددات وحدود، لكنه أُخذ على عمومه في ضوء ما حصل في ثورات الربيع العربي الأخرى، وقد شكلت صيغة الـ”هيئة” الملتبسة تحديدا صادما للثوار، حيث شاعت قراءة تقول إنها تنطوي على إبقاء بشار الأسد في السلطة، وتستثني بعض مكونات النظام، قبل أن تأتي صيغة المجلس الوطني السوري المحددة والمباشرة والتي تنسجم مع المزاج العام للثوار: إسقاط النظام بكل مرتكزاته، لتثير الكثير من النقد لصيغة الـ”هيئة”، وتلقي ظلالا من الشك على إخلاصها للثورة، وتضرب صدقيتها بالكامل. لقد غدت مسألة إسقاط النظام معياراً للموقف من الثورة، ومصفاة لفرز القوى والمواقف، وقد نالت صيغة المجلس الوطني السوري رضى الثوار وأعطته مكانة لديهم.

وثالث هذه القضايا قضية السلمية والعسكرة، حيث قاد قمع النظام الوحشي للتظاهرات السلمية، والعقاب الجماعي الذي اعتمده لضرب الحاضنة الاجتماعية للثورة قبل أن ينتقل إلى سياسة الإبادة الجماعية والأرض المحروقة، إلى بروز ظاهرة الكفر بالسلمية والدعوة إلى التسلح والرد على السلاح بالسلاح، وهذا فجر نقاشات حادة داخل الحراك الثوري، وبين أطراف المعارضة حيث اعتبر البعض السلمية خيارا وحيدا ونهائيا، وجمع البعض بين السلمية والتسلح وأبقاه في إطار الدفاع عن النفس، واعتبر البعض التسلح خيارا وحيدا ونهائيا، لأن النظام لا يفهم غير لغة القوة.

وطرح كل طرف مبرراته وأسبابه، غير أن السجال حول هذه القضية لم يطل، لأن بدء عمليات الانشقاق عن الجيش نقل السجال إلى صعيد آخر، وإن كان لا يبعد كثيرا عن موضوعي السلمية والتسلح الموقف من الجيش السوري الحر، فقد أدى اعتماد النظام -بعد فشله في هزيمة الثورة بالاعتماد على المخابرات والشبيحة- الحل العسكري، وزج الجيش في المواجهة مع المتظاهرين المنادين بالحرية إلى بروز ظاهرة الانشقاق عن الجيش، من طرف جنود وضباط وضباط صف لاعتبار أخلاقي إنساني أو أهلي، وقد تزايد عدد المنشقين بالتوازي مع تصاعد القمع الوحشي، وتطور أساليب وأدوات القتل.

مع تزايد عدد المنشقين وانتقالهم من الهروب من الجيش لتحاشي قتل المتظاهرين، إلى الدفاع عن أنفسهم (لان النظام لم يكتف بملاحقتهم ومعاقبتهم لفرارهم من الخدمة، بل قرر قتلهم في إعدامات ميدانية دون محاكمة) وعن التظاهرات بمرافقتها وصد هجمات المخابرات والشبيحة عليها، طرحت الضرورة الموضوعية تحولهم إلى كتائب منظمة، فتشكلت أولى الكتائب تحت اسم “الجيش السوري الحر” أو “الجيش الحر”، والتي لعب المقدم المنشق حسين هرموش دورا فاعلا في تشكيلها عبر تشكيله “حركة الضباط الأحرار” التي تطورت إلى الجيش الحر.

طرح تشكيل كتائب الجيش السوري الحر -ومعظمهم من المدنيين الذين دفعتهم وحشية النظام إلى تبني خيار المواجهة المسلحة مع عدد محدود من الضباط وضباط الصف والجنود- بعدا إضافيا على قضايا الخلاف التي تخترق المعارضة السورية، خاصة بعد نجاح الجيش الحر في حماية التظاهرات، وإعطاء المتظاهرين إحساسا بالأمان والثقة في النفس، وتحوله إلى قبلة المتظاهرين ومحط آمالهم ووصفة سحرية لنجاحهم وانتصارهم المؤزر، ولكنه غدا مادة للسجال والانقسام بين من رأى فيه جزءا لا يتجزأ من قوى الثورة، ورافعة رئيسة في الصراع مع النظام القاتل، ودعا إلى توظيف قدراته في خدمة الثورة وأهدافها السياسية، ومن رأى فيه منافسا للحراك السلمي في استقطاب المواطنين، وتبديل طبيعة الثورة، وجرها إلى العسكرة ومخاطرها الكبيرة، ودعا إلى الاعتراف به كأمر واقع، والتعامل معه بحذر، وضبط تحركه للتخفيف من سلبيات البعد العسكري الذي يمثله، وتحديد عقيدته العسكرية، على أن تكون دفاعية بحتة، ومهمته حماية الذات وحماية المدنيين، والدعوة إلى العمل من أجل استعادة الوجه السلمي للثورة.

لم يقف الخلاف بين أطراف المعارضة حول الموقف من الجيش الحر عند حدود السجال على منطلقات مبدئية، بل تصاعد وتعقد في ضوء توسع ظاهرة الانشقاق، وتحول العمل المسلح إلى نقطة الارتكاز الرئيسة في الثورة، والمعول عليها في هزيمة النظام، تحولت التظاهرات السلمية إلى فعل مكمل. ونجاح “الحر” في تحقيق انتصارات في مواجهاته مع المخابرات والشبيحة والجيش النظامي، وإلحاقه خسائر كبيرة بها، وتحريره مناطق شاسعة من البلاد، زاد في تعلق المواطنين به والتعاطي معه باعتباره قصبة الخلاص، فأصبح تبنيه مادة للمزايدات، وتأييده وسيلة لكسب الشعبية، وهذا اضطر أطراف المعارضة التي وقفت منه مواقف مشككة أو حذرة (هيئة التنسيق) إلى العودة عن ذلك والتحول إلى موقف نقيض، موقف مؤيد ومادح.

أما القضية التي نالت النصيب الأكبر من الأخذ والرد، واستهلكت جهودا كبيرة، ووقتا طويلا فقضية وحدة المعارضة في ظل الثورة. ففي الوقت الذي تبنى فيه المجلس الوطني السوري موقفا صارما من وحدة المعارضة، أساسه أنه الجسم الأكبر والذي حصل على اعتراف الثوار ومجموعة دول أصدقاء سوريا، وأن على المكونات الأخرى الدخول فيه على قدم المساواة مع المكونات المؤسسة، فإن هيئة التنسيق قد رفضت الدخول في “المجلس” ودعت إلى تكوين ائتلاف جديد قائم على تقاسم المقاعد مع المجلسين السوري والكردي، ثلث لكل طرف على خلفية تمثيل معارضة الداخل والأحزاب المنضوية تحت رايتها.

المجلس الوطني الكردي طرح مطالب تعجيزية: الفدرالية، الاعتراف الدستوري بالكرد كقومية ثانية، حق تقرير المصير، العلمانية، ثلث مقاعد المجلس الوطني (كرر ذات المطالب مع الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، وأضاف حذف صفة العربية من اسم الدولة لتصبح الجمهورية السورية)، وراوغ خلال مؤتمرات المعارضة التي حضرها في إسطنبول والقاهرة، وافتعل خلافات مع المعارضة العربية كي لا ينضوي لا في “المجلس”، الذي أصدر وثيقة متقدمة بخصوص القضية الكردية، ولا في “الهيئة”، ولا في الائتلاف الوطني.

بعد فشل محاولات جامعة الدول العربية ومجموعة دول أصدقاء سوريا في توحيد المعارضة في جسم واحد، اتجهت إلى توحيد الموقف السياسي فعقدت لذلك مؤتمرا في القاهرة 3/7/2012 شاركت فيه معظم المكونات السياسية والحراك الثوري، وصدرت عنه وثيقتا العهد الوطني والمرحلة الانتقالية، غير أن الاتفاق حولهما لم يصمد طويلا، فقد خرقتهما هيئة التنسيق، والمنبر الديمقراطي بتوقيعهما على نداء روما، وطرح “الهيئة” مبادرة لحل “الأزمة”، وعقدها مؤتمرا وطنيا للإنقاذ في دمشق، لم تلتزم فيهما بمقتضى وثيقتي القاهرة.

أما آخر القضايا التي جرى السجال حولها فقضية الحوار مع النظام في ضوء مبادرة رئيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، فقد انتقدت المبادرةَ أطرافٌ وشخصيات من داخل الائتلاف انتقادا حادا، واعتبرت طرح المبادرة قفزا على محددات تشكيل الائتلاف، دفعت رئيس الائتلاف لتحسين صيغته بوضع شروط تتسق مع محددات الائتلاف المذكورة، قبل أن تضع الهيئة السياسية للائتلاف ضوابط ومحددات قيدت قدرة رئيسه المندفع، لاعتبارات إنسانية كما كرر مرارا، بينما اعتبرت هيئة التنسيق مبادرة الخطيب خطوة صحيحة، تثبت صحة موقفها من قضية الحوار، حيث كانت قبلت الفكرة ودعت لها وفق تصور محدد.

كما دار جدل حول تشكيل حكومة مؤقتة، في ضوء مبادرة الخطيب ووثيقة جنيف التي أعلن أنها أساس صالح للحوار، حيث رفضتها “الهيئة” بالكامل، وثار نقاش حولها داخل المجلس الوطني السوري، وبين مكونات الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، على خلفية المبررات والدوافع والتوقيت، وقد استقر رأي “المجلس” على ضرورة تشكيل الحكومة العتيدة وربطه بمحددات هي:

أ‌- أن تشكل عند التأكد من سقوط النظام.

ب‌- أن تقوم على الأرض المحررة.

ج‌- أن تشكل من قوى الثورة.

د- أن تضمن الاعتراف بها كبديل للنظام.

بينما جادل أعضاء في “الائتلاف” في منطقية موقفه السابق بتشكيلها من شخصيات من خارجه، ودعا بعض أعضائه إلى استبدال الحكومة بسلطة تنفيذية من أعضائه، حتى يبقى الباب مفتوحا للحكومة الانتقالية التي قررتها وثيقة جنيف، ثم عاد إلى الفكرة بقرار من أمانته دون تبرير للقفز إلى التأليف قبل حسم الموقف عبر الحوار، واختار رئيسا للتشكيل، مما دفع رئيسه إلى الاستقالة.

لم تنجح المعارضة السورية في إقامة علاقة عضوية مع المستوى الميداني بعامة، والعسكري بخاصة، كما لم تنجح في التحول إلى قيادة فعلية للثورة، لاعتبارات كثيرة أهمها عدم انخراطها في الثورة، وعدم وجود القسم الأعظم منها على الأرض مع الثوار والمقاتلين، وعجزها عن طرح إستراتيجية سياسية وعسكرية لإدارة الصراع، وعجزها عن توفير احتياجاتها المالية والعسكرية.

صحيح أن ثمة فرقا بين الشرعية والتواجد على الأرض، فالشرعية في حالة الثورة مصدرها موقف قوى وفعاليات الثورة، وهذا مرتبط بحالة رضى وقناعة بالارتباط السياسي والثقة والاقتناع بالتمثيل، مثلا حاز المجلس الوطني على الشرعية وهو ليس على الأرض، لكنه خسرها بسبب عجزه عن حمل مسؤولية قيادة الثورة وتحقيق مطالبها المتحركة. والتواجد على الأرض يسمح بقيام الارتباط والثقة، لكنه ليس شرطا واجبا. المسألة مرتبطة بالاتفاق السياسي والنجاح بإدارة الصراع مع الخصم، وهذا في حالة “الائتلاف” ليس محسوما إلى الآن على الأقل.

فالائتلاف الذي تشكل حديثا ليست لديه خطة عمل واضحة ومحددة لإدارة الصراع، كما لم يقم بدراسة المرحلة التي بلغتها الثورة، وهذه تستدعى نقاشا معمقا داخله ومع قوى وفعاليات الثورة والدول الشقيقة والصديقة الداعمة للثورة، ولم يضع تقديرا للموقف ويحدد -في ضوء هذا التقدير- الخطوة التالية، والتي تشترط للنجاح المعقولية والعملية، أو القابلية للتنفيذ.

الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى