أكرم البنيصفحات مميزة

المعارضة السورية.. وحدة الموقف وتبعثر القوى


أكرم البني

مع اتساع موجة الاحتجاجات والتظاهرات في الشارع السوري واستمرار مواجهتها بالخيار الأمني والعسكري القاتل، يكبر السؤال عن أحوال المعارضة السياسية، أين هي اليوم من دعم الانتفاضة الشعبية الرافضة للواقع القائم؟ وأين دورها في استنباط المهام والآليات المجدية للتقدم نحو إنجاز التغيير الديمقراطي؟ وما هي الأسباب التي تمنعها من توحيد صفوفها وملء الفراغ السياسي ونيل ثقة الناس في هذه اللحظات الحساسة والحاسمة من تاريخ البلاد؟

بداية، وإذا تجاوزنا خصوصية المعارضة السورية المتواجدة في المنافي وبلدان الاغتراب -والتي كانت في أكثريتها جزءاً من معارضة الداخل- فإن هذه الأخيرة التي اصطلح على تسميتها بالمعارضة التقليدية والتي نجحت في الحفاظ على كياناتها برغم حملات القمع والإقصاء والسجون، تتمثل عيانياً في ائتلاف إعلان دمشق للتغير الوطني الديمقراطي الذي يضم طيفاً واسعاً من القوى السياسية العربية والكردية إلى جانب مثقفين ونشطاء سياسيين مستقلين، ثم التجمع الوطني الديمقراطي ويضم مجموعة من الأحزاب القومية واليسارية العربية وبعضها ينضوي في إعلان دمشق، كحزب الشعب وحزب العمال الثوري وحركة الاشتراكيين العرب.

وهناك جماعات تحسب على التيار الإسلامي وغالبية عناصرها من بقايا حركة الإخوان المسلمين المحظورة تحت سيف القانون (49) الذي يقضي بإعدام كل منتسب إليها، فضلاً عن بعض الأحزاب اليسارية والليبرالية الصغيرة وأحزاب كردية مستقلة لم تنخرط في إطار أية تحالفات، ونضيف ما يعرف في سوريا بظاهرة المثقفين والمعارضين المستقلين وهم كثر آثروا حمل هم التغيير الديمقراطي كأفراد أو كمجموعات صغيرة، إما لضعف ثقتهم بدور القوى والتحالفات المعارضة أو تجنباً لردود أفعال السلطة القمعية تجاه النشاط الحزبي المنظم.

إن تنوع القوى السياسية التي تحتل موضوعياً الجسم الرئيس للمعارضة السورية، لا يخفي ضعفها وتبعثرها ودورها المشتت، واستمرار إخفاقها في توحيد صفوفها وإيقاع ممارساتها السياسية، وأنها لا تزال عاجزة، برغم الزخم الشعبي الناهض اليوم، عن التواصل والتفاعل مع القطاعات الاجتماعية المختلفة وبصورة خاصة الأوساط الشبابية صاحبة الريادة في الحراك الراهن وصاحبة المصلحة الأعمق في التغيير الديمقراطي.

ومثل هذا الأمر يرجع إلى سبب مزدوج، فمن جهة إلى نجاح السلطة طيلة عقود في خلق هوة كبيرة بين الناس والسياسة، يصعب ردمها بسرعة، ومن جهة ثانية إلى حضور أزمة من الثقة بين الطيف المعارض وجمهرة المواطنين خلقتها عوامل موضوعية وذاتية متنوعة لم يُصَر إلى معالجتها أو على الأقل التخفيف من أثارها.

صحيح أن سنوات الاستبداد الطويلة والمناخ الأمني الضاغط أضعف قدرة المعارضة السورية على المبادرة وجعلها أسيرة الخوف والتحسب من طرح جديد أفكارها واجتهاداتها السياسية، فبدت بطيئة في قراءة المتغيرات الحاصلة وفي الاستجابة لمطالب الشارع وطموحاته، ويحكم خطابها التلقي وردود الفعل، وصحيح أن معاناتها المريرة في سراديب العمل السري أو في غياهب السجون، تركت آثاراً سلبية على صحة أحوالها وورثتها حزمة من الأمراض أربكت دورها وحدت من فاعليتها.

لكن الصحيح أيضاً، وهنا لا نقصد نشر الغسيل الوسخ، بل الوقوف موقفاً نقدياً يدعو للتجاوز، عند الحديث عن أسباب ذاتية تعود إلى الطبيعة التكوينية للمعارضة السورية فهي خليط غير متجانس ينحدر من منابت سياسية شديدة التنوع، وتستند غالبية تنظيماتها إلى مرجعيات شمولية أو أقرب إلى الشمولية، غابت عنها عملية البناء والتربية الديمقراطية ردحاً طويلاً، بل ولنقل إن معظمها لا يزال عملياً عاجزاً عن التحرر، إن لم نقل متردداً في نفض يده من ثوابت أيديولوجية وفكرية عفا عنها الزمن وغدت تتناقض مع جوهر الفكر الديمقراطي وروحه.

كما لا يزال دوره ضعيفاً في بناء ثقافة الديمقراطية ونشرها، بصفتها مجازاً ثقافة المعارضة والتي يفتقدها المجتمع السوري، مثلما لا تزال في غالبيتها تصوغ مواقفها السياسية والتنظيمية بدلالة الحسابات الأنانية والمصالح الحزبية، والأنكى أن بعضها لا يزال يدعي ملكيته الحق التاريخي في الزعامة والريادة، وربما لا يخجل من استخدام وسائل فوقية وسلطوية إن صح التعبير، يعيبها على غيره، في السيطرة وفي تعامله مع الرأي المختلف.

إن الفراغ الذي خلقه ضعف المعارضة الديمقراطية ودورها شبه المفقود خاصة في التفاعل مع تنامي التحركات الجماهيرية، وفر فسحة مهمة وخلال بضعة أشهر من عمر الانتفاضة الشعبية كي تتقدم أشكال متنوعة من التعبيرات التنظيمية والمبادرات السياسية، فعرفنا عشرات الرسائل والبيانات والمقترحات والمشاريع الوطنية لمعالجة الأزمة الراهنة، وشهدنا عدداً من اللقاءات والاجتماعات التشاورية والمؤتمرات إن خارج سوريا أو داخلها، تضع نصب عينيها الغرض ذاته.

هذا الحراك إذ يدل على حال التبعثر في أداء الفعاليات المعارضة وتشتت إيقاع ممارستها التنظيمية والسياسية، فهو يدل أيضاً على حيوية الحقل السياسي والثقافي السوري وتنامي رغبته في المشاركة واستعداده لتحمل المسؤولية، والأهم أن أي تصفح دقيق أو تمعن فيما عرفناه من المبادرات والوثائق والبيانات والمشاريع والمؤتمرات، يدفع المرء للإقرار بتوافقها السياسي وبتقارب أطروحتاها إلى حد يثير الدهشة، بدءاً بما عرضته بيانات ائتلاف شباب الثورة، أو وثيقة لجان التنسيق المحلية أو برنامج اتحاد تنسيقيات الثورة، أو مواقف لجان التنسيق المستقلة في عدد من المدن، مروراً بما قدمته القوى السياسية التقليدية من أفكار ومهام لمعالجة الأزمة الراهنة ولتوحيد الصفوف، كرؤية إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي ومبادرة الأحزاب الكردية لحل الأزمة الراهنة وبيان هيئة التنسيق الوطني التي دعا لتشكيلها التجمع الوطني الديمقراطي، انتهاء بالرسائل والمبادرات الوطنية التي حملت أسماء مثقفين سوريين أو قدمها رجال أعمال مع بعض المعارضين أو عرضها علماء دين في عدد من المدن السورية وغير ذلك من اجتهادات متنوعة.

والحق يقال، لا يمكن لأحد أن ينكر أن كل هذه المبادرات تتفق جميعها بوضوح على دعم الحراك الشعبي وكل أشكال التظاهرات الاحتجاجات السلمية بما ينسجم مع حاجات هذا الحراك وتجذره، جنباً إلى جنب مع اعتبار الديمقراطية خياراً نهائياً لا رجعة عنه لمعالجة الأزمة الراهنة.

وهي تتفق تالياً، وإن بعبارات وكلمات متنوعة، على أن موضوع وهدف السوريين الآن، هو الانتقال بالبلاد من حالة الاستبداد إلى الديمقراطية، عبر بناء الدولة المدنية الحديثة، المؤسسة على عقد اجتماعي يتجسد في دستور جديد، وفي نظام برلماني، وفي حياة ديمقراطية تكفل التعددية وتداول السلطة، واستقلال القضاء وسيادة القانون، واحترام حقوق الإنسان والالتزام بالشرائع والمواثيق العالمية والأهم احترام حقوق وخصوصية كافة مكونات المجتمع السوري القومية والطائفية والمذهبية على قاعدة المواطنة والحقوق المتساوية، مثلما لا يمكن لأحد أن ينكر إصرار كافة المبادرات على نبذ العنف ورفض الحل الأمني والعسكري، كما تكرار رغباتها في توحيد صفوفها وفي تسريع وتيرة تفكيك الآليات الاستبدادية، وإن تباينت دعواتها، بين تنحية النظام، وبين تشكيل حكومة انتقالية أو المطالبة بإجراء انتخابات حرة.

فضلاً عن اتفاقها على ممارسة الضغط السياسي والإعلامي لسحب الجيش من الشوارع وكف يد الأجهزة الأمنية، وإطلاق سراح كافة المعتقلين، كما إطلاق الحريات العامة، كحرية الرأي والتعبير والنشاط السياسي والتظاهر، دون أن ننسى توافقها على رفض التسعير الطائفي ونبذ الفكر التصفوي والثأري، ورفض كل أشكال الإصلاحات الترقيعية أو الجزئية، التي يحاول النظام من خلالها الالتفاف على الأزمة وتخفيف حدتها.

لكن الوحدة الموضوعية على دعم الحراك الشعبي وعلى هدف التغيير الديمقراطي، برغم تبعثر قوى المعارضة السورية وقدرتها المحدودة في التأثير الملموس على مسارات الأزمة الراهنة، لا يحجب حقيقة دور الاحتجاجات الشعبية الضاغط والحافز لحضور صوت ديمقراطي موحد، وعلى الأقل في خلق روح توافقية تشجع مختلف القوى والفعاليات على تنسيق مواقفها وتوحيد خطابها، إن تجاه الحراك الشعبي باستمرار الوقوف إلى جانب حقوقه ومده بأسباب القوة والدعم، وإن تربوياً بضرب المثل المفقود في الالتزام بالقيم الديمقراطية واحترام التعددية وحق الاختلاف، وتحصين الوعي الشعبي بسلمية الاحتجاجات ومحاصرة الانحرافات التي تسوغ العنف.

ثم وبحكم تركيبتها المتنوعة يمكنها تشكيل صمام آمان لحماية روح التعايش المشترك، ودحض الخطاب التعبوي التفريقي والإقصائي والعدائي، أو سياسياً، بإظهار استعداد صريح لتحمل المسؤولية ومواجهة تفرد السلطة في تقرير مصير البلاد، ما يغذي الأمل في تقديم إجابة شافية على سؤال ملح يشغل بال المجتمع السوري على اختلاف مكوناته حول مستقبله ومستقبل العملية السياسية مع اتساع رقعة الأحداث الراهنة وتطورها، ومع الإصرار على الخيار الأمني والعسكري وتمسك النظام بأنماط سلوكه العتيقة.

وبعبارة أخرى طمأنة الشارع السوري بأن القوى والفعاليات المعارضة على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم وقومياتهم ومشاربهم الأيديولوجية قادرون على التوافق وعلى احترام تنوعهم والاحتكام لقواعد العملية الديمقراطية السلمية وأنه يمكن الوثوق بهم لتجنيب البلاد الاحتمالات الأسوأ ولقطع الطريق على محاولات التهويل أو التخويف بأن البديل هو التفكك والفوضى والحروب الأهلية أو انقضاض الإسلام السياسي المتشدد على السلطة وفرض أجندته على الدولة والمجتمع.

لقد آن الأوان كي تبادر كافة القوى السياسية والفعاليات الشعبية المعارضة لرص صفوفها وتجاوز ما يشوب عملها من تردد وتنافس مرضي ومن حسابات ذاتية ومصالح ضيقة، فاللحظة الراهنة بحاجة إلى جهود الجميع وأدوارهم في سعيهم المشترك للقبض على زمام المبادرة السياسية وتكوين فعل حقيقي ومتكامل، قادر على النماء والتطور حتى إنجاز التغيير الديمقراطي وبناء الدولة المدنية.

وإذ نعترف بأنه لا يزال ثمة ارتباك وتخلف لدى قوى المعارضة في توحيد صفوفها وفي تنسيق جهودها لمتابعة الأحداث بالصورة المطلوبة، نعترف أيضاً بأن ما حصل من متغيرات نوعية في الشارع السوري أثرت بشدة على أحزاب المعارضة التقليدية ورسمت أفقاً جديداً لتطورها ولمستقبلها ولنقل وضعتها في أتون اختيار وفرز بين قوى ستخوض غمار أزمة نمو تظهر فيها العزم على تقديم التضحيات من أجل إنهاء مرحلة الركود والتخلص من العوائق والمثالب التي تعيقها عن ممارسة دورها الحيوي وبين من ستشهد مسار أزمة انحطاط وتفكك تنتهي بها إلى الموت الرحيم.

ثم لنعترف تالياً، بأن الفعاليات التنظيمية التي يفرزها الحراك الشعبي وتظهر على السطح بأشكال وصور متنوعة ربما هي المرشحة أكثر من غيرها لملء الحيز المنوط بدور الرافعة الديمقراطية، فنحن نشهد اليوم واقعاً مختلفاً، يمكننا من الحديث، وبصوت مسموع عن قوى جديدة، بدأت تشكل موضوعيا، برغم حداثة تجربتها وما يعتري دورها من صعوبات، الرد السياسي الطبيعي على واقع الحياة الشمولي الذي عرفته البلاد خلال عقود، وربما لن تتأخر كثيراً في طي صفحة ماض حرم فيه الناس من السياسة والمشاركة، لتأخذ قضيتها بيدها وتقدم خطاباً سياسياً جامعاً يقرن الأقوال بالأفعال ويجعلها الرقم الفاعل في تحديات الراهن السوري ومستقبل تطوره الديمقراطي.

ربما لم يعد هناك متسع من الوقت لمزيد من الانتظار، فكما تقف سوريا اليوم على مفترق طرق حاسم ومصيري، فإن المعارضة السورية تقف بدورها على مفترق طرق حاسم ومصيري، والأمل أن تحمل الأيام القادمة نتائج إيجابية، وتثمر حضوراً واثقاً لمعارضة موحدة تعد بخلاص مشرف للبلاد مما يعترضها من مخاطر وأهوال، وتنقلها عبر برامج واضحة وآليات آمنة نحو الحياة الديمقراطية المنشودة.

الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى