أكرم البنيصفحات سورية

المعارضون التقليديون والدور المرتقب سوريّاً


أكرم البني *

كشفت حمّى الدعوات لتشكيل حكومة انتقالية حجم الأمراض والسلبيات التي لا تزال تعتمل في المشهد السوري المعارض… ولوهلة بدا الأمر وللأسف كأن ثمة تسابقاً للحصول على منصب وأن هناك كعكة يراد تقسيمها ومراكز وامتيازات يتم توزيعها.

وهنا لم يعد يجدي نفعاً لتبرير بشاعة هذا المشهد التذكير بما عانته الأحزاب المعارضة طيلة عقود من جور السلطة وظلمها، أو بتصحر الحياة السياسية ونجاح القمع في تفتيت المجتمع وقتل روح الايثار فيه، كما لا يشفع لها القول إن الثورة أخذتها على حين غرة ووضعتها أمام امتحان مفاجئ في قيادة حراك شعبي واسع يطالب بالتغيير الجذري، كما لا يخفف عنها القول بأن ليس لديها ما تفعله سياسياً في مواجهة سيادة منطق العنف، وأن خياراتها في الشروط القائمة محدودة جداً، حيث يسد النظام كل طرق المعالجة السياسية، ويستمر تواطؤ المجتمع الدولي مخيباً آمال المراهنين على دور حاسم له.

لقد استبشر الناس خيراً حين أقرت غالبية قوى المعارضة السورية وبرعاية الجامعة العربية وثيقتي «العهد الوطني» و «خطة الطريق للمرحلة الانتقالية»، وكان الرهان أن يشكل ذلك منعطفاً وحافزاً لرص صفوف المعارضة وتوحيد خطابها، وتمكينها من دورها التاريخي في سد الفراغ السياسي، والتفاعل مع الثورة الشعبية المطالبة بالحرية ومدّها بكل أسباب الاستمرار والدعم، لكن لم يمر زمن طويل حتى عادت حليمة الى سيرتها القديمة وبدأنا نسمع إعلانات من هنا ومبادرات من هناك، للالتفاف على هاتين الوثيقتين والتحرر منهما، لتؤكد هذه الممارسات، حقيقة ان المعارضة التقليدية وبكل اطيافها لم ترق إلى مستوى التحديات والمسؤوليات الملقاة على عاتقها، وأنها لا تزال تدور في حلقة مفرغة، عاجزة عن معالجة مواطن الخلل في تشتتها وتبعثر جهودها، في إشارة الى حالات التنافس المرضي والمؤذي بين أهم أطرافها، والى من تحكم سلوكه المصالح الحزبية الضيقة، أو من لا يزال يدّعي ملكيته للحق التاريخي في الزعامة، فيحاول مرة التلويح بسيف تضحيات الشارع والاستقواء بها لفرض رأيه، ولا يخجل مرة من استخدام وسائل متخلفة يعيبها على غيره في السيطرة ومحاصرة الآخر المختلف.

وإذ نعترف بأن الحراك الثوري خلق في تفجره شروطاً للعمل السياسي لم تكن المعارضة التقليدية لتحلم بها، وكان وراء نقلها من خانة اليأس والإحباط إلى حيوية المشهد السياسي والإعلامي، فذلك لم يمكّنها من مواكبة ثورة الناس، بل بدت على طول الخط كأنها خلفهم مكتفية بملاحقة مبادراتهم والتغني بشجاعتهم وباستعدادهم الفريد لتقديم التضحيات، عاجزة عن إيجاد طرائق للتواصل والتفاعل معهم، أو على الأقل كسب ثقتهم، ومخفقة في أن تكون تكثيفاً سياسياً وأخلاقياً لما في هذه الثورة من حيوية، ومنها التعامل الشفاف والجريء مع ما يظهر من سلبيات وتجاوزات، ووضع آليات تصحيح وحماية لها.

وطبعاً لا يمكن المعارضة أن تعالج هذه الثغرة وتنجح في نيل ثقة الناس ودعمهم ما لم تنجح في إظهار نفسها طرفاً متميزاً، يشكل قدوة ومثلاً يحتذى في الحضور في ساحات الصراع وتقديم المبادرات بوتيرة سريعة لتلبية مطالب الحراك الشعبي وتغذيته بالتوجهات والخبرات السياسية والمعرفية، والأهم تقديم إجابات شافية عن أسئلة ملحّة تشغل بال الناس حول سياق عملية التغيير وشروطها وما يكتنفها من منزلقات ضمن خصوصية المجتمع السوري بتعدديته وحساسية موقعه الاقليمي والعالمي.

وبلا شك، لا نستطيع القول إن العمل المعارض لم يحرز تقدماً ملموساً على صعيد إثارة قضايا الثورة السورية ومعاناتها في المحافل العربية والدولية، أو لم ينجح في جهوده الاعلامية المساندة للثورة، بخاصة احتلال بعض المعارضين حيزاً كبيراً من المشهد الاعلامي لدعم التغيير وإدانة العنف المفرط وتفنيد أكاذيب الاعلام الرسمي وادعاءاته عن مؤامرة خارجية وعصابات مسلحة، لكن مثل هذه الجهود لا تكفي أمام تصاعد الفتك والتنكيل والأثمان الباهظة التي يتكبدها الناس يومياً، بل إن حالة العجز عن الحسم العسكري والصعوبة في تسجيل نتائج سياسية على الأرض تضعان الثورة أمام تحدٍ قديم وجديد، هو كسب الرأي العام الصامت، كشرط لحسم الصراع، والأمر لن يتحقق إلا عبر فضح أوهام النظام بشأن قدرته على الاستمرار بالعنف، وطمأنة المجتمع السوري وقطاعاته المترددة إلى المستقبل.

والحال، لـــن تنمو الثــــقة بالتغيير في الخصوصية السورية، ويشتد عود الثــــورة وترسخ أقدامها في الأرض وتُصان من الانزلاق إلى مزيد من العنف وإلى صراعات متخلفة تحرفها عن أهدافها، إذا لم تتوسع دائرة انتشــــارها وتزداد نسبة المشاركين فيها وتكسب المزيد من فئات المجتمع، وما يعزز هذا الكسب تطلع المعارضة كي تثبت للجميع، أنها على اختلاف فئاتها ومذاهبها وطوائفها وقومياتها ومشاربها الإيديولوجية قادرة على التوافق وعلى احترام تنوعها والاحتكام الى قواعد العملية الديموقراطية السلمية، وأنه يمكن الوثوق بها لتجنيب البلاد احتمالات الفوضى والصراع الأهلي.تستحق المرحلة الحساسة التي تمر الثورة بها ليس مخاطبة الوعي فقط وإنما أيضاً التشديد على المناشدة الأخلاقية، مناشدة المعارضة على اختلاف فصائلها بمراجعة سياساتها ومراقبة أفعالها بصورة حازمة، وبأن تبدي أعلى درجات الايثار والاستعداد للتسامح والتعاون والتكافل، وتجالد للظهور بصورة تنسجم مع شعارات التغيير والحرية والمساواة التي ترفعها، واضعة في الحسبان أن الشارع يراقبها بدقة وانتباه، ويُخضع مواقفها وسلوكها لمحاكمة وتقويم فوريين!

لا يضير المعارضة السورية ما فعله بها الماضي القمعي أو أن تكوّن أحزاباً وتجمعات لها وجهات نظر متعددة وبرامج متنوعة، لكن يضيرها ويعيبها ألا تستطيع معالجة أمراضها وبخاصة عجزها المزمن عن الاتفاق، بعد عام ونصف عام من عمر الثورة، على الأهداف العامة المتعلقة بتغيير النظام وسمات المرحلة الانتقالية لإرساء الديموقراطية، وألا تصب كل جهودها في مهمة بسيطة لا تقبل التأجيل هي تمكين الثورة وتصويب مسارها.

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى