راتب شعبوصفحات مميزة

المعارضون السوريون على الـ”فايسبوك”/ راتب شعبو

 

 

وفرت صفحات الـ”فايسبوك” فرصة جيدة لرؤية خطوط الانقسام الناعمة، التي تطورت دائماً في اتجاه الخشونة، بين ناشطي المعارضة السورية الـ”فايسبوكيين” غير الإسلاميين، وفرصة لمتابعة الارتكاسات المتبادلة بين هؤلاء الناشطين خلال زمن الثورة. كانت صفحات الـ”فايسبوك” خلال ما يقارب من أربع سنوات على انطلاق الثورة السورية “ساحة” صراع أيضاً، لها أسلحتها الخاصة وجنرالاتها وجنودها، وأحياناً انتحاريوها. مع مرور الزمن الذي حمل في غضونه مسيرة التحول العسكري، ثم مسيرة سيطرة الإسلام السياسي، فسيطرة الإسلام السياسي الجهادي و”القاعدي”، في سياق ابتعد بالثورة السورية عن معناها وعمقها التحرري، كان الـ”فايسبوك” مرآة للتشتت والتشنج والاتهامات والأفكار الجحيمية وصولاً إلى التخوين المتبادل بين مَن يفترض أنهم على ضفة واحدة، الأمر الذي لم نلحظه على ضفة الموالاة. ففي حين مثّل التحول الإسلامي المتزايد وصولاً إلى “داعش” وفظائعها، عاملاً في رصّ الصف الموالي، لم تشكّل فظائع النظام وقمعه المعمم واستهدافه كل الطيف المعارض، السلمي منه قبل المسلح، عامل توحيد ورصّ صفوف على ضفة المعارضة التي تبارى أفرادها في أكل لحم بعضهم البعض نيئاً على صفحات الـ”فايسبوك”. حتى يمكن المرء أن يشك في أن نشطاء المعارضة الـ”فايسبوكيين” هؤلاء استهلكوا من الطاقة في معاركهم البينية “غير الفكرية”، ما لا يقل عما استهلكوا في معركتهم الـ”فايسبوكية” مع النظام. لماذا تفجرت كل هذه الحساسية بين المعارضين الـ”فايسبوكيين” ولم تتفجر بين الموالين؟ سؤال يحتاج إلى بحث، وربما يكمن الجواب، مبدئياً، في وجود مركز مستقر للمؤيدين هو هرمية النظام، وغيابه لدى المعارضة.

انقسم المعارضون السوريون “فايسبوكياً” على كل شيء. دارت معارك “فايسبوكية” ضارية حول موضوع سلمية الثورة والموقف من حوادث العنف التي تخللت الثورة، وكان أشدها حول مجزرة جسر الشغور في الأشهر الأولى من الثورة (حزيران 2011)، ثم حول الموقف من التحول العسكري ونشوء “الجيش السوري الحر” (تموز- آب 2011). كما دارت معارك حول الموقف من الإسلام السياسي ونسخته “القاعدية”، ومعارك أشد فتكاً، حول موضوع الطائفية. في هذه المعارك، تجلّت ممارسة الاتهام الطائفي بشهية ظاهرة ذات طابع “إيروتيكي”، كتفريغ لشحنة عداء، وكنوع من ممارسة القتل المعنوي للخصم. كما ظهر في هذا الميدان انتحاريون بكل معنى الكلمة. “مثقفون” جاهزون للتضحية بتاريخهم الثقافي وجاهزون لتفخيخ ضمائرهم كما يفخخ “الجهادي” وسطه بالأحزمة الناسفة، من خلال تبني لغة طائفية صريحة إلى حدود العنصرية. إلى هذا ارتسمت خطوط تماس بين المعارضين حول المتغيرات السياسة. الموقف من “المجلس الوطني” ثم “الائتلاف” ثم مؤتمر جنيف …الخ. في كل هذه المعارك يمكن للمرء أن يلاحظ: أن الغالب في هذه المواجهات، أولاً، هو الحدة في الردود وغياب أي تأثير متبادل بين “المتحاورين”، بمعنى امتلاء كل طرف بيقينه الخاص وانغلاقه على اقتناعاته، ما يغلق الباب أمام التفاعل ويفتح الباب لإصدار الأحكام القيمية “القاتلة”. ولم يكن التوتر العالي مقتصراً على “الحوارات”، بل تعدّاه إلى “إعدام” كل شخصية عامة يكون مستوى موقفها من الثورة أقل من التأييد المطلق. كانت بداهة الحق الذي قام له السوريون هي التفسير الأرجح لانعدام المرونة وضيق الصدر، لكن يبقى من المحيّر أن تستمر هذه الظاهرة بعد انقضاء ما يقرب من 4 سنوات، مع ما تتضمن من خيبات وتغيرات طالت معنى الثورة نفسه.

الغالب، ثانياً، بروز ظاهرة الشللية التي تؤمّن دفاعات أمتن ضد الاختراق. تبدأ الشلة بين أفراد يجمعهم اقتناع مشترك، ومع الوقت تنشأ لدى كل فرد حاجة للشلة كوسيلة دفاع ضد “آخرين”، وهذه الحاجة تجعل الفرد أقل ميلاً للاستقلال والخروج عن مواقف الشلة التي غالباً ما يحددها بصورة مباشرة أو غير مباشرة أشخاص بارزون فيها. يصبح بين افراد الشلة جو مشترك ولغة مشتركة بحيث يمكن أن يقتصر “بوست” الفرد منهم على كلمة واحدة لا تُفهم إلا ضمن جو الشلة (أي أن البوست لا يحوز معناه من الفهم العام بل من جو الشلة، ولا يمكن مَن هو خارج هذا الجو أن يفهمه). على هذا، برزت ظاهرة صراع الشلل المعارضة التي تنصرف إلى التحقير الصريح أو السخرية من أفراد الشلة الأخرى. هذا النوع من الصراع سمّم الـ”فايسبوك” في عمومه وترك أثره في مجمل رواده. لم تكن هذه الظاهرة جزءاً من الثورة بحال، إلا كما يكون الورم جزءاً من الجسم. وهذه الظاهرة هي امتداد “فايسبوكي” لظاهرة الشللية السياسية التي تكرست في الشارع السياسي السوري منذ زمن بعيد، وانغمست فيها شخصيات كان يمكنها ربما، لولا هذه العقلية، أن تتحول إلى شخصيات وطنية جامعة تفتقدها سوريا بكل أسف.

والغالب، ثالثاً، تضخم الذات على الرغم من انعدام الفاعلية والتأثير. لم يكن لناشطي الـ”فايسبوك” تأثير يذكر في مجريات الثورة، وزاد انعدام التأثير هذا مع الزيادة الطبيعية في الاعتماد على الخارج. العجز حتى عن تحديد اسم الجمعة المقبلة، والانسياق وراء مجريات الواقع، ولكن مع شعور ظاهر بالعظمة.

أما اللافت الأبرز، رابعاً، فهو ظهور جماعات تربط نفسها بالثورة وتتحدث باسمها بالآلية التي يربط بها الجهاديون نفسهم بالله ويتحدثون باسمه. وكما أن التشدد وسيف التكفير هو سلاح الأخيرين، فإن الأولين مارسوا دور “أهل الثورة” وتولوا مهمة الدفاع عن الثورة بطريقة دفاع “أهل النظام” عن النظام (عمّال على بطّال، حسب تعبير مصري)، مسلّحين بسيف “التخوين”، لا حصانة منه لأحد (هذا هو السلاح الذي خرج ذات يوم من العالم الافتراضي إلى العالم الواقعي وقام بـ”غزوة البيض” الشهيرة في القاهرة). كان الظرف العام يسمح ببروز مثل هذه الظاهرة، نظام رهيب في قمعه، وثورة مدهشة في إقدامها، غير أن بروز هؤلاء ساهم في جعل الـ”فايسبوك” مكاناً قلقاً لغير المتسقين، على خلاف ما يتوقعه المرء في أزمنة الثورة.

النهار

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى