صفحات سوريةعمر قدور

المعارضة وأسئلة نقل السلطة

عمر قدور

مع أن «عقدة الأسد» تحول حتى الآن دون ترجمة مطلب نقل السلطة، غير أن مطالبة الائتلاف بذلك ينبغي أن تضعه أمام استحقاقات المرحلة الانتقالية، سواءً سقط النظام بفعل الحرب الدائرة على الأرض أو بفعل تسوية سياسية، فنقل السلطة ليس مجرد عملية استلام وتسليم تكرس غلبة طرف على آخر. كذلك هو القول بحكومة انتقالية كاملة الصلاحيات لا يكفي، فهذه أيضاً عبارة مطاطة ولا ترتكز إلى أسس قانونية وفق الدستور المعمول به حالياً، وحتى إن تم ترحيل صلاحيات الرئيس الواسعة إلى الحكومة المفترضة فذلك سيجعل الأخيرة تحتكر كل السلطات بلا سند قانوني تسترشد به، أو سند قانوني ينظم عملها ويحدّ من التجاوزات التي قد تحدث.

تجزم المعارضة وغالبـية السـوريين بأن لا مسـتقبل لهـذا النظام، ولـعل جـزءاً كبيراً من الخلافات المـستفحلة بينهم يتعلق أسـاساً بغموض التصورات المستقبلية والتخوفات المرافقة له. أما الصراعات الدائرة في صفوف المعارضة فيرجع بعضها إلى الخلاف حول المرحلة الانتقالية، إدراكاً من الجميع لحساسيتها ودلالتها لمـستقبل البلاد، وبما أن أي جهة لم تتقدم بتصور متكامل حولها تبقى الصراعات والمخاوف في حيز التكهنات والمواقف المسـبقة، وربما الاتهامات التي يكيـلها كل طـرف للآخـر. علـى سـبيل المثال، يقبل قــسم من الـمعـارضة بمــشاركة النـظام، ظـناً مـنه أن هذه المـشاركة تـمنـع القـسـم الآخر من الاسـتفراد بالسلطة، بينما يتوقف خصوم القسم الأول عند مطلب إسقـاط النظام بكامل رموزه وأركانه، من دون تقديم تفسـير عملي لمطلبهم هذا.

كان ثمة وقت، وربما لا يزال هناك المتسع منه، أمام المجلس الوطني ومن بعده الائتلاف، لأنهما نالا شرعية تمثيل الثورة خارجياً على التوالي، ليتداركا التقصير الحاصل ويضعا تصورات ذات قيمة سياسية حقيقية للمرحلة الانتقالية. لا تكفي على هذا الصعيد، كما بيّنت الأحداث، تلك المبادئ العامة أو مدونة حسن النيات التي أطلقها المجلس في ما مضى ورمت تحديداً إلى طمأنة «الأقليات»، شأنها شأن وثيقة العهد التي أصدرها «الإخوان» حينذاك. فقد كان مفهوماً وقتها أن الوثيقتين صدرتا بنصائح دولية، ما يُفقدهما قيمتهما وأثرهما الفعلي على الداخل، فضلاً عن عدم تحولهما إلى خطاب سياسي وطني مستدام.

في المجلس، كما في الائتلاف لاحقاً، يوجد مكتب قانوني، وأغلب الظن أن وظيفتهما تنحصر في متابعة وضع الهيكليتين بصفتهما الاعتبارية، مع متابعة انتهاكات النظام، المهمة التي تقوم بها على أحسن وجه هيئات الثورة ومنظماتها الحقوقية. هذا حدّ أدنى لا يصل أبداً إلى المتطلبات الوطنية العامة، ولا يتصدى للاستحقاقات الناجمة عن سقوط النظام. فحتى الآن لم يعلن الائتلاف رؤية سياسية مفصلة في ما يخص اليوم التالي واليوم الذي يليه، ولم يكلف مكتبه الحقوقي بإعداد الاستشارات القانونية اللازمة للشعارات السياسية التي يطلقها أعضاؤه، لذلك لا يُعرف أي مشروع لتحول السلطة سيطرحه على طاولة المفاوضات في جنيف. قبل ذلك، وبصرف النظر عن جنيف، لا مشروع مطروحاً أمام السوريين أنفسهم.

هي ثلاثة استحقاقات تضع أسئلتها اليوم أمام أي هيئة تدعي تمـثيـلها للثـورة، أو حتـى تتجـاوز لحـظة الـتمـثيل الثوري باتجاه المسـألة الوطـنـية عموماً، وقد تكون محـكـاً سيـاسياً حقـيقـياً بـخـلاف الظهور الإعلامي الذي أدمنه كـثـيـرون على حـساب العـمل الســياسـي المفــترض. المرحلة الانتقالية والعدالة الانـتقـالية وسـورية المسـتـقبل، ثـلاث قضـايا لـم يـعد التأجيل فيها مبـرراً، ومـن الأجـدى تكـريس جهـد مـعتبر لدرسـها سـريعاً تفادياً للفراغ أو الفوضى اللذين رأيناهما في تجارب سابقة لبعض دول الربيع العربي، مع أن الوضع السـوري يبدو أكثر تعقيداً لجهة تشابهه مع النظام العراقي السابق والفراغ والفوضى اللذين أعقبا سقوطه.

تحتاج سورية المستقبل مبادئ فوق دستورية يتم التوافق عليها منذ الآن، ولعل مواثيق حقوق الإنسان المعتمدة من الأمم المتحدة تشكل أرضية مناسبة جداً للبناء عليها، وهذه المرة بلا تحفظات تكون مدخلاً إلى الاستبداد تحت زعم الخصوصية الثقافية، كما فعل النظام. العبرة هنا هي في تحويل الحرية إلى حق مستدام غير قابل للنقض بموجب أي قانون محلي، أي في ترجمة الشعار الذي انتفض من أجله السوريون من أجل جميع السوريين بلا تمييز أو استثناء على صعيد الدين أو العرق أو المذهب.

أما المرحلة الانتقالية فلها في سورية حساسية خاصة، إذ لا يمكن تكريس مفهوم الغلبة بسبب خريطة التوزع السياسي، الطائفي تحديداً، الأمر الذي يتطلب مشاركة الجميع على أرضية تمثيلية صحيحة، ويتطلب أيضاً تهيئة المبادئ الدستورية الموقتة التي تتيح تمكين الجميع من اختيار ممثليهم الحقيقيين، بمن فيهم أولئك الذين يتمسكون الآن بشخصيات من النـظام لعـدم قـدرتهم على اختيار البديل. لا ننسى عدم وجود أرضية دستورية ملائمة للمرحلة الانتقالية في النظام الحالي، والأهم أن تلك المرحلة ستكون تأسيسية على هذا المستوى من أجل المستقبل.

العدالة الانتقالية قضية لا تقل صعوبة وأهمية، إذ لا يخفى أن جانباً من الصراع في سورية يأخذ طابع حرب شبه أهلية، وإن لم تتـحول بعـد إلى حرب أهلـية طائفية. هذا يستدعي وضع أســس للمساءلة والمصالحة معـاً، بحيث تُعتمد قواعد عامـة لمـعالجة شــتى أصـناف الانـتهـاكات، من أي طرف أتت. ومـن المـستـحسن الاستئناس بالقوانين والتجارب الدولية، لئلا تأخذ العدالة مجرى القصاص وحده، وقد يكون ضرورياً منذ الآن وضع تصورات أولية على الأقل لمحكمة خاصة بالجرائم التي ارتكبت أيام النظام، غايتها الأولى فضح الجرائم والحيلولة دون تكرارها.

لا نغالي عندما نطالب المعارضة بمشروع سياسي مشفوع بالمطالعات والاجتهادات الدستورية والقانونية، الوقت كان متاحاً أمامها ولا يزال، الخبرات الحقوقية المحلية متوافرة، ولا بأس باستشارة حقوقيين دوليين عند اللزوم. بل إن مشروعاً متكاملاً من هذا القبيل ربما يكون الرد الأنسب على تحذيرات النظام من الفوضى بعده، مثلما يكون الرد الأنسب على الذرائع التي باتت تطعن في أهلية المعارضة من كل صوب.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى